قراءات نقدية
الإسلاميَّات في "صادق أو القَدَر" لـفولتير.. دراسة مقارنة (5)
تحفل قِصَّة "صادق أو القَدَرZadig Ou La Destinnée "، للفيلسوف الفرنسي (فولتير Voltaire، -1787) بسلسلة من الخيانات العاطفيَّة، التي تؤدِّي بالقارئ إلى انطباعٍ عامٍّ حول المرأة، هو أنَّها قليلة الوفاء، سريعة الغدر بالرَّجُل، تضعف أمام المغريات بسهولة. وتلك ثقافة تقليديَّة، لا أصل لها من الواقع الاجتماعي، سِوَى نظرةٍ ظالمةٍ تمييزيَّةٍ ضِد المرأة، سبق التعليق على منابتها في مقال سابق. ومن هنا بدت (الخيانات) محورًا من محاورة هذه القِصَّة/ الرواية.
فهذه (سمير) تغدِر بحبيبها (صادق) في أوَّل القِصَّة، وتتركه لتقترن بعدوِّه (أوركان). ثمَّ تأتي (أزورا)- المرأة الثانية في حياة صادق- فتغدِر به هي الأخرى، وتوشك أن تجدع أنفه لتشفي (كادور)، الذي تظاهر بحُبِّها ليكشف أمرها. هذا على الرغم من أن أزورا كانت قد ثارت ثائرتها لمَّا رأت خيانة إحدى النساء: وهي تلك الأرملة الشابة (خسرو)، التي عاهدت إلاهها، أثناء حزنها على فقد زوجها، على أن تقيم على قبره ما جرَى ماء الجدول قريبًا منه، غير أنَّها ما لبثت أن أخذت تحاول تحويل الجدول عن مجراه؛ كيلا تفي بما عاهدت ربَّها عليه! فإذا أزورا نفسها- الثائرة على خيانة خسرو- ترتكب من الخيانة ما هو أكبر.(1)
وصولًا إلى زوجات ملِك (سرنديب) المئة، اللاتي اكتشف خياناتهن جميعًا، عدا واحدة فقط. وتختلف التسع والتسعون امرأةً من زوجات الملِك في دوافعهن إلى الخيانة؛ فمنهنَّ مَن تخون حُبًّا في الجَمال والفُتوَّة، ومنهنَّ مَن تخون حُبًّا في المال، وإنْ عَدِم صاحبُه الجَمال، ومنهنَّ مَن تخون حُبًّا في حلاوة البَيان وعنفوان البَدَن، وإنْ عَدِم صاحبُهما المالَ والجَمالَ معًا.(2)
وتُعَدُّ (الحِيلة) من المحاور التي تدور حولها القِصَّة. فقد استطاع (صادق) أن يكتشف مدَى إخلاص زوجه (أزورا) بحِيلةٍ اختلقها مع صديقه (كادور). إذ تظاهر (صادق) بالموت، فأجهشت زوجُه بالبكاء، وانتزعت شَعرها في اليوم الأوَّل، ثمَّ بكت أقلَّ من ذلك في يومها الثاني. وعندئذٍ أَسَرَّ إليها (كادور) بأنَّ صادقًا قد أوصَى له بالثروة، وعرضَ عليها أن يقاسمها إيَّاها؛ وشيئًا فشيئًا اكتسب ثقتها، فاعترفتْ بأنَّ "الفقيد" لم يَخْلُ من بعض العيوب، التي برئ منها كادور! ولمَّا شكا كادور إلى أزورا أَلَـمًا عنيفًا في الطحال، وزعمَ أنْ ليس له إلَّا دواء واحد، هو أن يوضع على جنبه أنف رجُلٍ مات من أمسه، همَّت– رغم استغرابها- بجدع أنف زوجها صادق لعلاج كادور! وبذا تبيَّنَ صادق مدَى حُبِّ زوجه إيَّاه ووفائها له.(3)
وبحِيلة (صادق) اكتشف ملِك (سرنديب) خيانة المرشَّحين لمنصب خازن المال وفسادهم. فقد قال صادق للملِك: "إنَّما هي أن تدعو المرشَّحين لهذا المنصب جميعًا إلى الرقص، وأيُّهم كان رقصه خفيفًا نشيطًا فائتمنه على بيت مالك." وكان صادق قد أعدَّ للرقص حُجرةً يسلك إليها المرشَّح ممرًّا ضيقًا مظلمًا، عرضَ فيه الملِك كنزه، فكان مَن مرَّ منهم يملأ جيوبه حتى يثقله ما حملَ، فلا يرقص إلَّا بعناءٍ شديد! وبذلك رأَى الملِك بين أربعة وستين راقصًا ثلاثة وستين سارقًا؛ فعاقب أولئك السَّرَقة وأكرمَ الأمين الوحيد منهم وجعله على خزائنه.(4)
وبشِبه تلك الحِيلة امتحن ملِك (سرنديب) أزواجه ليتبيَّن خياناتهن جميعًا، إلَّا واحدة اصطفاها زوجًا من دونهن.
ويدخل (الدِّين) محورًا من محاور قِصَّة "صادق" لـ(فولتير). ففي الفصل الثاني عشر، يجتمع جماعة- فيهم المِصْري، والهِندي من (جنجاريد)، والنازح من أرض (كتاي)، واليوناني، والكلتي، وآخرون- على مائدة العشاء في حديثٍ عن أوطانهم ودياناتهم. وفي حديثهم ذاك خير مثالٍ على هذا المحور في القِصَّة، مصوِّرًا مقدار ما قد يؤجِّجه الدِّين بين الشعوب من عدم التعارف، بل من المفاخرات والصراعات الدمويَّة.
وهو ما سنناقشه في مقال الأسبوع المقبل من هذه السلسلة.
***
أ. د. عبدالله بن أحمد الفَيفي
(رئيس الشؤون الثقافيَّة والإعلاميَّة بمجلس الشورى سابقًا- الأستاذ بجامعة المَلِك سعود)
......................
(1) يُنظَر: فولتير، فرانسوا ماري آرويه، (1979)، القَدَر، قِصَّة نقلها إلى العَرَبيَّة: طه حسين، (بيروت: دار العِلم الملايين)، 19- 21.
(2) يُنظَر: م.ن، 87- 88.
(3) يُنظَر: م.ن، 19- 21.
(4) يُنظَر: م.ن، 83- 84.