قراءات نقدية
ناجي ظاهر: عن الاب والابن في رواية عالمية
هذه الرواية التي أتحدّث عنها فيما يلي، هي واحدة من 450 رواية كتبها وألفها الكاتب جورج سيمنون (1903-1989)، إضافة إلى مائة ألف من القصص القصيرة، وسيرة ذاتية وقعت في عشرين كتابًا!!. لقد قُرئ سيمنون في العديد من لغات العالم، بما فيها لغتنا العربية، واعتبر من أسرع الكتّاب تأليفًا ومِن أغزرهم إنتاجًا. ومن طريف ما يُذكر عن سرعته في الكتابة (كان يكتب خمس روايات في الشهر أحيانًا)، أن صديقه الفريد هتشكوك، مخرج أفلام الرعب الشهير، سأل سكرتيرته ذات زيارة لمكتبه عنه فأجابته إنه دخل لتأليف رواية، فما كان منه إلا أن نظر في ساعته وقال إنه بإمكانه ان ينتظره.. وجلس ينتظر..
عرفتُ روايات سيمنون، وهو بلجيكي المولد، فرنسي القلم، أمريكي المهجر، عالميّ الوطن، منذ سنوات السبعينيات عندما قرأت عددًا من رواياته أذكر منها "الساحر"، وقرأت له فيما بعد عددًا وفيرًا من الروايات لعلّ أهمها " هذه المرأة لي" التي تسبّبت بترشيحه لجائزة نوبل الادبية، فاخطأته الجائزة، وأكسبته الرواية محبة القراء في أنحاء مختلفة من العالم.
تعتبر رواية الابن رسالة طويلة منذ بدايتها حتى نهايتها، يوجّهها والد إلى ابنه، ويسرد عليه تاريخه العائلي، المتذبذب بين الفرح والحزن، ابتداءً من جدّته وجده، اللذين تبدأ الرواية بتصوير رحيلهما واحدًا وراء الآخر، ثم تنتقل إلى الوالدين، وهناك صفحات رائعات في الرواية حول تعرّف كلّ منهما على الآخر، بعد إصابة الاب بنزلة رئوية وانتقاله لتلقّي العلاج، منتقلًا من جبهة القتال، إلى المستشفى، وهناك يتحدّث الاب، في رسالته الطويلة إلى ابنه، عن تعرّفه على والدته وارتباطه بها.. بعد أن يقع في غلالة حبها.
الرواية تتحدّث عن جيل الحرب، ذلك الجيل الذي شهد أهوالًا مُرعبة، ويرصد التحوّلات التي عاشها الآباء، وتلك التي عاشها الابناء، ويتوقّف عند معنى الابوة، مازجًا بينها في إطاريها العام والخاص:" إنها قصة قديمة تتكرّر كلّ جيل، الابناء يرقبون الآباء، كما كان هؤلاء يرقبون الاجداد، قرأت ذات مرة عبارة لأحد الكُتاب: ان أبناءنا صورة منّا وأرواحنا تتحدّث على السنتهم! " ثم يقول:" أظنه يؤمن بقضية تناسخ الارواح القديمة ويعتقد أن أرواحنا تنتقل في مدى مائة عام، من الاب إلى الابن إلى الحفيد، تؤثّر فيهم إلى أعماق نفوسهم، يظلّ الحفيد يذكر ما يقوله الاب عن الجد ويراه بعين الخيال يتحرّك أمام بصره حتى إذا ما صار الحفيد أبًا اندثرت ذكرى الجد، اختفت بين طيات النسيان وأصبح اسطورة قديمة بين الحكايات والاساطير، وهكذا تمضي الاجيال موجة بعد موجة كأمواج البحر الذاهبة وتعطي تاليتها الصاعدة ما يجيء بعدها إلى آخر الزمان".
تكشف هذه الرواية عن الوجه البريء للطفولة واليفاعة، ذلك الوجه الذي يريد أن يعرف كلّ شيء وأن يكتشف كلّ شيء، وفي المقابل تكشف عن الوجه المُختلف، بطبيعة الحال، للأب والأم، وما يمكن أن يدور بين الطرفين من مشاعر وأحاسيس متناقضة، والطريف في هذه الرواية أنها تركز على المشاعر والاحاسيس، مبتعدة عن الحَبكة التقليدية، وتكتفي بسرد أحداث تقدّم الابوة في أطرف حالاتها وأجلى معانيها.
ترجم الراوية إلى العربية بأسلوب رشيق الكاتب حسن محمد أحمد، وصدرت ضمن سلسلة روايات عالمية، حاملة رقم 267، إحدى السلاسل التي تصدر عن وزارة الثقافة والارشاد القومي- الدار القومية للطباعة والنشر في أرض الكنانة.. مصر العربية.
***
ناجي ظاهر