قراءات نقدية

باقر صاحب: مرويّاتُ الوطن والحب والتضحية.. "عباءة غنيمة" للروائية الكويتية عائشة المحمود

أوّل ما يدهشك في مطلع رواية (عباءة غنيمة) للروائية الكويتية عائشة عدنان المحمود، إنه مكتظٌّ بالأسئلة عن المكان وانتماء الراوي المتكلم، في أغلب فصول الرواية ومقاطعها، إليه. وهنا يتبادر إلى ذهن القارئ الراصد، هل مجريات الرواية تجيب عن تلك الأسئلة أم تجعل ذهن القارئ محملاً بها، مستشفّاً إجاباتها بين السطور. لن نقتنع بأنّ الحدث الأول في الرواية

وهو لقاءٌ صحفيٌّ بين الراوي المتكلم، الذي سنكتشف لاحقاً بأنّ اسمه فيصل وصحفيٍّ شاب، فيسأله الأخير: هل تحبُّ الفريج، لن نقتنع بأنه الإجابة الكاملة عن تساؤلات المطلع، بالرغم من أنه ليس سؤالاً بسيطاً بحسب منطوقه، بل هو يمتدّ إلى آمادٍ أبعد عن قضية حبّ الفريج، كما يجيب الراوي نعم، أحبّ الفريج وأحبُّ أهله، أقصد: أحبُّ أهلي. الرواية:

ص10.

إستكشاف الحداثة

جرى اللقاء في تموز 1990، وهذا يسحب الذاكرة إلى الشهر الذي سبق حدث غزو الكويت، في عهد النظام العراقي المباد، في 2 آب 1990، في هذا القسم المعنون مدينة قاصية، ضمن الفصل الأول من الرواية، استكشاف من كان خارج الكويت الوطن وعاد إليه، حيث الانبهار بحداثة المدينة في

جميع النواحي، كما هنا تصويرٌ لأجواء الترف التي يعيشها الراوي المتكلم، في البيت والمكتب والسيارة الحديثة والشاليه والقارب البحري الضخم، هنا إشادةٌ بكلِّ ما هو إيجابي، ضمن تصوّرات الراوي عن المكان، حتى أجواء الحرية التي كفلها الدستور الكويتي، هي بالتأكيد تتعشّق مع حبّ المكان والانتماء اليه. في القسم المعنون؛ سواد، ضمن الفصل الأول نفسه،

إدراج لتداعيات ذاكرة الراوي المتكلّم في يوم حدث غزو الكويت، فعندما أرسى زورقه في المنصّة البحريّة، ومضى نحو سيارته، وجال فيها الشوارع، لاحظ أسراباً سوداً، ينتشرون مع آلياتهم الثقيلة.

دلالاتٌ رمزية

وهنا يحصل قطعٌ زمني، بالعودة إلى البدايات، أو بالأحرى بدء سيرة حياة بطل الرواية فيصل، وهناك دلالاتٌ رمزيةٌ كبيرةٌ فجّرتها ولادة فيصل، منها سياسية، حيث تعمدت الروائية عائشة المحمود إلى توأمة حدث الولادة بحدث نكبة فلسطين في 15 مايو عام 1948، وهي نكبةٌ قوميةٌ كبيرة، كان والده غازي، متابعاً لما يدور من أحداث، ومنها اجتماعية حيث النكبة العامة عادلها فرحٌ شخصيٌّ غيرُ عادي بولادة فيصل في اليوم نفسه. وهناك، مثلاً حدث العدوان الثلاثي على مصر عام 1956  حيث كان فيصل رفقة أخيه الكبير عبد العزيز لشراء الخبز الخاص بفطور يوم الجمعة وأثناء عودتهما، يجدان ابن عمهما سعود مقرفصاً أمام باب بيته وهو يبكي، وحين يسألانه يجيب؛ مصر... طقّوها الإنجليز: ص54، حينها كان فيصل يجهل ما يقوله الكبار عن هذا العدوان.

وتنبثق هنا بعد أكثر من خمسين صفحة من الرواية، غنيمة، المرأة الغريبة، بعباءتها التي لا تستر كامل جسدها، كما يلحظ فيصل على أمه فأرعبت فيصل وعمره ما زال ثمانية أعوام، وتستمر بملاحقته في كل مكان، الأمر الذي يمكن تأويله على أنها كابوسٌ يرمز إلى الشقاءات التي سيواجهها فيصل طوال حياته، ومن ثم استشهاده في صبيحة 2 أغسطس 1990، لذا

يمكن القول أن تسمية الرواية ب (عباءة غنيمة) هي معادلٌ موضوعيٌّ لسيرورة حياة فيصل، وكذلك أحداث الكويت خاصةً والأمة العربية عامةً وقضيتها الرئيسة فلسطين.

ذكورةٌ وأنوثة

الرواية رصدٌ دائمٌ لتشكلات الوعي لدى فيصل، بعد أن دخل عالم المراهقة، فتثير الروائية عائشة المحمود، قضية الذكورة ومضادّتها الأنوثة، عند فيصل وبدور، التي تكبره بسنوات، فهو يحاول إثبات رجولته، كيلا يُقالَ له من قبل نظرائه جبان، وهنا المجتمع المحيط كله يدعم إنماء هذا الحسّ الرجولي، وفي الوقت نفسه يدعم إحباط الهاجس الأنثوي عند بدور، خشيةً من عواقب ترك هذا الهاجس ينمو، ويمضي في دروبٍ محظورةٍ من قبل المجتمع الذكوري، خاصةً فيصل الذي يشعر من خلالها أنّه ذو أطوارٍ غريبة، فيتعاطف مع الهاجس الأنثوي لدى بدور، ويعرف أنها تفتقد (فهد) وتميل إليه، وهو من أقارب العائلة، وحين ابتعد عنها بالعودة إلى دارهم، بعد انقضاء فصل الأمطار، وحلول الربيع، بدت عليها ملامح الذبول والحزن، والسبب لا يعرفه سوى فيصل.

دمجُ الخاص بالعام

ما يميّز الرواية، إن كاتبتها عائشة المحمود، نجحت على مسار جميع صفحات الرواية في الدمج الرائع بين الخاص والعام، وشواهدنا على كثيرة، ذكرناها في مقاطع الفصل الأول، حيث أن الرواية مقسّمةٌ إلى ثلاثة فصول، وفي الفصل الثاني المفتتح بمقطع معنون ب "يوم صار لي وطن" يسرد الراوي المتكلم والمشارك أيضاً، مجريات الليلة، التي تم فيها إعلاء طقوس الفرح بزواج فاطمة بنت خالة فيصل، تشابك معها إعلان استقلال دولة الكويت بعد إلغاء اتفاقية الحماية البريطانية، أكثرُ من فرح بذلك غازي، بوصفه من الجيل القديم، فهو يدوّن في دفتر مذكراته كلَّ الأحداث الفارقة التي يمرُّ بها وطنه، وبالنسبة لفيصل، مع تنامي إدراكه، أدرك سرَّ سعادة أبيه، وذلك راجعٌ إلى حسِّه الوطني، وإذا كان فيصل يمثّل الجيل الجديد، فإن سنوات عمره الثانية والأربعين تقريباً، تمثّل سيرة نهوض الكويت، كدولةٍ حديثةٍ بعد الطفرة النفطية، وهنا نعود إلى القول بنجاح الروائية عائشة المحمود في دمج الخاص بالعام والانتقالات الزمنية والتحولات المكانية غير الاعتباطية، كما نرصد الذاكرة التدوينية للأب غازي، متمثلةً بحزنه الكبير عن محاولة بلدٍ مجاور، يقصد به العراق، اعتبار الكويت جزءاً منه، في بدايات ستينيات القرن الماضي، كما دوّن، بحزن، انفصام الوحدة بين مصر وسوريا. مدوّنات غازي تقابلها تنامي الوعي الشفهي لفيصل، الروائية عائشة المحمود عبر سرديات الراوي المتكلم أكّدت ضرورة التفاعل بين الجيلين القديم والجديد، بين الآباء والأبناء، لجهة قوة الحّس الوطني للجيل القديم لأنه عانى الكثير من ويلات الهيمنة الأجنبية، لذا كان فيصل فخوراً بأبيه، فيقول عنه:" في الوقت القليل جداً الذي يقضيه في المنزل كان يغلق على نفسه باب المكتب المتطرّف

بالساعات الطوال ليكتب ويدوّن ويقرأ ويعيد ترتيب خارطة المقبل على وطنه"ص 86 .

لغةٌ شاعرية

لا يخلو مقطع في الرواية من أحداثِ تشدّ القارئ إليها، عبر لغةٍ شاعريةٍ بصمتْ نجاح عائشة المحمود في تعشيق روايتها بالسرد والشعر معاً، فعلى مستوى الاهتمام المكاني، أولاً: سرور فيصل بانتقال أسرة الأستاذ ناظم مدرس اللغة العربية في الثانوية، بجوار بيتهم، هذا التجاور أسهم في تنمية وعي فيصل عبر مكتبة ناظم الكبيرة ، ثانياً: تأثّر فيصل بالقضية   الفلسطينية، عبر سرديّات ناظم له بشأن ما جرى لهم من تهجير عن بلدتهم يافا، وعن أمّه التي أبت أن تأتي معهم، كي تبقى هناك. وعلى المستوى الاجتماعي: زواج بدور، التي يعزّها فيصل كثيراً، وذهاب عبد العزيز إلى القاهرة للدراسة الجامعية هناك، وكذلك هناك من يسعى لخطف غازي من زوجته الأصيلة مريم، ألا وهي الخادمة أمينة، ويبدو أن الأب غازي، كأيِّ أبٍ شرقي لا يرفض تعدّد الزوجات وهذا ما سيحصل.

تحوّلاتٌ مكانية

الانتقالات المكانية في الرواية أضفت عليها عنصر تشويق يجعل القارئ مفتوناً برحلة بطل الرواية إلى بيروت لغرض الدراسة، الروائية عائشة المحمود نجحت في تزويدنا بانطباعٍ بارعٍ جداً عن بيروت الستينيات، بحسب التاريخ الزمني الُمرفق مع المقطع المعنون ب "نحو الشرق " سنة 1966، فبطل الراوية وراويها المتكلم أحسَّ ببونٍ شاسعٍ بين ما كان عليه وبين وما أصبح فيه، حيث يقول: كان الفارق المشاعري الفاصل بين فريجنا وساحل بيروت يشكّل هوّةً جامحةً من الاختلافات القادرة على دفع الواحد منّا إلى التشكّل: "ص98،

ويمضي السارد في الإفصاح عن كلِّ التشكّلات الجديدة، لدرجة أنه أصبحَ فيصلاً جديداً. هذه التشكّلات ساعدت على إنمائها أجواء الحرية في بيروت، حيث أصبحت له نخبةٌ من الأصدقاء، يتناقشون فيما بينهم، بأدقّ التفاصيل في السياسة ومجريات الأحداث في العالم العربي.

سياسةٌ وحب

ويمكن القول إن هناك شقّين من التحوّلات عصفت بفيصل في بيروت، وجعلت منه إنساناً مختلفاً جذرياً: الشقُّ الأوّل سياسي، حيث اندفع عن قناعةِ عميقةٍ في الانتماء إلى تيار القوميين العرب، التيار الذي وُلد من رحم نكبة فلسطين، أي تزامن مع ولادته، والثاني: عاطفي، حيث عاش لأوّل مرّةٍ قصّةَ حبٍ عاصفةٍ مع أستاذته لين، تسردها الروائية بفيضٍ كاملٍ من

التشويق والذهاب بمغامرة الحبّ إلى أقصاها، بعيداً عن كلّ الشائعات والحواجز. ما أضفى على قصّة حبّ فيصل ولين جماليّتها، هو ذلك التحرّر الكاملُ لهذه المرأة التي تنتمي عائلتها إلى تيارٍ سياسيٍّ متنفذٍ في سوريا. التعلّق الكلّي بلين، أفضى بفيصل أخيراً إلى العطب، بعد أن اختفتْ كلياً، بحث عنها في كلّ مكان، بعد أن انتقلت إلى باريس خلال أعوام الحرب

الأهلية في لبنان. لم يعثرْ لها على أيّ أثر، فقفل راجعاً إلى بلاده، يضمّد جراحه هناك، حيث ازداد نفوذ أبيه وأخيه تجارياً وسياسياً، وانتقلت العائلة إلى إحدى الضواحي الحديث في الكويت العاصمة، عاد إلى النكسات، رغم الجناح المستقل له في بيت مكون من ثلاثة طوابق، النكسة الكبيرة هو زواج

غازي من الخادمة أمينة، ما قصم ظهر الزوجة الوفية مريم، زدْ على ذلك أن امينة أنجبت له ذرّيّة، ولكنّها كانت بنتاً جميلة، بالرغم من كلِّ شيءٍ أصبحت محبوبةً من الجميع. البعد السياسي في الرواية واضحٌ جداً، وهناك إشارات بارزة إلى التداول، بحريةٍ، في شؤون الانتخابات البرلمانية، وأزمة

سوق المناخ، وهناك جنوحٌ إلى الاتجاه القومي حيث قضية فلسطين، سها ابنة أمينة، تكبر، وينمو وعيها السياسي، وحين تتعرف على شابِّ فلسطيني في الجوار، يتزوجان رغم معارضة غازي ومريم، ويعيشان في أميركا.

نهاية الرواية كانت صادمةً جداً، حيث كانت حياة فيصل بين كماشتين، ولادته: انبثاق الكيان الصهيوني، ومماته أثناء الغزو العراقي للكويت، فاشتدّتْ عزيمته، وتنكّب بسلاح البندقية، ليقولَ كلمة الرفض لهذا الغزو، بالمقاومة ومن ثم الاستشهاد.

صدرت الرواية عن دار الساقي للنشر –بيروت عام 2022، تشغل الأستاذة عائشة عدنان المحمود اليوم منصب الأمين العام المساعد لقطاع الثقافة بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآدب في الكويت، وقد سبق أن صدر لها، في الرواية ؛وطن مزوَّر، وفي القصة القصيرة ؛آخر إنذار، وفى أدب الرحلات؛ في حضرة السيد فوجي سان.. مشاهدات سائحة في اليابان.

***

باقر صاحب - أديب وناقد عراقي

 

في المثقف اليوم