قراءة في كتاب
فؤاد الجشي: رحلة في التيه الإنساني.. الهروب والمعنى والفقد

في كتابه العميق "ما وراء اللذة: مقاربة تحليلية في وصف الظاهرة الإنسانية"، يفتح الكاتب محمد الغوينم نافذة فكرية نادرة على الإنسان، لا من زاوية الفعل الظاهر، بل من داخل التجربة، من صمت النفس وخشونة الصراع، من انزلاق الرغبة وتجلّي الخوف، من تلاشي المعنى وارتباك الحضور. الكتاب لا يندرج ضمن تصنيفات جاهزة، بل يُقدّم نفسه كجولة تحليلية تأملية في الظاهرة الإنسانية، من خلال ثلاث محطات: فلسفية، ونفسية، ووجودية، تتعاقب دون ادّعاء اكتمال، ولكنها تفتح أبوابًا للانتباه والتفكير.
في الفصل الأول، "الهروب عن الأصل"، يتتبع الكاتب الحركة السرّية للإنسان وهو يبتعد عن نقطة بدئه، عن ذاته الأولى. ليس الحديث عن طفولة زمنية، بل عن أصل وجودي، عن ذاك الإنسان الذي كان يمكن أن يكون، لولا أنه اختار الهروب، دون وعي. يطرح الكاتب السؤال المستفزّ: لماذا نهرب عمّا نحن عليه؟ لماذا نُسكت الصوت الداخلي ونستبدله بضجيج الحياة اليومية والمظاهر والنجاحات الشكلية؟
هنا، يلتقي التحليل النفسي بالفكر الفلسفي، حين يُفسّر الكاتب "الهروب" كنوع من الرفض الرمزي للضعف، وكأنّ الإنسان لا يحتمل هشاشته، فيُجمّلها، يهرب منها نحو "الهوية"، نحو "الدين"، نحو "القيم"، ولكن ليس لأنّها حقيقية، بل لأنّها قناع مريح للغربة الداخلية.
يبدو الإنسان وكأنه يلبس قناعًا تلو الآخر، حتى ينسى وجهه. هذا الهروب لا يولّد الخلاص، بل يولّد القلق المزمن؛ لأنه كلّما هرب الإنسان من ذاته، شعر بخواءٍ أعظم. النص هنا فلسفي في جوهره، لكنه ينبض بلغة أدبية آسرة، تجعل من هذا الهروب سردًا داخليًا موجعًا أكثر منه مفهوما تجريديًا.
الفصل الثاني، "رغبة المعنى"، ينتقل الكاتب من تشخيص الهروب إلى تفكيك السؤال الذي يولد منه: ما هو المعنى؟ ولماذا نبحث عنه؟ يبدأ هذا الفصل من الفكرة القائلة أنّ الرغبة في المعنى ليست ترفًا فكريًا، بل حاجة وجودية تنبع من شعور الإنسان العميق بالتّيه. نحن لا نبحث عن المعنى لأننا نعرفه، بل لأننا لا نتحمله غائبًا.
إنّ المعنى لا يُمنح من الخارج، لا من سلطة، ولا من دين، ولا من مجتمع. بل يُخلق من داخل التجربة الإنسانية، من قدرتنا على تحويل الألم إلى سؤال، والسؤال إلى فعل، والفعل إلى استبصار.
يحلل الكاتب العلاقة بين الألم والوعي، ويقترح أنّ الألم حين يُصاغ داخل الذات، يتحول إلى أداة معرفة. ليست المعاناة فقط ما يحطّم الإنسان، بل هي، في بعض الأحيان، ما يُوقظه من سباته. هنا نجد تأثيرات واضحة من الوجودية، وخصوصًا من فكر كيركغارد ونيتشه، لكن بأسلوب ذاتي يحمل نَفَسًا عربيًا معاصرًا، يجعل من النص صدىً لتجاربنا اليومية، لا محض نظريات، الرغبة في المعنى، هي أكثر من بحث فكري؛ إنّها معركة داخلية ضد العدم، ضد التجزؤ، ضد التفاهة التي تلتفّ حولنا كضباب كثيف.
في الفصل الثالث، "المتعة والفقد"، يضعنا الكاتب في قلب التجربة الإنسانية من حيث هي ثنائية تمشي على حدّ السكين، بين لذّة الوجود وخوف الزوال. يتناول هنا المفارقة المؤلمة في اللذة، أننا كلما اقتربنا من المتعة، تسلّل الخوف من فقدها، وكأنّ المتعة ليست إلّا ظلّ الفقد المسبق.
كيف أنّ اللذة التي نُطاردها كبشر، ليست فقط رغبة في الامتلاء، بل خوفًا من الفراغ. فنحن لا نطلب المتعة لذاتها، بل لننسى شيئًا موجعًا في داخلنا. وهنا يكشف الكاتب عن البنية المزدوجة للذة: أنّها تحمل في جوهرها الموت، كما تحمل الحياة.
وفي هذا التماس بين المتعة والفقد، يولد الإنسان كائنًا هشًّا، يعبر الحياة وهو يجرّ خلفه أسئلته الكبرى. لا يسعى للخلود، لكنه يرفض الزوال. لا يريد فقط اللذة، بل يريد المعنى الذي يجعل منها أكثر من لحظة زائلة.
هذا الفصل يتجاوز التحليل إلى نوع من الكتابة الشعرية التأملية، حيث تصبح اللغة وسيلة لاختبار الفقد، لا فقط شرحه. يذكّرنا الكاتب أنّ الإنسان لا يُقاس بما يملكه، بل بما يفتقده، بما يحاول أن يحتفظ به رغم معرفته الحتمية بأنه راحل.
ما وراء اللذة ليس دراسة أكاديمية جافة، ولا سردًا شعريًا حالِمًا، بل هو نصّ تأملي عميق، يحاول أن يُمسك بالإنسان في لحظة صدقه مع نفسه، في لحظة تيهه وسؤاله وشكّه. كلّ فصل من فصوله الثلاثة يُمثّل خطوة في رحلة داخل الذات من الهروب إلى الرغبة، ومن الرغبة إلى الوعي بالفقد.
اللغة أنيقة دون تعقيد، والفكر فلسفي دون تنطّع، مما يجعل الكتاب مفتوحًا لكلّ قارئ يُريد أن يرى الإنسان، لا كما يُعرض في واجهات الخطاب، بل كما هو في أعماقه، متناقض، ضعيف، تائه، لكنه أيضًا قادر على طرح الأسئلة، وعلى خلق معنى من قلب العدم.
هذا الكتاب لا يُجيب، بل يدفعك لتسأل، هو أصدق ما يمكن أن يُقال عن كتابٍ حقيقي.
***
فؤاد الجشي