قراءات نقدية
يوسف علوان: الموت والتجريب في "روشيرو".. مجموعة قصصية
المجموعة القصصية القصيرة جدا للقاص والصحفي حسين رشيد
"روشيرو" مجموعة قصصية قصيرة جدا، للقاص والكاتب الصحفي حسين رشيد، الصادرة عن دار شهريار البصرة / الرافدين بيروت. ضمت المجموعة قصصا قصيرة جدا، قسمت لأربع مجموعات؛ (تعال لأريك، تمعن بتلك، تحدث معك/ ثلاثيات، تخيل ذلك / مشاهد قصصية قصيرة جدا. إذ اختص كل عنوان بوحدة قصصية. وشكلت هذه القصص بمجموعها تجربة فريدة لهذا الكاتب، التي غلبت على قصصه جرأت التجريب وطرح التابوات المسكوت عنها، مثل الجنس والموت والله. من المعلوم أن القصة القصيرة جدا يمكن أن تظهر في مقطع واحد. ويمكن أن تكون جملة واحدة. كذلك يمكن لها أن تتوالى في شكل مقاطع متتابعة ومتوالية، بشرط أن تحافظ على وحدتها التجنيسية والسياقية. ويعتبر تقطيع النص السردي أو الخطاب إلى مجموعة من المقاطع الصغرى أو الكبرى عملية منهجية ناجعة للإحاطة بدلالات النص الظاهرة أو العميقة. وهي خطوة أولية ضرورية لاستخلاص البنيات الصغرى والكبرى التي تتحكم في بناء النص، والتي تعمل على تمطيطه وتوسيعه إطنابا وتكثيفا وإسهابا. وقد أولت السيموطيقيا/علم العلامات عناية كبرى لعملية التقطيع هذه، لما لها من فوائد عملية وعلمية ومعرفية، حيث تساعد السيميائي بصفة خاصة، والباحث والقارئ بصفة عامة، على تحليل وقراءة النص تحليلا علميا دقيقا، ومقاربة الخطاب تفكيكا وتركيبا، واستكشاف وحداته المعنوية، وتحصيل آثار المعنى المباشر وغير المباشر. وأن النص عبارة عن مجموعة من الكلمات والجمل والفقرات والمقاطع والمتواليات، التي تؤلف بدورها وظيفة التواصل والإبلاغ والتداول. وسنتناول ثلاث قصص في هذه المجموعة لقراءتها وتفكيكها وهذه القصص على التوالي:
1- (شقتان – ص 15) تتكون هذه القصة من مقاطع عدة: المقطع الاول أو الاستهلال، يصف لنا الحالة المزرية التي وصلت اليه حالة الشخص المعني، والسبب الذي اوصله لهذه الحال وما الذي فقده: "لم يتبق له ما يمكن العيش من أجله بعد أدمانه الخمرة ولعب القمار، فقدان عمله، وحبيبته، ثم رجولته، في إحدى المشاجرات، الأمر الذي ابقاه حبيس شقته". ويبين لنا القاص ما وصلت اليه حالة الرجل؛ "الدائنون يطرقون بابه، أخذ اثاث الشقة بالتناقص حتى خوت باستثناء فراش نومه المتهالك وكرسي مكسور". وهو بهذا الوصف يهيء القارئ لاحداث المقطع الثاني من القصة!
المقطع الثاني يصف لنا محاولاته للأنتحار وفشله في تنفيذ ذلك، بعد ان صنع أداة موته من فراشه حبلا "علقه في أعلى سقف الغرفة، ثم جاء بالكرسي، ربط الحبل حول عنقه، لكنه كلما حاول القفز عزت عليه نفسه" فيتراجع، بعدها يتذكر ما يمر به فيعيد المحاولة. حاول مرات عدة لكن دون جدوى. صورة التردد والخوف من الموت، والصور المؤلمة التي يعيشها لعدم تسديده ايجار الشقة واحتمال طرده منها بعد انتهاء مهلة مالك السكن له من جانب، وعدم قدرة هذا الشخص اليائس على الانتحار تضع القارئ في حيرة لنهاية هذا الشخص العاجز – هنا نرى قوة التحبيك الذي رسمه القاص من خلال المقطع الثاني واستنفار رغبة القارئ في معرفة ما ستؤول اليه الاحداث؟
المقطع الثالث: "حاول مرات عدة لكن دون جدوى، في المرة الأخيرة التي عزم فيها، خطفت نظره امرأة شبه عارية تتلوى بفراشها في العمارة المقابلة التي يقابل شباك غرفة نومها لشباك غرفة نومه. توقف عن التفكير بكل شيء، غير هذا المشهد... مرر يده بشكل عفوي على عضوه الذكري، استغرب الأمر حين لمس أن الحياة دبت فيه من جديد، أخرجه من زنزانته واخذ يطلقه بيده... وبحركتين او اكثر انتشى، انتشاء كبيرا حتى وصل مرحلة الذروة، وبلحظة القذف تهاوى الكرسي!". مفارقة ساخرة لكنها مؤلمة، سهلت عملية الموت بعد ان أحس ان بعض مما فقده يعود اليه، لكن هذه الفرحة او الراحة التي عاشها في لحظة سريعة كانت هي السبب في نهاية حياته!
- (حفلة – ص 23 ) "في إحدى الليالي الشتائية، وبعد أن انتهيت من كتابة نصي هذا، زارني أبي في المنام، وروى لي ما جرى وحدث في ذلك النهار الكانوني: "وهم يعدون العدّة لأستقبال جنازة شابين. وكيف كانوا يودون الاحتفاء بهما وطرد وحشة القبر عنهما وفراق ذويهما" حاول القاص هنا تشكيل فضاءات دلالية، من خلال اللعب بالفضاء الافتراضي الذي توفره اللغة، زيارة أبيه المتوفي له في المنام وحديثه عن الأموات، بهذا تم نقل القراء الى المقبرة التي يحمل لها كل واحد من القراء صورة ما ، وبهذا بدأت الاحالات التناصية التي تفتح مسارب واسعة للتأويل حول الحياة في المقبرة وكيف يعيشون الموتى.
وبلسان والده المتوفى نقل لنا كيف أنهوا استعداداتهم لاستقبال اموات جدد، اثناء ذلك كان هناك رجل غريب يحوم قرب المقبرة وكأنه ينوي شيئا: "كنا قد أنهينا استعداداتنا لاستقبال الشابين، وفجأة دخل الغريب الى المقبرة.. "الموتى جميعهم بدأوا بالصياح لتنبيه المشيعين، لم يسمع المشيعون صراخهم"عكسنا نحن الذين نعلم بكل من يأتي إلينا زائرا!
"دوى صوت هز كل أرجاء المقبرة، أجزاء متناثرة هنا وهناك من أيدٍ ورؤوس وأقدام مقطعة واصابع مبتورة، شابان أخوان امسك كل منهم الآخر بقوة حتى يحافظ عليه من هول الأنفجار، كانت يداهما ملتحمتين". حتى القبور التي تهدمت والموتى الذين تكسرت عظامهم لم تسلم من هؤلاء! القتلة "جُمعتْ الأجزاء المتناثرة إلا أجزاء ذلك الأهوج، فقد كانت نتنة، ورأسه كرأس حيوان بأسنان أمامية كبيرة، وحاجبين كبيرين شريرين وشفة متهدلة وانف كبير مدور. جمعنا اجزاءه وقمنا بحرقها إلا ان النار رفضت ان ترمى بها وقالت الأرض لا تلوموني وامتنعت ان يدفن فيها، حتى الضواري والكلاب رفضت اكلها". انهم منبوذين في حياتهم وفي موتهم.
3 -(داران – ص 101) "بعد رفضنا ان نكون معهم، ولأنهم وضعونا في خانة الطائفة الأخرى، دسوا من تحت الباب رصاصة لفت بورقة، كتب عليها: (عليكم الرحيل، وإلا فالقتل مصيركم)!.. عائلة تتعرض للتهديد في منطقتها ويطلب منها ان تترك بيتها وتذهب الى الطرف الآخر، ما الذي ستفعله العائلة غير الامتثال لهذا الطلب وباسرع وقت، فليس هناك رحمة في قلوب الذين فعلوا هذا الشيء في هذه المحلة، ومع الاضطرار للمغادرة كنا نمني النفس بعودة قريبة الى كل ما تركناه! المقطع الاول رسم صورة لما كان يجري قبل سنين في بعض محلات بغداد، وما زال الكثير من الناس يتذكرون تلك الاحداث! عمليات العزل الطائفي وكل طائفة افرغت مناطقها من الآخر.
"انتقلنا الى الحي المجاور، اذ كان بيت جدي فارغا. الايام الاولى مرت بسلام غير ان الأمور لم تستمر هكذا" الطائفة التي حُسِبنا عليها طالبونا بحمل السلاح معهم والدفاع عن الحي، ضد الجهة الأخرى، ولاننا لا نملك السلاح ولا المال الكافي لشرائه، "دسوا ورقة ورصاصة أيضا وأمرونا بالرحيل وأتهامنا بالعمالة!" الصورة التي ارادها القاص تصور ما كان يحدث للناس من قبل المتشددين! صورة تحمل الألم والخوف!
"في ذات اليوم فجروا بيتنا الأول متهمينا بنقل المعلومات الى الجهة الأخرى، وحين سمع الطرف الثاني ان بيتا فجر في الحي المجاور وهو في المعتاد يعود لأحد ابناء طائفتهم لم يتهاونوا بتفجير بيتنا الثاني لأننا كنا عملاء للجهة الأخرى وعيونا لهم مثلما جاء بالفتوى!!".
أكثر قصص المجموعة حملت في نهاياتها سخرية مريرة مثل هذه النهاية التي تصور المواطن العراقي وهو يتلقى الضربات من كل الأطراف فجميعهم يدعون دفاعهم عن الناس لكنهم في الحقيقة يسعون لتدمير العراق وتفتيت وحدة الشعب ليتسنى لهم الابقاء على مغانمهم واستمرار مصالحهم.
في فهرست المجموعة، التي قسمت قصصها الى اربع مجاميع، كل مجموعة تألفت من عدد غير معين من القصص القصيرة جدا، في واحدة من عناوين هذه المجاميع اضيف لاسم المجموعة صفة (ثلاثيات) فما الذي اراد ان يقدمه لنا القاص حسين رشيد في هذه الثلاثيات؟ وما هذا النوع من القصص؟ في نسق القصة القصيرة جدا هناك نوعا آخر من الكتابة السردية، تسمى القصة الشذرية تتسم؛ بالتقطيع، والتجزيء، والتشذير، واستعمال الفواصل والمقاطع والفقرات البصرية المركزة، والارتكان إلى الاختزال وتكثيف الوحدات القصصية بشكل من الأشكال. تعتمد الكتابة الشذرية على تقطيع النص الكلي إلى وحدات أو فقرات أو مقاطع أو قصيصات مستقلة بفواصل بصرية وفضائية، وهي عبارة عن نص متفرع إلى نصوص متعددة، قد تصل العلاقة بينها إلى حدّ التناقض! فالشذرات لها استقلالية تامة على مستوى الكتابة والتموضع البصري. كذلك تتوافر القصص الشذرية على معظم الخصائص التي تمتاز بها القصة القصيرة جدا، مثل: الحكائية، والحجم القصصي القصير جدا، وتنويع الفضاء المعماري، وانتقاء الأوصاف، والتوسل بلغة التكثيف والإضمار والحذف، وتوظيف الجمل الفعلية، واستخدام التراكيب الحدثية الديناميكية. من هذه القصص الثلاثية سنتكلم عن إحداها:
"تك، تك، تك
تك
تك، تك، تك، أميال الساعة المنضدية تلاحق بعضها البعض وهي تقف على الرقم سبعة، ما يعني الاستيقاظ. في المطبخ كانت تك، تك، تك، أخرى ترددها فيروز وهي تنادي على أم سليمان وزوجها الذي كان يجمع الخوخ والرمان، الزوجة تنادي على زوجها طالبة منه أن يأتي بالصمون والبيض أو القيمر من المتجر القريب!
تك أولى تعيد التنبيه، وتك ثانية تطلقها فيروز لكن (تك) ثالثة كانت تنتظر الرجل الذي أندمج مع الأغنية أمام الباب وما ان فتحه انتهت التك الأولى، صمتت (التك) الثانية بعد ان دوت التك الثالثة."
"تك ، تك
ظلت أغاني فيروز تدور معه وخاصة (تك) ، (تك، تك) يا أم سليمان حتى أصبحت نشيده الخاص، إذ رافقته مراحله الدراسية حتى تخرج من الجامعة إلا أن فرحة التخرج مسروقة، فالحرب الشرقية دائرة منذ سنين، ولابد من تأدية الخدمة الالزامية التي تمتد شهورا واعواما، الشهور الاولى التي قضاها في التدريب على السلاح. ومع اول معركة اندلعت شرق البصرة، زج مع جمع من الجنود في الصفوف الاولى، منهم من قضى نحبه، ومنهم من فقد، ومنهم من أسر. لكنه مع جندي آخر أضلا الطريق فعاد يردد نشيده الفيروزي ومع خطواتهم الحذرة، سمع (تك، تك) تحت قدم زميله وقضى نحبه و(تك) أخرى سرقت ساقه ليعود بعد سنين الى أمه متكئاً على عكاز موجوع بعدما وقع اسيراً."
"تك، تك، تك
وسط كومة من الساعات مختلفة الاحجام والأنواع والماركات، تمر ساعات يومه مع تكتكة عقارب الساعات ورقاصات البندولات، تدور حول ارقام وجهات تختلف الأوقات في مدنها، نال شهرة واسعة لمهارته ودقته في تصليح الساعات، كما اشتهر في انتقاء الساعات الانتيكة التي لم تعد تسعها جدران المحل.
كان يفتتح يومه بفيروز، وذات وقت جاءه رجل يحمل كيساً يحوي ساعة جدارية ثمينة، كانت خلفية عقاربها صورة الرئيس. وقبل ان يتحدث مع الزبون نادى عليه جاره، ليغلق صوت المذياع ويستعيض عنه بدعاء او قراءة مباركة من القرآن مثلما اسماها، لكنه تجاهل الأمر وعاد الى زبونه الذي طلب منه رفع صورة الرئيس وإبدالها بصورة أخرى كان يحملها معه هذا بعد ان اكد ما قاله جاره، الأمر الذي دفعه الى تجاهله في بادئ الأمر ومن ثم رفضه؟
ومر يوم وآخر وآخر، وذات صباح وهو يهم بفتح محله وجد كيسا عُلقت عليه ورقة بيضاء دون في أعلاها "ارجو تصليح الساعة" وبعد ان فتح باب المحل وهو يتفحص الساعة الثقيلة بعض الشيء، كان يسمع تكتكة أخرى بداخلها لكن عقاربها والرقاص متوقفان، الأمر الذي دعاه الى كشف السبب، إلا أنه لم يتمكن، فعقارب أخرى ورقاص كانا يتسابقان للتطابق فوق بعضهما".
أسم الثلاثية (تك تك تك) تتفرع منها ثلاث مقاطع او قصيصات/ شذرات. اسم الاولى (تك) والثانية (تك، تك) والثالثة (تك، تك، تك) وبالرغم من أن الثلاث تتسم بالتفكك والانفصال على مستوى الظاهر، لكنها تتميز، على مستوى العمق البنيوي، بالوحدة العضوية والموضوعية، والاتساق والانسجام والترابط والتلاحم الموضوعاتي والرؤيوي والمقصدي. وستجد في هذه الشذرات الثلاث المشتركات التالية: تكتكات الساعة وأغنية فيروز، فهذه التكتكة كلنا نعرفها لساعة البيت الكبيرة التي تعني للكثيرين وقت الاستيقاظ الصباحي للذهاب الى العمل او الدراسة بداية ليوم جديد، وهي التي تتعلق معها عيون الشخص الذي ينتظر موعدا مع الحبيب فيبات يعد تكتكتها بولهٍ كبير. لكن هناك تكتكة من نوع آخر هي على النقيض من كل ذلك: أنه الموقت الذي يستعمله الارهابيون في تفجيراتهم ليحصدوا ارواح البشر تكتكة تحمل الموت والدمار! والمصائب التي ابتلى بها الشعب العراقي في حروب النظام السابق العبثية التي دفع ثمنها الانسان موتاَ في ساحات القتال او اضاعة سنين عمره في الأسر او بتر احد اعضاءه في الألغام التي كانت تزرع في الحرب.
"روشيرو" حملها كاتبها حسين رشيد الكثير من الصور القاتمة التي رأيناها في ماضينا القريب ونراها الآن وسنراها في المستقبل لفترات طويلة، الكراهية التي بتنا نحملها للآخرين وباتوا هم يحملونها لنا ليس من السهل ان تتغير وتمسي بعيدة عنا، فنقول عنها "كانت" فنحن نميناها وننميها بثقافتنا التي جبلنا عليها ثقافة عدم قبول الآخر.
***
يوسف علوان