قراءات نقدية

طالب عمران: الوحدة العضوية للصورة الشعرية في قصائد الشاعر جنان السعدي

تطورت القصيدة المعاصرة تطورا ملحوظاً، ولعل أهم سمات ذلك التطور هو بناؤها المتميز، وكما هو معروف ان اساليب بناء الصورة الكلية تنوعت وتعددت لعل ابرز تلك الاساليب والتي كان هدفها الرئيس هو تحقيق الوحدة الموضوعية للصورة: القصصي، الدرامي، الرمزي، الاسطوري، الدائري، والمكثف .بين يدي بعض مجاميع الشاعر جنان السعدي حيث احاول ان اقف عند بناءه للصورة الكلية:

بناء القصصي:

استهل مجموعته الشعرية  (بين عامين)1 قصيدة بعنوان (تلك امرأة لن تتكرر) حيث يتبين كيف بنى الشاعر قصيدته بأسلوب قصصي سردي

زهرة الكاردينيا التي قطفتها البارحة َ

تشبه امرأةً ساحرةً

عرفتها منذُ صباي

استفاد الشاعر من ذلك الاسلوب تقنية الارتداد محلولا ان يجسد رؤيته وأفكاره وتجربته كما يبرز الارتداد في مقطع لنفس القصيدة

قلبتُ أوراقَ ذاكرتي

ورقة ً ورقة

رأيت جمعاً من النساء

يرقصنَ .. يضحكنَ .. يبكينَ

سمرٌ وشقراوات

إنصهرن في واحدة

بالكاد أضحت تشبهها

وهي ارتدادات تحاول أن تجسد التجربة وتربطها بالماضي المخزون في الذاكرة، ليصل بنا الى النهاية التي تمثل اللحظة الراهنة التي بدأ منها .

لم يقتصر بناء الصورة الكلية بالأسلوب القصصي  على تجربة الشاعر في هذه القصيدة بل نراه في قصائد اخرى من مجموعته (بين عامين ) كما في قصيدة (الريل ينعى حمد) حيث نراه جلياً من عتبة العنوان التي توحي الى القص وان هناك ثمة حكاية:

كثيراً ما يكذب الموت ويهزم

فقد هزمه الحسين حين داست أضلاعه ُ خيول التتار المؤسلمة

وكذِبَ حين ادّعى موت الجواهري والنّواب

سرق أجسادهم بخفّةِ لصٍّ محترفٍ

وهذا حقٌ خلدتهُ مسيرةُ آدم

لكن الريلَ وحمد لم يمتْ

فالشاعر يتأمل ويقارن بأسلوب قصصي، نرى فيه الاحداث تنمو في داخل الصورة الكلية الى نهاية القصيدة في جميع مقاطعها تتعاضد في بناء الصورة ابتداء من المقطع الاول حتى المقطع الاخير الذي يقول الشاعر فيه:

كم جمعنا ملح دموع النواب

وجمعنا زهور حديقته دواوين

فكانت تراثاً.. وكانت وطناً

البناء الدرامي:

من اهم الاساليب التي استخدمه الشاعر لإقامة صوره هو الاسلوب الدرامي الذي يعد من اهم سماته الحوار الذي هو شكل من أشكال الصراع فالحوار انواع في داخل القصيدة قد يكون الحوار بين شخصيتين وقد يكون الحوار داخلي عبر منولوج يكون بين الشاعر ونفسه وهي محاولة منه في تحقيق الوحدة العضوية للصورة الكلية واعطائها مزيدا من الحيوية ولكي ينجح في التعبير عن قيمه الفكرية والعاطفية، ومن الصور الشعرية التي كتبها الشاعر في قصيدة حوار ساخن ص84  مجموعة نرى الشاعر يقيم صورتها على الاسلوب الدرامي ..يقول:

قالت

لي حجاب

مذ بان للجمع جن

كمطلوب للقضاء

بمنديل لففت الشعر

لفا على لف

ان في الشعر  يا هذا

من الاغراء

نار توقد الفتن

قلت مدهوشا

آنستي

قطعة بلور تلك أم لحم ودم

وفي نص له بعنوان (شبل علي) من مجموعته (آخر الشموع)

قالوا يا شبلَ علي

سيوف البغي لا تُعَد

وحكمُ السيفِ لا يطاق

قلت صبراً

النفس والروح للدين فداء

والدمُ والطهورُ للإصلاحِ مُراق

فالشاعر يحاول ان يجسد صورته الشعرية  بأسلوب السرد القصصي والحوار فانه قد استطاع أن يوظف الصورة الجزئية في نمو ذلك الصراع الدرامي وانه ساعدت الشاعر على تركيز الفكرة فضلا عن انها ضمنت الوحدة العضوية للصورة الكلية

البناء الرمزي:

الرمز بالمفهوم المعاصر، يقوم على الايحاء لا الوضوح فقد يلجأ الشعراء الى الرمز للأسباب قد ترجع الشعور بالعجز عن التصريح والخوف، والخوف من التصريح الذي يجر الى التعرض للأذى وقد يكون السبب الحقيقي يكاد ان يكون سببا فنيا، يكمن في رغبة الشاعر في الايجاز والتلميح والايحاء .

ولأهمية الرمز فقد استغله الشاعر جنان السعدي في بناء الكثير من صوره الشعرية   ففي  قصيدة له (إله سومري) من مجموعته الشعرية  (بين عامين) وهي قصيدة تقوم على صورة كلية ذات بناء رمزي:

في جيبي إله سومري

ان جعت لن آكل زنده

فأنا لست من قريش أو فزارة

كل ما في الامر حين أهرب للأمام

بسوط سومري يركلني كي لا أعود

علّمني العوم بمجذافين

قال زُق كالنحلة رحيق الزهور

التحف نور الآلهة

سومر يا شبه إله

أرهقنا الناعور

صرنا ندور

الطريق موحش وعرٌ

بأشواك.. حوافر خيلٍ وصخور

تتميز هذه القصيدة بتوظيف رمزي كثيف يغوص في أعماق التاريخ والحضارة السومرية، ليخرج بقراءات معاصرة تحمل في طياتها الكثير من المعاني والدلالات. يمكننا تحليل هذا التوظيف من خلال عدة محاور:

1. الإله السومري كرمز للهوية والمقاومة:

يشير الشاعر إلى الإله السومري كرمز لهوية ضائعة، يحملها في جيبه ككنز ثمين. هذه الهوية ترمز إلى جذور عميقة تمتد إلى حضارة عريقة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها الكثير من الألم والمعاناة.

المقاومة والصمود: الإله السومري يمثل رمزاً للمقاومة والصمود في وجه الظلم والقهر.

2. سومر كرمز للماضي والحاضر:

يستحضر الشاعر صورًا من الحضارة السومرية، مثل الناعور والآلهة، ليعبر عن حنينه إلى ماضي مجيد.

3. الرمزية الدينية:

تظهر الآلهة السومرية في القصيدة كرمز للقوة والسلطة، ولكنها في الوقت نفسه تحمل في طياتها الكثير من الغموض والتناقض، ويتساءل الشاعر عن معنى الوجود والمعاناة، ويبحث عن إجابات في الديانات القديمة.

4. الرمزية الطبيعية:

يرمز الماء إلى الحياة والخصوبة، في حين يرمز الناعور إلى العمل الشاق والتعب،

وترمز الصحراء إلى الفراغ والوحشة، في حين ترمز الحيوانات إلى القوة والعنف.

5. الرمزية الاجتماعية:

يشير الشاعر إلى الفرق بين قريش وفزارة، ليؤكد على وجود تفاوت اجتماعي منذ القدم.

حيث يصف الشاعر الواقع الذي يعيش فيه بأنه واقع مليء بالظلم والاستبداد، حيث يتم قمع الحريات وفرض الأوامر.

البناء الاسطوري

وكان لأعمال السعدي اهمية كبيرة في الاهتمام بالجانب الاسطوري كون العامل المشترك بين الاسطورة والشعر هو الخيال وفي محاولة اعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر والوصول الى معان جديدة من خلال الاسطورة و ما لها من تأثير في بناء الصورة وما يتناسب مع تجربته الشعرية ما جعل الشاعر يلجأ اليها بوصفها أداة فنية ايحائية نجد هذا البناء في قصيدته (ياهذا ) من مجموعته الشعرية (قوس قزح)

يا هذا

غادرت عشتار بكل قواي

كراهبة بل كصوفية في أعلى كهوف الرغبات

التحف الثعبان كعصا موسى

عسى أن يلتقف ما في الفؤادِ من نبض مُتيـم بهواكَ

عسى أن يُطفىء ناراً تستعر كلّ حينٍ

ارحلْ .....عد

ارحلْ ......عد

حتماً ستعود بكلِ تفاصيلكَ

وتعود كالأمس تمسح تضاريساً كنتَ احتويتها

هي زوبعة في فنجان يغلي

إذ لا مقام لعشتار إلاّ في إيوان كلكامش

البعد الأسطوري في قصيدة "يا هذا"

تتميز قصيدة "يا هذا" بطابع أسطوري قوي، حيث تستدعي الشاعر أساطير سومر وبابل لتشخيص تجربته الإنسانية العميقة. يمكننا رصد هذا البعد الأسطوري من خلال عدة عناصر:

عشتار وكلكامش:

عشتار: تمثل عشتار هنا رمزاً للحب والشهوة والجمال، وهي إلهة بابلية مهمة. اختيار الشاعر لعشتار ليس اعتباطياً، بل هو يحمل دلالات عميقة ترتبط بالصراع الداخلي بين الرغبة والتقوى.

كلكامش: شخصية أسطورية أخرى، يمثل كلكامش البطل الفائق القوة والحكمة. ربط عشتار بكلكامش يعكس رغبة الشاعر في التخلص من عبودية الحب والشهوة والانتقال إلى مستوى أعلى من الوعي.

الرموز الأسطورية:

الثعبان: يرمز الثعبان في العديد من الحضارات إلى الحكمة والمعرفة، ولكنه يرتبط أيضاً بالخطيئة والفساد. في هذه القصيدة، يمثل الثعبان أداة للخلاص من الشهوات.

عصا موسى: إشارة إلى قصة موسى في التوراة، حيث تحولت عصاه إلى ثعبان. هذا الرمز يعزز الفكرة الأسطورية ويضيف عمقاً دلالياً للقصيدة.

يسعى الشاعر إلى إيجاد معنى للحياة، تماماً كما يسعى الأبطال الأسطوريون إلى تحقيق الخلود أو المعرفة المطلقة يستخدم الشاعر لغة شعرية رفيعة، مليئة بالصور البيانية والاستعارات، مما يخلق أجواء أسطورية.

الأحداث التي تصفها القصيدة تحمل في طياتها الكثير من الغرابة والرمزية، مما يجعلها تبدو وكأنها مستوحاة من عالم الأساطير.

البناء الدائري:

المقصود في هذا البناء أن تبدأ القصيدة بموقف ما أو بلحظة نفسية معينة، ثم يعود اليها الشاعر وهذا البناء يضمن للصورة الكلية ان تتحرك ضمن اطار دائري وقد جاء هذا البناء في قصيدة للشاعر جنان السعدي بعنوان (إليك)ص71 من مجموعته الشعرية (قوس قزح)

خذ ما شئت

دعني

بصمت اداعبُ أمالي

أمشط جدائلها

أرشُ مفاتنها عطري

أبوحُ لها

حروفي أنثرها

كريشِ حمامةٍ بيضاء

بهمسٍ أناغيها

خذ ما شئت

دعني

الملمُ بقايا أفكاري

حطامَ أيامي

لوحةً أرسمها سهواً

أودع أملاً ضائعاً

أضع النقاط على حروف بأسي

خذ ما شئتَ

وهكذا يتضح ان البناء الدائري هو أحد الابنية الذي اعتمد عليه الشاعر في بناء صورته الكلية للإيحاء بفكرة أو رؤية.

البناء المكثف

اقصد بهذا البناء أن تكون القصيدة مكثفة في صورة كلية كما في النصوص الوجيزة والوميض الشعري  للشاعر السعدي كما نراه جليا  في مجموعته (مملكة ام عناد) الصادرة عن دار المتن 2023  في عنونة قصائده (هرولة، وصية معمم، حفلة شواء، المسؤول، الحفرة، أبواب، الاكرم،الكأس، سباق) ومن نماذج هذا البناء في قصيدة النثر التي من اهم سماتها كما تقول سوزان بيرنار ففي نصه الوجيز(سباق) يقول فيه:

يوماً

سابقت ُ ظلّي

أدهشني

كلاعب صالات مغلقةٍ

أو كالسياسي

ما بعد سقوط الصنمِ

فقد نرى في هذا النص  التكثيف والتركيز وتلافي الاستطراد والتفصيلات التفسيرية  حيث الاقتصاد من أهم خواصها  .

وهكذا يتبين لنا أن الصورة في شعر جنان السعدي قد استفادت في بنائها من ست أبنية وهي البناء القصصي والبناء الدرامي والبناء الرمزي والبناء الاسطوري والبناء الدائري والبناء المكثف.

ولم يكن الشاعر من هدفه الا تجسيد الرؤية في شكل إيحاءً وتأثيراً وتشويقاً وتحقيقاً لوحدة القصيدة العضوية وزيادة لثرائها الدلالي .

***

طالب عمران – كاتب وناقد عراقي

........................

المصادر

1- السعدي، جنان/ زفير ساخن، بغداد، عن دار المتن 2019  .

2- السعدي، جنان / آخر الشموع، بغداد،  دار المتن، 2023.

3- السعدي، جنان / قوس قزح، بغداد، منشورات اتحاد الادباء والكتاب في العراق، 2022.

4- السعدي، جنان/ مملكة ام عناد، دار المتن 2023.

 

في المثقف اليوم