قراءات نقدية
ناجي ظاهر: جنون الحب على الطريقة الفنلندية
تدور أحداث رواية" الظمأ للحب"، في مزرعة فنلندية قريبة من الغابة، وتجسّد أحداثها قصة حب فريدة من نوعها، تدور بين غريب يفد إلى المزرعة للعمل فيها، وبين زوجة شابة عافت الحياة الزوجية مع زوج سكّير خامل، قضى سابقًا عامين في مصحّة عقلية، وفقد أو كاد أن يفقد جانبًا هامًا من حسّه الانساني في التعامل مع زوجته المُرهفة التي سامحته على زلّاته معها المرة تلو المرة، دون أن يتغيّر شيء فيه.. كما أرادت وتوقعت.
قبل أن أعرّف الاخوة القراء بهذه الرواية الفريدة، أود أن أعرّفهم بكاتبها.. صاحب هذه الرواية هو الكاتب الفنلندي ميكا والتاري (Mika Waltari؛ هلسنكي، 19 سبتمبر/ ايلول 1908 – هلسنكي، 26 أغسطس/ آب 1979)، (تمّ وصفه على غلاف الرواية بأنه عميد الادب الفنلندي)، وقد تعرّفت على جانب من أعماله الروائية في الثمانينيات، بعد أن قرأت روايته المشهورة "سنوحي" أو" المصري"- 1945-، وبعدها روايته القصيرة الفاتنة "شجرة الاحلام"-1961-. ابتدأ والتاري الكتابة وهو لمّا يزل على مقاعد الدراسة، وصدر له عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، مجموعة قصصية لفتت إليه الانظار. اشتهر والتاري خلال العقدين الاولين من حياته الادبية في بلاده، وقيّمه النقّاد والقرّاء تقييمًا عاليًا، إلا أنه لم يُعرف على مستوى عالمي إلا بعد أن قامت هوليوود بإنتاج فيلم عن قصته" سنوحي"، فالتفت إليه العالم، وبات شخصية أدبية هامة، يَنظر إليه محبّو الادب الروائي في مختلف أصقاع العالم، باحترام وتقدير عاليين لأدبه الروائي، ويُذكّر هذا بالكاتب السوري المبدع حنّا مينة، فهو لم يُعرف على نطاق واسع إلا بعد أن تمّ تحويل روايته الرائدة" نهاية رجل شجاع"، إلى مسلسل تلفزيوني تمّ بثه في بداية الالفية الجارية عبر أكثر من قناة تلفزية وشاهده الملايين.
تَرجم رواية "الظمأ للحب" -1947-، الكاتب المصري محمد بدر الدين خليل، المعروف بترجماته الوفيرة من الانجليزية إلى العربية، وصدرت الرواية ضمن سلسلة أدبية اشتهرت منذ الخمسينيات، حتى هذه الايام، هي سلسلة " مطبوعات كتابي"، التي بادر لإصدارها الكاتب العربي المصري حلمي مراد، فقد شاهدت واقتنيت عددًا كبيرًا من إصداراتها بعد إعادة طباعتها، وأنوّه أن هذه السلسلة الهامّة قدمت خدمات جُلّى لأدبنا العربي الحديث بتقديمها عيونًا مختارة من الآداب الاجنبية المترجمة، وأغنت المكتبة العربية، علمًا أنها سلسلة شعبية جدًا.
صدرت رواية الظمأ للحب أول مرة بلغتها الفنلندية، تحت عنوان هو " غريب في المزرعة"، إلا أن مؤلّفها ما لبث أن أصدرها في طبعة تالية تحت العنوان، الذي تُرجمت به إلى اللغة العربية، أو تحت عنوان قريب منه.
يُمكننا تلخيص أحداث الرواية بأسطر قليلة، كما أوردنا في مفتتح حديثنا هذا، مع إضافة طفيفة، تتمثّل في أن بطلة الرواية، التي تبقى حتى نهايتها بدون اسم، تُضحي بالكثير من أجل راحة زوجها، إلا أنه لا يُقدّر هذه التضحية، ابتداءً من شِرائها المزرعة لاعتقادها أنه توفّر له جوًّا ملائمًا لصحته المعتلّة، انتهاءً بتحمّلها فظاظته في معاملته لها، مرورًا بمحاولاته المتكررة لمباضعتها دونًا عن إرادتها ورغمًا عنها. العلاقة بينها وبين الغريب ويُدعى التونين، تتطور رويدًا رويدًا، وتساعد الظروف في توفير المناخ المناسب لازدهار هذا الحب، وذلك بعد أن يقوم الزوج، ويُدعى الفريد، بسرقة مال ادخرته، وتوجّه إلى إحدى الحانات البعيدة عن المزرعة، فيتوجّه التونين برفقة هيرمان- الشخصية الذكورية الثالثة في الرواية- ويعيدانه، بعد أن ينهالا عليه بالضرب، إلى المزرعة، وفي المساء يحاول الفريد اغتصاب زوجته رغمًا عنها، فيهبّ الغريب لنجدتها ويضع بذلك حدًّا لانتهاكه حرمتها. وهنا توفّر الظروف إمكانية أخرى لنموّ قصة الحب بين الغريب العامل في المزرعة وبين صاحبتها المتزوّجة. في المقابل لهذه القصة الغرامية، يَعثر الزوج/ الفريد، خلال عمله في الارض على بندقية روسية قد يكون أحد الجنود الروس دفنها هناك على أمل أن يعود لأخذها، فيخبئها احتياطًا لحاجةٍ دنا وقتُها. في النهاية يلحق الزوج عشيق زوجته إلى أعماق الغابة حيث يعمل العامل الغريب/ التونين بتقطيع الحطب، ويُطلق عليه النار. الزوجة تستمع إلى إطلاق النار هذا، فتهرع إلى حيث استمعت إليه، وهناك ترفع البلطة التي كان زوجها/ الفريد يقطّع بها الاحطاب، وتنهال بها على رأسه.
بهذا الحدث الفظيع تنتهي الرواية.
أحداث الرواية كما تتبدّى لقارئها، لي على الاقل، عادية جدًا ومن المألوف أن يقع مثلها في أي مكان من العالم، فنقرأ عنه خبرًا في صحيفة وينتهي الامر، إلا أن صاحب الرواية ميكا والتاري، تمكّن بقدرته الفائقة على السرد، أن يصنع منه رواية عظيمة، وللحقيقة هو لم يختلف في إبداعه هذا عن معظم مَن قرأنا لهم روايات من مختلف انحاء العالم، فمعظم هذه الروايات ما هي إلا قصص عاديّة، تمكّنت المُخيّلة المبدعة مِن بعث الحياة فيها لتتحول بالتالي إلى رواية أدبية من طراز رفيع وتُضاهي ما نعايشه، كلّ على حدة، مِن أحداث.. نرى أنها الاهم في العالم.
رغبة في تقريب الاخوة القرّاء من أجواء هذه الرواية أقدّم فقرة أو أكثر منها، يصف الكاتب والتاري النوبات الشهوانية الحيوانية التي كانت تنتاب الزوج/ الفريد على النحو التالي:" وكان يحبو على أربع ليضرع إلى زوجه ويتوسّل.. وقد أحس بوقدة تسري في كلّ جسمه: كل شريان تحوّل إلى أتون ملتهب.. وكلّ عصب في كيانه كان يرتعش شهوة!.. وما لبثت الابتسامة العريضة، التي كانت شفتاه الغليظتان تنفرجان عنها، أن تحولت إلى السباب.. وكانت الكلمات البذيئة تنساب من فمه، وقد تجلّت على أسارير وجهه مظاهر العته.. كانت شهوته هي جحيمه! وما أفظع جحيم الشهوة التي كانت تستعر في جوانحه- دون أن تجد إطفاء- فتلفح ريحها كلّ مَن يقترب منه..!". أما الزوجة فانه يصفها بقوله:" على أن المرأة شعرت- في ساعة الاسى المرير- أن في حياتها شيئًا واحدًا يخلق بها أن تحمد السماء عليه.. ذلك هو أنها لم تُرزق بولد.. من أجل هذا، على الاقل، كانت تكبح شهوة زوجها، حتى لا تضطر قطّ، إلى أن تعاني فظاعة وبشاعة أن تحمل في أحشائها حياة نفثها ذلك البدين الرخو، الناضح بالخمر.. وأن تشهد الطفل ينمو ويكبر فترى في عينيه تلك النظرة المعتوهة التي تلمع في عيني زوجها، وتلمس في ملامحه ما في ملامح ذلك الرجل من ضعف النفس، ومن الغش والخداع، ومن الشهوة البدينة.. وأصبحت تكره نفسها وجسدها، لأنها كانت مضطرة للخضوع لهذا الرجل..".
الظمأ للحب رواية رائعة.. أقترح عليكم قراءتها.. وهي تذكّر بالرواية الفاتنة "عشيق الليدي تشاترلي"، للكاتب الانجليزي ذائع الصيت دي. اتش، لورنس.
***
ناجي تظاهر