قراءات نقدية
مونيكا زغوستوفا: لوليتا هي نابوكوف.. حول التأريخات المتوازية للكاتب واشهر شخصياته
بقلم: مونيكا زغوستوفا
ترجمة: صالح الرزوق
***
حينما كنت أبحث عن مادة لروايتي "مسدس تحمله معك في الليل A Revolver to Carry at Night"، انغمست في مراسلات وسيرة وأعمال كل من فيرا وفلاديمير نابوكوف، وعلى وجه الخصوص وقائع حياتهما. واكتشفت من مذكرات نابوكوف الشعرية "تكلمي أيتها الذاكرة Speak, Memory" الحكاية التي استلهم منها رواية "لوليتا"، وبدأت أفهم علاقة نابوكوف مع روايته وموضوعها.
اعتاد والدا فلاديمير نابوكوف إنفاق عطلاتهما الصيفية في فيرا، والإقامة في فندق له حديقة فسيحة على مشارف سانت بطرسبورغ. وبعد واحد من وجبات الغداء العاطفية والطويلة والمتأخرة على عادة أغنياء روسيا قبل الثورة، خرج المضيفون والضيوف إلى الشرفة لشرب القهوة. وكان فلاديمير، البالغ يومذاك من ربيع عام 1907 ثماني سنوات، برعاية خاله الدبلوماسي فاسيلي روكافشنيكوف.
كان ركافشنبكوف معروفا أيضا باسم روكا، ويعني بالروسية "يد". وكان الخال روكا أنيقا ويضع على الدوام تاجا بنفسجيا على ياقة معطفه اللؤلؤي الرمادي ويهوى إلقاء الشعر بصوت جهوري. وحينما خرج الحضور إلى الشرفة، اقترح الخال على الصبي أن ينتظر معه في غرفة الطعام المضاءة بنور الشمس. أجلس الصبي في حضنه وعانقه بلطف، وهو يهمس في أذنه بكلمات عابثة وبذيئة، فشعر فلاديمير الصغير بالارتباك. وارتاح واطمأن حينما عاد أبوه من الشرفة إلى غرفة الطعام. وأدرك فلاديمير أن الأب لم يكن ينظر بعين الرضا لإلحاح شقيق زوجته كي يرافق الآخرين إلى الشرفة. وحالا أرسل الصبي إلى غرفته. في نفس الأمسية عاد الخال إلى غرفة الصغير فلاديمير. وطلب منه أن يعرض عليه مجموعة الفراشات التي أسرها، وبينما هما يتأملانها معا، دغدغ الخال وجهه بشاربه الناعم، وتابع حضنه وزاد على ذلك لمسات جريئة. وكانت هذه اللقاءات سارة ومحزنة أيضا، مثيرة ومقرفة في وقت واحد. واستمر على هذا المنوال لعدة سنوات. ومنذ نشر "لوليتا" يتساءل الناس في أرجاء العالم من هي تلك البنت الغامضة، وعلى أي تجربة أو علاقة اعتمد نابوكوف في رسم شخصيتها. وحينما كنت أبحث عن مادة لروايتي وجدت الدليل. ما لم يلاحظه أحد من قبل أن نابوكوف في هذه الرواية كان يسرف بوصف الاعتداء الجنسي مع أنه كان ضحية له في طفولته. في الفقرة 3 من الفصل الثالث من كتابه "تكلمي أيتها الذاكرة" قال نابوكوف: كان الخال روكا يأتيني في طفولتي مع عالم من الدمى والكتب المصورة المضحكة وأيكة من أشجار الكرز ذات ثمار سود براقة [...]، وكنت حينها في الثامنة أو التاسعة، وكان دائما يضعني على ركبتيه بعد تناول الغداء (وحولنا رجلان ينظفان الطاولة الموجودة في غرفة طعام تخلو من البشر)، ويداعبني بأصوات صفير وبعبارات غزل، وكنت أشعر بالارتباك من تصرفاته بحضور الخادمين، وأرتاح حالما يناديه والدي من الشرفة قائلا: "تعال يا فاسيلي".
وكما ألح نابوكوف في مذكراته بشكل غير مباشر، لكن جازم، استمرت هذه الألعاب الماجنة ثلاث أو أربع سنوات. وحينما بلغ فلاديمير الحادية أو الثانية عشرة، اعترف، أنه في أحد الأيام ذهب لملاقاة خاله في محطة القطار. كان خاله قادما من رحلة خارجية بعد أن استجم خلال الصيف في مزرعته في فيرا، المجاورة لمكان إقامة والدي نابوكوف. قال روكا للصبي حالما رآه "كم أصبحت خبيثا ومرهقا jaune et laid أيها الولد المسكين". وفي عيد ميلاد نابوكوف الخامس عشر أعلن خاله الواسع الثراء، بلغة فرنسية قديمة الطراز، أنه سماه وريثا له. ثم صرفه قائلا:"والآن بمقدورك أن تذهب. انتهت الجلسة ولا يوجد ما أضيفه.
l’audience est finie. Je n’ai plus rien à vous dire
***
وحدث شيء مماثل في "لوليتا": في نهاية الرواية، وبعد بحث يائس، وجد الخاطف همبرت همبرت لوليتا اليافعة، وهي بعمر سبعة عشر عاما حاملا ومتزوجة. وشاهدها الذي غرر بها شاحبة، ومنهارة ومتعبة فقدم لها مبلغا كبيرا من النقود لزفافها. ولكن لم تتمكن لوليتا من الاستمتاع بثروتها المفاجئة لأنها ماتت أثناء الوضع. وبطريقة مماثلة لم يكن نابوكوف قادرا على الاستفادة من ميراثه (والذي كان حسب أقواله "يبلغ بتقديرات هذه الأيام مليوني دولار "يضاف لها مزرعة روجديستيفنو المجاورة لفيرا، والتي كسبها من خاله). فقد كان في الثامنة عشرة حين قامت الثورة الروسية للروبل وتسببت للروبل بفقدان سعره، ثم ذهب إلى المنفى، وفقد كل شيء. وهذه الحلقة من حياة نابوكوف أثارت اهتمامي لأنني شخصيا من المهاجرين. بحث والدا فلاديمير عن منفاهما في غرب أوروبا بعد ثورة أكتوبر وكان عمره لا يزيد على عشرين عاما. وكذلك والداي هربا من الشيوعيين إلى الولايات المتحدة حينما كنت في السادسة عشرة. ولذلك أشعر بقرابة متينة مع نابوكوف. وقد استحوذت على نابوكوف فكرة التحرش بالأطفال. وكتب عنها أولا في "الساحر"، وهي رواية قال عنها في وقت لاحق "إنها أول مسودة عن "لوليتا""، ولكنه لم يكن راضيا عنها تماما. وبعد "لوليتا" عاد إلى موضوعة التحرش والمضايقة الجنسية في "نار شاحبة". وفي التجارب الثلاث عبر عن عدم رضاه ورفضه للعنف الذي يستهدف الأطفال. وربما لم يعرف هذا السر غير عدد محدود من الأشخاص، وربما فقط زوجته فيرا، فقد كتب عنه نابوكوف في سيرته "تكلمي أيتها الذاكرة" بطريقة مواربة. وكانت فيرا تعلم جيدا أن زوجها يحب النساء بمقدار غرامه للفراشات. وتقول كاثرين ريس بيبلز، وكانت على علاقة غرامية قصيرة مع نابوكوف حينما شغل منصب أستاذ في جامعة كورنيل الأمريكية، أنه كان يهوى النساء وبالتحديد الشابات، ولكن ليس المراهقات أو البنات الصغيرات مثلما فعل همبرت همبرت مع لوليتا. واستفاد نابوكوف من اختطاف البنت الصغيرة سالي هورنير، التي هزت قضيتها المجتمع في أواخر الأربعينات. كان يبحث يوميا في الصحف الأمريكية عن أخبار سالي الجديدة وأحوالها المرعبة وهي في قبضة مختطفها وذلك ليبني عليها روايته. وقد نشرت مؤخرا سارة وينمان كتابها بعنوان "لوليتا الحقيقية" وتناولت فيه تفاصيل اختطاف سالي هورنير.
وعلى امتداد عقود كنا نسمع النقد الموجه إلى لوليتا من زاوية أنصار الأنوثة. ولكن بعض هؤلاء النقاد لا يبدو أنهم فهموا كل اللغط الذي دار في الرواية. لكن "لوليتا" عمل فني مهم لأنها مكتوبة بحرية مطلقة ولأنها حرصت على أن تعكس تعقيدات نمط محدد من السلوك البشري.
وبداية كل فصل -"سيداتي وسادتي المحلفين" - تعني بوضوح أن قراءه هم القضاة المكلفون بمحاسبة المختطف موضوع المحاكمة. لم يقصد نابوكوف أن يكتب مرافعة، ولكنه أوضح بين السطور، لمن يعرف كيف يقرأ، أنه رفض مغوي القاصرات السقيم وأن لوليتا ضحية مثله.
***
......................
* مونيكا زغوستوفا Monika Zgustova ولدت في براغ. وكبرت في الولايات المتحدة حيث درست الادب المقارن. انتقلت الى برشلونة وعملت بالكتابة لجريدة "البايس" و"نايشين" و"كاونتر بانش". ترجمت اعمال الادباء التشيك والروس الى الاسبانية. من اهم مؤلفاتها "متأنقة للرقص في الثلج: أصوات نساء من الغولاغ" 2020.
* الترجمة عن ليتراري هب، أيار 2024.