قراءات نقدية
سامي البدري: هل في معبد الرواية العراقية نار مقدسة؟
مدخل عام:
النص الإبداعي، بكافة أجناسه، هو مقترح تغيير ثقافي وليس إعادة تسجيل لوقائع أو مجريات اليومي، كما يقترح البعض، تثبيتاً لواقعية النص أو تحديداً لهويته المكانية (الوطنية)، كما يصطلح عليها.
النص الإبداعي، وكما تقول لغة الشعر، هو عملية (هدم للذة لبناء ألم أكثر لذة)، وهذا يعني أن النص، كمقترح ثقافي، هو عملية هدم وتقويض وخروج على حالة تناقض أو إشكالية فهم لوضع راكد لم يعد قادراً على تقبل أو هضم الأوضاع والمقترحات الثقافية التي تفرضها سيرورة وصيرورة عجلة الحياة في تشوفها وتطلعها للتطور الحضاري ومعطياته الجديدة.
هذا الفهم (الشاذ!!) في الثقافة وطريقة التفكير العربيتين هو أشبه بعملية إقامة برج إيفل في الواقع والبيئة الثقافيتين العربيتين في مطلع القرن الثامن عشر، وما كانت ستواجهه من استنكار، عملية (هدر) كل أطنان الحديد التي استخدمها ذلك المهندس الفرنسي (إيفل) في إقامة برجه العملاق، كمعلم جمالي (في ظاهره) لا أكثر!
العقل العربي الذي ينطلق من مبدأ العملية والاستخدام الأمثل للأشياء، وفق طريقة تفكيره المحافظة المتوجسة والمعادية للتجريب ولما كل ما هو جديد وهادم للقديم والراكد، لم تخترقها، في تاريخنا الثقافي الحديث، سوى بعض العقول الصادمة والجريئة، التي امتلكت الجرأة على تبني مشروع (هدم اللذة القديمة) من أجل بناء (ألما أكثر لذة)، من أمثال نزار قباني وأدونيس وسعدي يوسف ويوسف ادريس والطيب صالح وجبرا ابراهيم جبرا وحيدر حيدر ونصر حامد وسيد القمني وفرج فودة… وبعض الأسماء القليلة الأخرى، التي لا يكاد يشهد أثرها الثقافي، بسبب قلتها ومحاربة جهدها.
لقد ظلت فكرة عملية إقامة برج إيفل (بالمقصد المجازي للفكرة طبعاً) في العقل والثقافة العربيين ووسائل التعبير عنها، فكرة عصية على التقبل والهضم، وخاصة في حقل الرواية، وذلك لعدة أسباب، أهمها هو إصرار العقل والذائقة العربيين على حصر الرواية، كجنس إبداعي مستحدث ومستورد، في ثوب الحكاية الفنتازية والخرافة الاسطورية، عبر رؤيتها (ذائقياً) من خلال (خرم) حكايات ألف ليلة وليلة، بمحمولها الحكائي لا بنائها الإشاري والرمزي، أولاً، وثانياً إصرار الذائقة والرؤية الأكاديمية (النقدية الرسمية!!) على حصر جهد الرواية العربية في محمول الجهد التعليمي (التلقيني المدرسي)، من دون المحمول الإبداعي التطلعي؛ أي تلقينها للطلبة كمجموعة من التقانات والمحددات والشروط الشكلية التي تستوفي عبرها، كعمل، مسمى رواية، لا عبر أهدافها الثورية ـ الثقافية ومحمولاتها التقويضية لما عفى عليه الزمن من الأفكار والرؤى والبنى المفهومية والقيمية للحياة وطرق العيش فيها والتعامل معها.
وكما ظل أدونيس وسعدي يوسف، واشتغالاتهما التي بلا جمهور ـ بتوصيف أدونيس ـ كبرج إيفل رمزي في تأريخ وحياة القصيدة العربية الحديثة، ظلت الأعمال الروائية الكبيرة (الهادمة للذة العابرة) محدودة العدد والأثر في الحياة الثقافية العربية، كمقترحات ثقافية تقويضية تدعو لهدم الخرائب القديمة من أجل إقامة (ابراج إيفل) في مكانها… تكتشف عقولنا النائمة وذائقاتنا المتحجرة، (وكما حصل مع الحكومة الفرنسية، ذات غفوة عقلية وحسية، وفكرت بإزالة برج إيفل لعدم جدواه الاقتصادية… ثم عدلت في النهاية عن ذلك القرار) أنها كانت أجمل وأهم منجزاتنا الثقافية والحضارية وأشدها أثراً في خروجنا لدنيا الحداثة ومعاصرة العالم وتأريخه من حولنا.
طبعاً من نافلة القول أن نذكر أن العيب ليس في طريقة تفكير أو توقد ذهنيّ أدونيس وسعدي يوسف، لأن كل أرض هي صالحة لإقامة برج إيفل على ترابها (مجازاً وتجوزاً)، وطبعاً هذا ينطبق على العقول التي تنتج الرواية أيضاً، إلا أن (إيفل الرواية العربية) أبت الذائقة ـ قبل الذهنية الثقافية العربية ـ أن يقوم لغايته التي ابتدع من أجلها، وذلك لتقولب الذائقة الثقافية العربية على الشعر كوسيلة تعبير أولى وتاريخية أولاً، وثانياً لأن الرواية أكثر سعة و(فضائحية) في كشف المستور من حالة التخلف التي يعيشها العقل والذائقة العربيين، وكذلك أكثر جرأة في تقديم مقترح تغيير للحالة الثقافية القائمة التي يعيشها العقل العربي، ولهذا تحارب الرواية و(رؤيتها الهدامة) وبغطاء ودفع سياسي مؤدلج غير بريء، سواء من قبل السلطة التعليمة الأكاديمية أو من السلطة السياسية، ممثلة بمنافذها الثقافية الرسمية.
تأتي أهمية الرواية كمقترح ثقافي واسع الأثر وشديد الوقع من واقع كونها صيغة حياة بديلة لواقع مأزوم أو متخلف أو معتم عليه من قبل السلطة السياسية، ولهذا وقفت السلطات السياسية العربية بكل قواها لتحجيم دورها في البلاد العربية عبر منافذها التعليمية (الأكاديمية على وجه الخصوص) ومنافذها الرقابية المباشرة… أو غير المباشرة، كما ظهر مؤخراً، عبر الجوائز المخصصة للرواية، والتي انتشرت خلال السنوات الأخيرة بصورة ملفتة للنظر، وركز عليها الاهتمام الدعائي والإعلامي، رغم كل ما ألحقته من أضرار (تحجيمية) بالعملية الإبداعية وحرية التفكير عبرها، وما أشرته ـ هذه الجوائز ـ من دور تسطيحي للفعلين الإبداعي والثقافي.
ولعل أهم ما بات يهدد إبداعية هذا الجنس الأدبي هو الاشتراطات والمحددات التي باتت تفرضها المدرسية النقدية العربية ولجان تحكيم الجوائز، المكونة من أفراد هذه (المدرسية) في أغلب الأحيان، والتي صارت هي المعايير (الرسمية) لفوز الرواية بإحدى هذه الجوائز، وعلى خلاف ما يدلل عليه تأريخ هذا الجنس الإبداعي، والذي يختصره (كوتزي) كما يلي: (إن كلمة رواية تعني شكل الكتابة التي لا قواعد لها… أي التي تخلق قواعدها الخاصة وهي تتشكل)… بمعنى أن الرواية هي الجنس الذي يصنع قواعده خلال فعل تشكله، سواء الفنية أو الثقافية الاستهدافية للعقل والذائقة الثقافيين لأي مجتمع من المجتمعات.
ولعل مثال الروائيين السوريين، حنا مينة (المحافظ في رؤيته والمجسد لركود النظرة الاجتماعية والسلطوية فيما طرح وعالج في رواياته الواقعية ـ الاجتماعية) وحيدر حيدر، (الثوري الهدام للراكد والمتطلع أبداً للتجديد) خير مثال على ما نقول.. فالأول عاش راضياً ومرضياً عنه من قبل السلطة ومنح الجوائز والاهتمام، باعتباره يمثل حاجات ومعاناة المواطن، (لأنه كاتب الشعب، بتصنيف نقاد السلطة الرسميين) والثاني عاش مطارداً مشرداً ومغضوباً عليه من قبل سلطة بلاده، لأنه مثل بالنسبة لها، عنصر هدم مشاغب، سعى لتحريك ماء البحيرة الراكد، وعلى خلاف ما أرادت تركيزه وتثبيته حكومة بلاده، وعياً وطريقة تفكير واستقراراً يمنحها البقاء في السلطة بلا منغصات ثورية وتقلبات سياسية، قد تسحب الكراسي من تحتهم.. ولهذا جاءت روايات حنا مينة بصيغة الحكايات البكائية المتوجعة على آلام المحرومين من أبناء الشعب، في حين جاءت روايات حيدر حيدر بصيغة المقترحات الثقافية البديلة… والاستفزازية طبعاً، التي تطرح رؤاها بروح ثورية مقوضة وقالبة للقائم الراكد، والمحرضة على إقامة (إيفل بديل وحديث) على أنقاض خرائب القديم المتداعي… من الأفكار والرؤى التي لم تعد تتماشى مع روح العصر.
إذن فالنص الإبداعي، والرواية منه على وجه الخصوص، هو مقترح ثقافي تشوفي لما هو قافز على ومتجاوز لما هو قائم من نظم التفكير وطرق الرؤية، من أجل معاصرة حياة المجتمع لسيرورة العملية التاريخية، في متطلبها الحضاري والثقافي، يطرح البديل (المشاغب والهادم لوثن الاستقرار)، والمطوح بقداسته، من أجل إحلال بديل المعاصرة والتحديث… مهما كان (مشتطاً) ومفزعاً لرؤية السلطة، سواء كانت سياسية أو ثقافية مؤدلجة ترى الحياة بلون واحد… لون ركودها… المستقر على سطح البحيرة… دون الالتفات لما يعيش تحت ركود ذلك السطح من حيوات وأسئلة وأحلام وتشوفات تطالب باستحقاقاتها.
الرواية العراقية: رؤية أولية:
تتلبس الرواية العراقية حالة من القوالب والمحددات النقدية والفكرية /الايديولوجية تقترب من حالة الانكفاء ـ ضد الانفتاح ـ جعلت من الرواية، كجنس ابداعي، تدور في فلك لا يتعدى ـ شكلاً ومضموناً ـ حدود جدران الحي العراقي بأضيق واسذج معانيه، الأمر الذي انعكس على حدود آفاقها وقهر محاولات كسر قيود واوهام هويتها وواقعيتها التي لم تتجاوز، في مفهوم الروائي العراقي، حدود المحلية وسذاجاتها، مع بعض الاستثناءات ـ التي تمنح القاعدة شرعيتها طبعاً ـ التي تحولت الى اصفاد أعاقت (جسد) الرواية من ان يتمدد على كامل مساحة سرير الحياة الانسانية، المعرفي والفكري والحلمي.
قبل ما يقرب القرن من عمر الرواية، علّم الروائي الانكليزي (هربرت جورج ويلز) حدود ساحة حروب الرواية بمقولته الشهيرة : (الرواية كيس يمكنك ان تضع فيه ما تشاء)، فكم استفاد روائيونا وخيالاتهم من مساحة الحرية التي اتاحتها لهم عوالم الحرية في تهشيم وازاحة (حالة) القيود النفسية والاجتماعية والايديولوجية، والانطلاق بالرواية الى فضاءات الانا ـ بمفهوم الفردية ـ التي لا تحقق وجودها، كهوية وفعل، الا عبر اقتحام عالم التابوهات التي مازالت بعبعاً خطراً محظوراً/متربصاً مرهوب الجانب، ممنوع مناقشته او الاقتراب والتحديق فيه، كمرآة، بملء العين.
ترى، كم حمّل الكولومبي (ماركيز) كيس (مائة عام من العزلة) من عوالم ورؤى وافكار واجتياحات وانتهاكات، دون ان ينسلخ عن (قيد) هويته وخصوصيته (الوطنية) و(القومية)، في الوقت الذي يتبجح اغلب روائيينا بفض (كيس ماركيز) والنظر فيه، على أقل تقدير؟ كيف تمكن (ماركيز) من ان يدس كل تلك العوالم والرؤى و(الاجتياحات) و(الاستباحات) في كيس (مائة عام من العزلة) دون ان يغادر او يقطع صلته بـ (اركاتاكا) (مسقط رأس ماركيز)، بحيث انه أجبر النقاد ودارسي الادب على اختراع التوصيف الخاص الذي يمكن ان يحتوي او تصنف تحت يافطته حالة ابداعه، بين مصطلحات ومسميات النقد الادبي.
ان اول ما تفتقده وتفتقر اليه الرواية العراقية هي عناصر التشويق والامتاع التي تشد القارئ من تلابيبه. فالرواية، وإن كان من شروطها الموضوعية، ان تكون محملة بصور وإشارات عن مجتمع الكاتب وحالته الزمنية دون شفقة على الذات او استجداء لمشاعر وعواطف الاخرين، فان الرواية ليست كتاباً مدرسياً مقرراً يجب على القارئ تجرعه على علاته وجفافه، وإنما، وكما قال صاحبنا (ويلز)، كيس يجب ان يجد فيه القارئ ـ لتحقق الرواية أغراضها وأهدافها (الفنية والفكرية والثقافية) ـ كل ما هو جديد وغريب وممتع وحاد وصادح وصلب وعميق وصلد وباهر ومثير ومتفتق وسالخ وكاسر للقوالب ومتجاوز لحدود الممكن وسابح في جميع الاجواء والافاق والافلاك من وجوه الخيال؛ ولهذه الوفرة ولهذا الإلمام كانت الروايات الجيدة جيدة!
أعرف أن (شيئنا اليومي) في شؤوننا الحياتية العراقية لا يتوفر على الامتلاء والتنوع والدسامة التي يتوفر عليها يوم غيرنا (بخزينه ومرجعياته) من الشعوب، ليستمد منها روائيونا ما يشحذ خيالاتهم في خلق عوالم إبداعية (صادحة وكبيرة ومثيرة) ولأسباب كثيرة، لعل أهمها فقر: طرق استيعابنا للحياة وأساليب اخذنا لها، والتعامل معها. فالمواطن العراقي، وبغض النظر عما إذا كان مثقفاً منتجاً للفكر والعمل الابداعي أو إنساناً عادياً، يتعامل مع الحياة، بطريقة من الطرق، على انها عبء يجب التخلص من همه والعودة الى البيت قبل حلول الظلام! وهذا يعود لأسباب تتعلق بطرق التربية عندنا بجذورها المختلطة والملتفة حول نفسها، من دينية وعشائرية /بدوية تعتمد قاعدة ان الاصل في الاشياء التحريم وليس الاباحة، وثقافية قائمة على الخوف والرهبة، وقائمة ممنوعاتها تغطي مساحة حياتنا كلها وتزيد، وكل هذا قبل قائمة، وهي الأهم والأخطر، قائمة المحظورات السياسية والسلطوية التي يمثل، أي مساس بقداستها، الموت أو التغييب في السجون حتى الموت!
مشكلة اخرى يعاني منها الروائي العراقي هي الكتابة وفق مقاسات النقاد او الكتابة للنقاد، بدل الكتابة لجمهور القراء العريض، وذلك لتمكن النقاد من اذاعة آرائهم عبر وسائل الإعلام، أي إنهم يمتلكون أدوات ما يمنح العمل جواز مروره ووصوله إلى القارئ، وهي غالباً وفق محددات (ايديولوجية، سياسية، دينية) قبل أن تكون إبداعية طبعاً. وبمعنى اخر فان الروائي العراقي يكتب روايته وفق رؤية (محددات) وقائمة ممنوعات النقاد القائمة على العرف الاجتماعي والكبح الايديولوجي الذي قولبوه في جلابيب التنظير النقدي من ايام لغو الواقعية والواقعية الاشتراكية، التي أحالت (لمدة ثلاثين عاماً) العنصر البعثي والقائد العسكري الى (إله) لا يخطئ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في روايات سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، بالنسبة للسلطة، وعرض مأساة (المناضل الشيوعي وظروف اعتقاله وسجنه) بالنسبة للمعارضين؛ متناسياً ـ الروائي ـ عرف وقضية ان: أن الادب الجيد، في صلب أهدافه، هو الذي يكسر القوالب والمألوفات ويطفو فوق ما اعتاده القراء والنقاد، والتحليق عالياً في عوالم الخيال والخلق والتجديد وكسر الصور النمطية والمتداولة، كما فعل صاحبنا (ماركيز)عندما أجبر نقاده على التحليق على ما تحت اقدامهم ليجدوا توصيف (مصطلح) الواقعية السحرية، لاستيعاب حالة ابداعه التي تفرد بها.
ومن هنا نخلص إلى إن المألوف الاجتماعي ـ وهو عقبة يحسب الروائي العراقي لها حسابها ـ هو (آخر)، بحسب التوصيف السارتري، لابد من اقتحامه للارتقاء (بمزاياه)، ثقافياً وفكرياً، ليتمكن مبدعنا في النهاية من وضع حروف لغته الجديدة تحت ما يجب ان يبقى من نقاطه، لا تقديسه أو عيش فوبيا الاقتراب منه ومساسه بالنقد والتقويم.
نظرة اخرى في الرواية العراقية:
ذات مساء، سماءه تمطر نجوماً لاصفة، قال الاخفش: الشعر اضطرار. وفي مساء آخر سماؤه اشد صفاء ونجومه أكثر لهاثاً قال الاصمعي: الشعر نكد بابه الشر، فاذا دخل في الخير فسد. وفي ظني انما قصر الاثنان، فعل الاضطرار وتوصيف النكد على الشعر وحده لأنه كان شكل ووسيلة التعبير الوحيدة التي عرفتها الثقافة العربية حينه، أي لأن الثقافة العربية لم تعرف حينها لا الرواية ولا باقي فنون التعبير النثرية.
وتأسيساً على هذه الحقيقة، أرى ان اجتراح فعل الكتابة في أي من أشكالها وأجناسها الادبية خارج حدود هذين الشرطين، (شرطيّ) الاخفش والاصمعي، يستحيل الى فعل قسري يشبه عملية الخروج للتنزه في ظهيرة قائظة هواؤها راكد. وإذا ما سحبنا هذا التأسيس على فعل كتابة الرواية العراقية ومستوياته الابداعية سنجد أن أغلب هذه الروايات لم تكتب تحت ضغط العاصفة الإبداعية، وإنها أقحمت في باب الخير والاصلاح وخدمة ما أطلق عليه النقاد المؤدلجون توصيف الأدب الملتزم المسخر في (خدمة قضايا المجتمع والشعب والأمة واحتياجاتها الضرورية والأكثر التصاقاً بمشاكلها المصيرية)، بمعانيها السياسية وبدعوة شعارية سياسية صرف. إن أهم ما تفتقر اليه الرواية العراقية هو عوامل الاتقان البنيوية والادهاش والإمتاع والتنويع والطفو فوق مستنقع الواقعية (المعيش اليومي)، بمعناها التقريري، تلك الواقعية التي لا يفهمها أغلب الروائيين العراقيين الا من خلال الجانب الوعظي والنصحي ومحاولة عقلنة او اخضاع كل ما يتعلق بالجانب الفكري والسايكلوجي والباطني لضوابط الموروث الاخلاقي والعرف الاجتماعي، بمعانيها الاستاتيكية المقولبة. وبصياغة ثانية، طرح الصورة او التصور المثالي لما يجب ان يكون عليه الانسان، وفق نظام قيم الخير التي تحددها تلك المواريث والأعراف، لا وفق ما هو عليه كائن او ما يظهر عليه في حياته اليومية فعلاً وما يمارسه من سلوك فعلي.
لا أحد من الروائيين يجالس المرآة أو صورته الفوتوغرافية ـ الا بعض الحالات الشاذة والنادرة ـ ليقرأ في صفحتها ما تعكسه من ثوابت تكوين وجهه الطبيعية، وإنما هو يعاينها بقصد تعديلها واضافة ما يجملها ويرتقي بمعاني وآثار تعبيرها. لا تكتب الرواية بقصد نقل صورة فوتوغرافية عن واقع الحياة او الشيء اليومي، باعتباره نكداً وبصيغة الاجترار لمأساويته أو تخلفه، إنما تكتب بقصد الكشف والاجتراح واقتراح البدائل الصورية والتصويرية (الفنية – الجمالية) لذلك النكد، قبل اقتراح الحلول لتجاوزه.
واستناداً الى رؤية الاصمعي في تحديد الشعر ـ مجازاً طبعاً ـ ميداناً لطرح رؤى العملية الابداعية، فإن نقل الصورة الفوتوغرافية عن معاناة سجين ما مثلاً لا تجترح شيئاً جديداً او تضيفه الى معارف المتلقي او تحلق به فوق همومه ومعاناته، بحد ذاتها، (عندما يلجأ الى الرواية بحثاً عن سلوى ومتعة كشفية – فكرية)، وإنما زراعة ذلك السجين لشجرة في زنزانته ورعايته لها الى الدرجة التي يقنع بها المتلقي إنها أثمرت رؤوساً مختلفة الوجوه والافكار، حاورت السجين وطفت به على عذابات وحدته، هو الجانب الابداعي والجمالي الذي يبحث عنه المتلقي.. وان نجاح الروائي في ادهاش وتمرير واقناع القارئ بجدوى تلك الفكرة ـ فكرة الشجرة ـ هو هدف الرواية ومطلبها الأول، من الناحية الفنية والجمالية، كما أسلفنا. وإذا ما عدنا ـ على سبيل المثال ـ الى مبتدع الواقعية السحرية (ماركيز)، فسنجد أنه قد نال اعجابنا ومديحنا لأنه تمكن من امتاعنا وادهاشنا و(اقناعنا) بقبول خدعة طيران (ريميديوس الجميلة) ـ على سبيل المثال ـ بشرشف من على حبل الغسيل والتحاقها بعالمها الخاص، والذي اقتطعت أو انفصلت عنه في ساعة نحس ربما. وهذا ما فعله عبد الرحمن منيف عندما ابتدع لنا شخصية الياس نخلة وأقنعنا بكل بوهيميتها وتناقضاتها وتقلباتها وسوء الطالع الذي يتلبسها. وهو الشيء عينه الذي فعله الطيب صالح مع شخصية مصطفى سعيد، التي تمكن من خلال تناقضها وغرائبيتها من سحبنا الى غرفة سحره الاسود (بحسب توصيف الراوي)، التي يشبه سقفها ظهر الثور، على أمل الوقوف على رموز وطلاسم السر (السحري/الشيطاني) الذي يقف خلف تكوين شخصية مصطفى سعيد.
إن اطروحة ما سمي حينها (خلال عقود خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي) بالأدب الملتزم، التي فرضت التدجين الشمولي، على الأدب من خلال قالب مقنن لشكل ومضمون الطرح الادبي، وهو ما أطلق عليه حينها (الواقعية والواقعية الاشتراكية) يكاد يكون قد اوقف نمو الرواية العراقية عند حدود ذلك القرار السياسي والذي حدد نتاجها ببضعة الأسماء التي كانت تمثل رؤية النظام وتعكس ايديولوجيته. ولم يأت عقد الثمانينيات، عقد الحرب الايرانية العراقية وعقد أدب الحرب (الأكثر تحديداً وتقنيناً) ـ الأدب التعبوي ـ إلا ليجهز على البقية الباقية من فنية الرواية وآفاق تطورها.
ما ورثته الرواية العراقية من حقبة حكم النظام السابق وهيمنة شموليتها الايديولوجية على جميع نواحي حياة المجتمع، هو النسق الوعظي والنصحي في الطرح، وهذا النسق هو أخطر أمراض العملية الابداعية وأشد معوقات نموها الطبيعي. كما إنه، في الوقت نفسه، يشكل الجدار الخرساني الأصم في أفق تطورها، الذي بلغته الرواية عالمياً، من خلال الانفتاح في الطرح وعدم التقيد بالمألوفات والمحددات القيمية والسلوكية على كل الأصعدة والمناحي الفكرية.
لقد وضع الأصمعي في صرخته العبقرية تلك شاعرية حسان بن ثابت كمثال أمامنا، بما تبقى منها، عندما سخر ذلك الشاعر، شاعريته، بعد البعثة، في باب الخير، حيث لم يتبق من فنيتها شيء يستحق الذكر، لأن أغلب شعره قد تحول إلى الوعظ والنصح، بعيداً كل المعايير الفنية التي تجعل من الكلام شعراً لا مجرد نظم تعوزه روح الشعر وجمالياته.
وبالمقابل، فهذا مثال الياس نخلة (بطل رواية الأشجار واغتيال مرزوق) وزوربا اليوناني، عندما تجاوز بهما مبدعاهما حدود باب الخير والمألوف والمحظورات؛ فقد حلقا بنا في فضاءات تفوق ألوان دهشتها ألوان الطيف الشمسي في العدد والتشاكل والغموض اللذيذ المحرض على الاقتحام.
ووفقاً لتصور الحكمة المسيحية التي تقول: (مهمة الانسان على الارض ان يحول الخطيئة إلى نعمة)، فإنه من باب أولى أن نصف مهمة الروائي، استناداً الى هذه الحكمة، هو تسويغ المجاهيل وترويض اللامعقول واقتحام كل ما ظل محظوراً بسبب الخوف، أياً كانت أسبابه وذرائعه، وبالتالي تحويل مفردات الخطيئة الى نعمة الكشف وفض البكارات التي يجب أن تسقط... وهذا هو شغل الرواية الذي حدده مبتدعيها ومبدعيها الأوائل أو المؤسسين.
زاوية نظر أخرى:
نحا الروائي جبرا ابراهيم جبرا (الروائي الفلسطيني الذي عاش في العراق، منذ عام ١٩48 ومات ودفن على أرضه) منحى متفرداً في دراسة البنية الثقافية والثقافة الاجتماعية للمجتمع العراقي (في رواياته) من خلال تشريح ودراسة طبقته الارستقراطية. وكان هذا المنحى بمثابة (اقتراح) على المثقف العراقي لدراسة البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعه من خلال دراسة أحوال وثقافة وطرق تفكير الطبقة المتنفذة في المجتمع، وهذا على الضد مما درج عليه ـ ومازال ـ المثقف العراقي (شاعراً وناثراً) في دراسة المجتمع وبنيته الثقافية وتشخيص علله من خلال عرض مشاكل وأوجاع طبقات المجتمع المسحوقة أو الطبقة المتوسطة.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن الادب العراقي عام 1948 (عام وصول جبرا الاديب والمترجم إلى العراق) لم تكن حصيلته الروائية والقصصية تستحق الذكر، في المعيار النوعي والكمي على حد سواء. فقد كانت الرواية العراقية ماتزال في أولى خطواتها الخجلة والقائمة على فكرة التسلية ومخاطبة المشاعر؛ من دون الالتفات الى زاوية (مسؤولية) الفن القصصي في عملية التأثير الثقافي، واقتراح وإعادة النظر في البنية الثقافية والفكرية للمجتمع، وبالتالي الاسهام في إعادة تشكيل البنية الاجتماعية والثقافية لعموم المجتمع والتنظير (فكرياً) لمستقبله ككل.
دخل جبرا المسلح بالثقافة الحديثة ـ خريج الجامعات البريطانية ـ إلى المجتمع العراقي (غازياً) طبقته الارستقراطية لعدة أسباب، لعل أولها رؤيته الخاصة القائمة على تفضيل دراسة المجتمع من خلال مادته (الغنية) و(الدسمة)، الطبقة الارستقراطية، لما تنطوي عليه حياة هذه الطبقة من غزارة في (البنية التحتية) مادياً وثقافياً وقيمياً، وكمرآة عاكسة لبنية المجتمع ككل ثانيها؛ ولحفاوة هذه الطبقة بجبرا وما جاء به من ثقافة وأجواء الحضارة الحديثة من حياة المجتمع البريطاني وجامعتيّ اكسفورد وكامبرج اللتين درس فيهما ثالثها؛ وأيضاً بسبب نرجسية أو التركيبة السايكولوجية لجبرا الانسان والاديب، في تقديم نفسه على إنه الفتى المعجزة وصاحب التأثير (الانقلابي)، في الوسط الذي يحيطه رابعاً.
بدءاً، لابد من لفت نظر القارئ إلى ذوبان جبرا في الحياة والثقافة العراقيتين، قبل الاشارة إلى سعيه للتأسيس لرواية عراقية تستوفي شروط العمل الروائي ـ الابداعي - شكلاً ومضمونا.
ورغم أن جبرا قد انشغل وطرح أبطاله ـ كانوا نسخاً كاربونية لشخصه في أغلب الأحيان ـ على نمط البطل الاعجوبة الذي حظي بإعجاب وتدليل الطبقة الارستقراطية العراقية ككل، وحب وتدله نسائها بشخص الاعجوبة الحضارية (المثقفة) التي قدم نفسه عبرها للمجتمع العراقي، إلا أنه، وبالمقابل، وضع يده على الكثير من اشكالات ومشاكل المجتمع العراقي، وشَخص معوقات نهضته الثقافية، من خلال تشريح ما أطلق عليه العلامة علي الوردي: (الثقافة الاجتماعية).
لم يهضم طرح المرحوم جبرا من قبل مجايليه العراقيين، بدراسة المجتمع العراقي من خلال دراسة او تشريح طبقته الارستقراطية التي كانت متنفذة في أغلب مناحي حياة المجتمع، وهذا ربما بسبب محدودية عدد من تصدوا لكتابة هذا الفن الجديد حينها، أو ربما بسبب عدم امتلاكهم لجرأة جبرا، الذي حمته جنسيته الفلسطينية من انتقام رجالات تلك الطبقة، المتنفذين سياسياً واقتصادياً، جراء فضحه لحقيقة نماذجهم وسلوكياتها الملتوية وتهتك حياتهم داخل قصورهم الفخمة، وربما بسبب جهل كتاب الرواية والقصة، ذوي الاصول الطبقية العمالية والفلاحية والمتوسطة، بدقائق وتفاصيل حياة تلك الطبقة المنعزلة نسبياً عن حياة وواقع باقي شرائح المجتمع، بحكم الغنى المادي والجاه الاجتماعي والسطوة السياسية، وربما، ولأسباب سياسية ورقابية، لم يقترب الأديب العراقي من تناول (الطرح الجبروي) ذاك، حتى في عقديّ السبعينيات والثمانينيات، باعتبارهما مثلى وعبرا عن ـ من الناحية التكنيكية ـ مرحلة نضج نسبية لفن الرواية العراقية، مثلما مثلى مرحلة إزاحة وتذويب هيمنة تلك الطبقة، لأسباب سياسية صرف، باعتبارها كانت ترمز لعهد الاقطاع والاحتكار والتسلط والتحكم الجائر بمصير عموم أبناء الشعب من الفقراء، بحسب الأدبيات السياسية لتلك الفترة، والتي هيمنت عليها التوجهات اليسارية لعموم الكتاب. هذا مضاف إليه، الاصول البرولتارية والفلاحية لعموم ضباط الانقلابات العسكرية التي أطاحت بالحكم الملكي والطبقة الارستقراطية، والتي سعت إلى تشويه سمعة وتاريخ تلك الطبقة، باعتبارها رمزاً للفساد السياسي.
من جانبي أميل في ارجاع سبب رفض الطرح الجبروي من قبل الادباء العراقيين، واستناداً الى نتائج بحوث العلامة علي الوردي في حقل علم الاجتماع، والتي اتخذت من تشريح ودراسة طبيعة المجتمع والفرد العراقي مادة لها، إلى كره الأديب العراقي، وهو من اصول عمالية ومتوسطة في أغلب الأحيان والمراحل التاريخية، للطبقة الارستقراطية، باعتبارها مثلت وجه حالة القهر والحرمان لعموم المجتمع، في المراحل التي سبقت انقلاب 14 تموز من عام 1958، ولذا فان الأديب، (وهو ذو خلفية ثقافية يسارية في أغلب الاحيان)، رأى في الكتابة عن الطبقات المسحوقة واستعراض معاناتها، جزءاً من واجب الوفاء الوطني والايديولوجي وتعجيلاً بنهاية تلك الطبقة التي قهرت وتنفذت واستمتعت لعقود طويلة؛ وبالتالي، تحميلها مسؤولية تخلف وحرمان الشريحة الاعظم من أبناء المجتمع.
ورغم تحجيم دور ونفوذ وثروة تلك الطبقة بعد انقلاب 1958 من خلال قانون الاصلاح الزراعي وعملية تأميم بعض ثروات تلك الطبقة، تحت شعار، من اين لك هذا، الذي رفعه قادة ذلك الانقلاب، فإن تجاوز واهمال الأديب العراقي لـ (تراث) و(ثقافة) ودور تلك الطبقة لا يعني القضاء على دورها ونفوذها الاجتماعي والاقتصادي وأثرها في الحياة العامة ومفاعيلها، بل هو كان اهمالاً سلبياً، لم يكن له إلا الأثر النفسي على دهاقنة تلك الطبقة.
وفي ظني، فإن التجاوز الاعتباطي لتراث وإرث تلك الطبقة (الثقافي) لم يحد من اثرها ـ ان لم يكن قد دعمه ـ حتى في سنوات تجربة التطبيق الاشتراكي في سبعينيات القرن الماضي، التي سرعان ما أفرزت (ارستقراطية) بديلة من خاصة النظام الجديد ومن اصول قروية، هذه المرة، ومن عناصر لم تتوفر على وعي وثقافة ـ العلمية على الاقل ـ الارستقراطية القديمة؛ وبالتالي خسارة المجتمع (لإرث) الارستقراطية (الاصيلة) كأحد طرق ـ ان لم تكن أهمها ـ دراسة المجتمع وبنيته الاجتماعية، كوسيلة للنهوض به من خلال اصوله الثقافية التي شكلتها عملية حراكه التاريخي وتراثها الحديث، ومنذ تأسيس دولته الحديثة عام 1921، والتي أسستها الطبقة الارستقراطية بالذات، باعتبار أن إعادة بناء المجتمع والارتقاء بنوع ومستوى حياته وثقافته، تقوم على أساس تغيير وتحسين ظروف المجتمع، لا بالتجاوز والإهمال الجائر لإحدى طبقاته او مكوناته الاجتماعية وتجاوز إرثها الثقافي أو تشويهه.
وبالنسبة للأدب القصصي والروائي، فإن هذا الفن يحتاج الى غنى وتنوع في الحدث وتعقيد أو تركيب في بنى شخوصه ليستوفي عناصر الشد والجذب والتشويق، وليوفر بالتالي عنصريّ (الدسامة) والعمق التي تكفل نجاح العمل الروائي وإقناع المتلقي بجماله قبل طروحاته ورؤاه الفكرية. وفي تقديري فان حياة شريحة الفقراء لم تكن تتوفر على جميع عناصر الجذب، لفقرها على مستوى عناصر التشويق ودسامة الحدث، لبساطة مفردات حياة هذه الطبقة ومعهوديتها أولاً، ولما تمثله عملية تجاوز دور الطبقة الارستقراطية، مع بقاء أثره الفعلي في الحياة العامة ونسقها الاجتماعي، من اجتزاء وابتسار لواقع وحياة المجتمع وبناه ومرجعياته الثقافية ككل.
لا بد من الاشارة هنا إلى إن التجربة المماثلة الوحيدة للروائي عبد الرحمن منيف (كونه عاش في العراق هو الآخر وكتب بعض رواياته داخل أجوائه الاجتماعية والثقافية) التي اقتربت من الاقتراح (الجبروي، نسبة إلى جبرا) وصبت في ذات فهم جبرا، وهي رواية عالم بلا خرائط، فإني آخذ عليها أنها لم تكن تجربة أو رؤية خالصة لعبدالرحمن منيف (كانت تجربة مشتركة مع جبرا ابراهيم جبرا)، لأنها كانت بطرح ونفس واسلوب ـ ان لم نقل بهوية ـ جبرا ابراهيم جبرا الذي ألفه جميع الأدباء والروائيين العراقيين، ويتضح هذا من خلال جو وطريقة بناء وثيمة وحبكة وهويات شخوص الرواية، وسيطرة نوع معالجة وذائقة وطروحات جبرا على هوية و مسيرة الرواية من الفها الى يائها، وإلى حد استعصاء أمر الفرز بين حتى قاموسيّ وطريقة بناء الجملة لدى كل منهما، أو فرز لغة عبدالرحمن منيف عن لغة جبرا. هذا إضافة إلى أن تلك التجربة كانت كالنزوة العابرة في مسيرة المبدع منيف وخارج حدود خطه الروائي، إذ إنه لم يكرر طرح طريقتها أو نفسها أو معالجاتها في رواياته اللاحقة، وهذا يعني أنه لم يكن يتبنى رؤية جبرا في هذا الجانب، كأي روائي عراقي ممن عاصروا جبرا. لقد اضاء اقتراح جبرا هذا الكثير من زوايا العتمة التي اكتنفت ـ بسبب الإهمال الجائر ـ في حياة المجتمع العراقي، إلا أن مساهمته لم تنل استحقاقها في البحث والدراسة والاستيعاب من قبل علماء الاجتماع والنفس العراقيين، بل ولا حتى مجرد التنويه بها من قبل الأدباء ونقادهم، رغم أنها كانت مساهمة ذكية ومتميزة لمدخل جديد إلى حياة وطبيعة تطور المجتمع العراقي وعناصر تكوينه وبنائه، وربما يتحمل مسؤولية هذه المشكلة الثقافة السياسية للروائيين العراقيين، والتي كانت يسارية في العموم ولها عداء ايديولوجي مع كلمة طبقة من الأساس، فما بالك بقضية كبيرة من مثل ثقافة الطبقة الارستقراطية.
خاتمة:
إذا ما صنفنا فترة سبعينيات القرن الماضي على إنها فترة نضوج فن الرواية، في أغلب البلاد العربية، فإن تلك الفترة في العراق كانت مرحلة مد وهيمنة ايديولوجيين، بعثي في السلطة ويساري – ماركسي بين صفوف أغلب الكتاب والصحفيين، وعليه فإن كل أشكال الكتابة، وأولها الأدب، كانت تخضع لرقابة رقيب سياسي وايديولوجي، منع أي شكل من أشكال الحرية في الكتابة على منتظمي حزب السلطة ذاتهم.. وللأسف فإن جميع أدباء تلك الفترة لم يروا وجهاً للكتابة خارج حدود المعطيات السياسية والروية الايديولوجية، وربما كان هذا أحد أسباب عدم تطور الرواية العراقية.
وهذا يعني (وربما سيتهمني البعض بالتعسف) أن الرواية العراقية لم تؤسس لنفسها بإرث مرجعي (كمي – نوعي) يعتد به. ولعل ما يبرر هذه الرؤية هو حالة (الانفلات) التي شهدتها العشرين سنة الأخيرة من عمر الثقافة العراقية، أي عمر العقدين اللذين أعقبا زوال حكم البعث وما رافقه من حرية على مستوى النشر والتعبير عن الرأي.
فخلال العقدين الأخيرين شهدت حركة النشر في العراق ثورة كمية هائلة، وربما صارت المطابع العراقية تنتج رواية لكل يوم، ولكن من دون النظر في قيمة المنتج أو المتراكم للأسف.
كم روائي تصعب حتى متابعته احصائياً، فما بالك بالمتابعة النقدية المحكمة والرصينة؟
وسأقولها وبأسف، أن أغلب من تصدوا لطباعة كتب تحت مسمى رواية ليسوا بروائيين، بل أغرتهم وفرة المال بين أيديهم على طباعة كل ما عن لهم من أجل الحصول على عضوية اتحاد الكتاب، أو على أمل المشاركة في مسابقات الرواية، طمعاً في جوائزها المادية ونيل شهرة الغفلة.
وكل هذا تم في غياب الجهد النقدي المخلص للعلية الابداعية، واعتماد الغالبية على التسويق الاعلامي الشللي بين الاصدقاء والمعارف، وهذا ما سفح سيولاً من المديح المجاني، الذي تصدمك حقيقة دوافعه منذ قراءة الصفحة الأولى من الرواية، وليس من الفصل الأول حتى.
وفي النهاية فإن ما تراكم من كم لا يؤسس لمرجعية تاريخية - ابداعية روائية، كما هو حاصل في البلاد الأخرى، بل هو مجرد زبد للأسف سرعان ما يطوي النسيان حتى ما يصدف وأن يذكر (في مهرجانات توزيع الجوائز على الأقل)، وهذه الحالة لا ينفرد العراق بها لوحده، بل هي حال أغلب البلاد العربية للأسف الشديد.
***
دكتور سامي البدري