قراءة في كتاب

مرتضى السلامي: شمس الحداثة العربية بين إشراقة النهضة وليل النكستين

مقدمة: الحداثة كمسار تاريخي في الوعي العربي

بعد أن تأملنا في مقالنا السابق كيف تناول الدكتور عبد الإله بلقزيز "خطاب الأصالة" بالنقد والتفكيك، نواصل اليوم رحلتنا في الفصل الثاني من كتابه "من الإصلاح إلى النهضة"، لنتتبع قصة "الحداثة" ذاتها في فكرنا. إن هذا الفصل، الذي يحمل عنواناً دالاً "الحداثة: من النهضة إلى النكسة"، يرسم بحد ذاته مساراً درامياً حافلاً بالأمل والانكسار.

يستهل المؤلف حديثه بالتأكيد على أن الحداثة، سواء في ديارنا أم في موطن نشأتها الغربي، ليست بناءً فكرياً مكتملاً ولد دفعة واحدة، بل هي صيرورة تاريخية تشكلت عبر الزمن. فالمفكرون العرب الذين حملوا لواء هذا التيار، منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، ربما لم يمتلكوا المعنى الفلسفي العميق للحداثة كما امتلكه مثقفو الغرب. بل كانت الحداثة عندهم، كما يقول بلقزيز، "ترادف الانتصار للفكر الحديث وللأدب الحديث على حساب القديم". وهذا ليس غريباً، فـ"الوعي بالحداثة وعي تاريخي، أو قل له تاريخه الذي تطور فيه قبل أن يصبح وعياً حداثياً في النصف الثاني من القرن العشرين". إنها لم تكن وحياً مفاجئاً، فالحداثة، كما يوضح، "تراكم تاريخي طويل الأمد وليست وحياً نورانياً يقذف فجأة في روع ثقافة ما"، وتحول أفكارها إلى منظومة متكاملة هو أيضاً "حصيلة تراكم ثقافي طويل".

خصوصية الحداثة العربية وجدلية "الاستيراد"

يشدد المؤلف على ضرورة فهم هذه التجربة العربية في سياقها الخاص، بعيداً عن المقارنات التي تتخذ من النموذج الغربي معياراً مطلقاً. فالحداثة العربية، وإن تأثرت بالخارج، لها نسبيتها وتاريخيتها التي لا يجوز تجاهلها. وهنا، يتصدى بلقزيز بحججٍ قويةٍ لمن يرون في نشأة الحداثة العربية المتأثرة بالغرب دليلاً على عدم أصالتها أو شرعيتها، فيقول إن من يرى الحداثة مستوردة في مجتمعاتنا لأنها لم تنبع منها، "كمن يقول إن المسيحية مستوردة في أوروبا وأمريكا لأن منبعها شرق المتوسط أو كمن يقول إن الإسلام في إندونيسيا وماليزيا والصين والهند وباكستان ومالي والسينغال مستورد لأن مصدره شبه الجزيرة العربية!". ويمضي متسائلاً: "هل تسقط من تراثنا الثقافي الوسيط علوم اللغة والنحو والمنطق والرياضة والكيمياء والفلسفة والتصوف وأصول الفقه وعلم الكلام بدعوى أنها لم تنبع من مواريث الإسلام ومن منابعه الصافية وإنما من تأثيرات خارجية دخيلة عليه ؟!". إن الحضارة العربية الإسلامية في أوج ازدهارها لم تتردد في الانفتاح على ثقافات أخرى كالفارسية واليونانية. وحتى الدول التي نعتبرها اليوم منارات للحداثة كألمانيا واليابان وروسيا، لم تجد غضاضة في الانفتاح والمثاقفة. المشكلة، كما يرى المؤلف، ليست في التأثر بالخارج، بل في قدرتنا المتدنية على "التخفف من أعباء" التاريخ والتراث التي تعيق إرادة التقدم والانفتاح.

الحداثة الحقة في مواجهة "التغربن" والتقليد

ومع اعترافه بأن ظروف النشأة هذه، المرتبطة بالصدمة الاستعمارية، قد أنتجت حداثةً عربيةً "هشة" و"نخبوية"، يؤكد بلقزيز أن هذا لا يبرر رفضها، فالأفكار الكبرى غالباً ما تبدأ صعبة وهامشية. الأهم، في نظره، هو التمييز الدقيق والحاسم بين "الحداثة" كفعل إبداعٍ ومغامرةٍ فكرية، وبين ما يسميه "التغربن"، أي التبعية الفكرية والتقليد الأعمى للغرب. يقول بلقزيز: "الفارق عظيم بين الحداثة وبين التقليد الرث للغرب (التغربن). الحداثة إبداع واقتحام يجدف ببطولة ضد التيار كي يؤسس للنفس مكاناً. أما التغربن، فيرادف التبعية الفكرية والكسل المعرفي والتسول الثقافي... إنه القفى الموضوعي للسلفية، كلاهما يُؤْمِنُ بِسَلَفِهِ الصالح ويأخذ عنه بإفراط... ما أكثر الحداثيين العرب الذين لا دور لهم سوى إتيان فِعْلِ العَنْعَنَةِ... بئس تلك الحداثة حداثتهم". إن الحداثة الحقيقية، كما يراها، تجد نفسها في معركة مزدوجة: ضد خطاب "جالية ثقافية ماضوية من خارج الزمان"، وضد خطاب "جالية ثقافية حداثوية من خارج المكان"، و"من جوف هذا النقد الثقافي المزدوج سيبدأ ـ حينها - تاريخ الحداثة".

فكرة "التقدم" وتجلياتها في الخطاب الحداثي

لقد كانت فكرة "التقدم" هي المحور الذي دار حوله خطاب الحداثيين العرب في مواجهة واقع التأخر. وقد تجلت هذه الدعوة إلى الحداثة في اتجاهين رئيسيين: اتجاه ركز على "نقد القديم وإبداء الشدة في بيان علله في إنتاج حال التأخر"، كما فعل أحمد فارس الشدياق وطه حسين. واتجاه آخر ركز على "استلهام النموذج الأوروبي والتبشير والتعريف به"، ومن أبرز ممثليه شبلي الشميل وفرح أنطون وأحمد لطفي السيد وسلامة موسى وعباس محمود العقاد. ومن المفارقات اللافتة أن أولئك الذين انشغلوا بنقد القديم، كفرح أنطون وطه حسين والشدياق، لم يكونوا عدميين تجاهه بالضرورة، بل استطاعوا أحياناً أن يستخرجوا منه لحظاتٍ حداثيةً مضيئة. بينما أولئك الذين بهرهم المثال الأوروبي واعتبروه النموذج الأوحد، وقعوا أحياناً في فخ التقليد غير النقدي. والمفارقة الأكبر أن نقاد القديم، رغم كونهم الأكثر صلةً به ومعرفةً بشعابه، كانوا "عرضة للتشهير والمعاناة أكثر من الأولين"، فلم يتعرض شبلي الشميل أو سلامة موسى مثلاً لمحاكم التفتيش الثقافية، بينما تعرض لها طه حسين وعلي عبد الرازق!

ليل النكستين: عندما تخبو مشاعل الحداثة العربية

غير أن شمس الحداثة العربية، التي أشرقت بآمالٍ عريضةٍ في سماء الفكر العربي، لم تلبث أن واجهت غيوماً كثيفة وسحباً داكنة، كادت أن تحجب نورها تماماً. لقد "شهد خطاب الحداثة نكستين ثقافيتين في القرن العشرين وَضَعَتَاهُ في حال من التراجع والضمور والدفاع السلبي"، كما يوضح الدكتور بلقزيز. هاتان النكستان لم تكونا مجرد عثراتٍ عابرة، بل كانتا بمثابة زلزالين عنيفين هزا أركان المشروع الحداثي الوليد.

النكسة الأولى: عواصف مطلع القرن وانحسار الموجة النهضوية

تعود بنا الذاكرة إلى عشرينيات القرن العشرين، وهي حقبةٌ مفصليةٌ في تاريخ المنطقة. ففي تلك الفترة، تضافرت عوامل عدة لتشكل ما يمكن اعتباره النكسة الأولى لخطاب الحداثة. لقد

"ارتبطت النكسة الأولى بانهيار الإمبراطورية العثمانية وسقوط الخلافة". هذا الانهيار لم يكن مجرد حدثٍ سياسي، بل كان له وقعه العميق على الوعي الجمعي. فإجهاض حلم الاستقلال العربي بدولة قومية حديثة بعد وعود الثورة العربية الكبرى، وسقوط الولايات العربية تحت سنابك الاستعمار الغربي بموجب اتفاقيات سايكس-بيكو، كل ذلك جعل أوروبا الغازية تبدو في عيون قسم من النخب العربية كأنها تخون رسالتها الحضارية التنويرية. وفي الوقت نفسه، بدا ميلاد تركيا الحديثة على أنقاض الخلافة، لدى قسم آخر، وكأنه يهدد بنقل "جرثومة العلمانية" إلى سائر بلاد العرب والمسلمين.

في هذا المناخ المشحون بخيبة الأمل، وفي مواجهة هذا "الإجهاض لفكرة الحداثة"، وجد خطاب الحداثة العربي نفسه في موقفٍ حرج. لقد أطلقت هذه التحولات أربع ظواهر ثقافية رئيسية لجمت اندفاعة خطاب المعاصرة والتقدم، ومكنت لخطاب الأصالة والهوية: تراجع رموز نهضوية كالسيد محمد رشيد رضا نحو فكرة الأصالة؛ حملات قمع فكري طالت طه حسين وعلي عبد الرازق؛ عودة كثيفة إلى الماضي وميلاد فكرة الهوية الإسلامية في نصوص الشيخ حسن البنا وصعود فكر جماعة الإخوان المسلمين؛ و"توبة" ثقافية لبعض الحداثيين كطه حسين والعقاد. ومن المفارقات أن هذه النكسة الثقافية للحداثة ولدت من رحم حقبة الحداثة السياسية في مصر وسوريا، ولم تستعد الفكرة الحداثية عافيتها إلا في سنوات الخمسينيات والستينيات.

النكسة الثانية: انكسار الأحلام الكبرى وصعود خطاب الهوية

أما النكسة الثانية، فجاءت لتعمق الجراح، بعد فترة ازدهارٍ وعنفوانٍ للحداثة في الخمسينيات والستينيات، عصر الثورة والتحرر الوطني الذي شهد ثورة في السياسة والاقتصاد والفكر والأدب والفنون. هذا الصعود ترافق مع صعود المشروع الوطني والقومي التحرري وسياق دولي حافل بحركات التحرر والثورات الثقافية.

لكن هذه الصلة بين المشروع الثقافي والسياسي التقدمي سرعان ما تحولت إلى نقيضها منذ مطالع السبعينيات. هيأت محطات سياسية مفصلية لتراجع المشروع الثقافي الحديث: "هزيمة حرب العام ١٩٦٧ وانكسار المشروع القومي التحرري" كانت الشرارة الكبرى. ترافق ذلك مع هزيمة الثورة الفلسطينية في الأردن، ونجاح الثورة المضادة في مصر، وهزيمة المشروع الديمقراطي في لبنان، وترسيخ النظم التسلطية، وسقوط فكرة الثورة في الغرب.

وعلى الصعيد الفكري العالمي، تساوق هذا الجزر السياسي مع جزر ثقافي عالمي منذ مطلع السبعينيات، حيث شهدنا انحطاط الماركسية، وتصالحها مع الليبرالية، وانتهاء البنيوية كنظومة كبرى لتحل محلها حقبة المعرفة الإمبيريقية الجديدة، والانتقال من عصر المثقف الملتزم إلى عصر "المثقف الخبير".

ولأن الثقافة العربية كانت شديدة التفاعل مع الحركة الثقافية العالمية، فقد كان عليها أن تعيش نكسة تلك الثقافة العالمية كنكسة ذاتية لها أيضاً. "ثم لم تلبث ثورة إيران الإسلامية أن نجحت في إطاحة نظام الشاه والوصول إلى السلطة في العام ١٩٧٩، فانفتح أوسع مجال أمام عودة خطاب الهوية والأصالة كي يحتل موقع السيادة والسلطان في الثقافة العربية، وكي ينسحب خطاب الحداثة والتقدم إلى الخلف.. في مواقع دفاعية غير حصينة زادتْ فُرَصُ استباحتها مع الأيام فأخذت تعظم أكثر فأكثر، وخاصة منذ نهاية العقد الثمانيني الماضي".

هكذا، يرسم لنا هذا الفصل صورةً بانورامية لتاريخ الحداثة العربية، بتاريخيتها ونسبيتها، وبأصولها التي لا ينبغي أن تكون مدعاةً للشك في شرعيتها، وبتمييزها الضروري عن "التغربن" السطحي. إنه فصلٌ يضعنا أمام تجربةٍ فكريةٍ غنيةٍ بالإمكانيات، ولكنها أيضاً محفوفةٌ بالتحديات، ومثقلةٌ بالهزائم والانتكاسات.

***

مرتضى السلامي

...........................

* ضمن سلسلة "قراءات في الحداثة العربية: أعمال عبد الإله بلقزيز" (3)

في المثقف اليوم