قراءة في كتاب
محمود محمد علي: القرصنة الامريكية والاغتيال الاقتصادي للأمم (1)
هناك كتاب صدر بعنوان " الاغتيال الاقتصادي للأمم اعترافات قرضان اقتصادي لجون بركنز، حيث قام بترجمته ومراجعته كل من مصطفي الطناني وعادل معتمد وقدمه شريف دلاور، الكتاب يقع في حوالي 257 صفحة من القطع الكبير، والكتاب يحاول أن يركز على الوجه الآخر للولايات المتحدة، وهو الوجه لقبيح الذي لا يمكن تجاهله، وهو الوجه الاستعماري لإمبراطورية الشر، فهل يتذكر القارئ حروب الخليج والذي تدخلت فيها الولايات المتحدة والتي أنتهت بمعاقبة العراق على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بعد أن أدعت أمريكا على العراق ادعاءات لا تقنع طفل في السابع من عمره.
في هذا الكتاب يمكن للقاري أن يتعرف على طريقة من الطرق التي تتبعها الولايات المتحدة، وذلك لكي تحقق الهمينة الكاملة على الدول النامية، وهي الطريقة يسميها صاحب الكتاب " القرصنة الاقتصادية"، وهذه الطريقة تتناول قصة المد الأمريكي بطريقة التلاعب باقتصاد الدول وبشهادة مؤلف الكتاب وهو خبير اقتصادي من نخبة الخبراء الذين يعملون في الشركات الاستشارية الاقتصادية الكبرى.
والتفاصيل التي يحاول أن يشرحهها هنا الكاتب جون بركنز تتعلق بدول عربية، ومن أهمهم المملكة العربية السعودية، حيث قال في مطلع كتابه بأن دوره هو والخبراء الاقتصادية الذين معه هو أن يستخدموا المنظمات المالية الدولية مثل "صندوق النقد الدولي"، ووكالات التصنيف الائتماني وغيرها وغيرها في خلق ظروف تؤدي إلى خضوع الدول لهيمنة الدول الأمريكية والتي تدير الحكومة والشركات والبنوك.
والسؤال الآن: ماذا يقصد الكاتب هنا ؟، وهل يمكن أن تكون تقارير المؤسسات الدولية غير دقيقة بحيث تكون موجهة نحو خدمة مصالح على حساب مصالح أخرى ؟
وهنا يجيبنا جون بركنز بالإيجاب، بل ويؤكد أن هذا هو الواقع المرير، حيث أن الخبير الاقتصادي يقوم بعمل الدراسات وبناءا عليها توافق المنظمات المالية على تقديم قروض للدول النامية المستهدفة بغرض تطوير البنية الأساسية وبناء محطات توليد الكهرباء والطرق والمواني والمطارات والمدن الصناعية، ولكن بشرط هو أن المكاتب الهندسية وشركات المقاولات الأمريكية هي التي عليها أن تقوم بتنفيذ تلك المشروعات، وبهذا تصبح الأموال تظل موجودة في الولايات المتحدة ولا تخرج منها للدول المقترضة، بحيث يتم إعطاء القروض للدول النامية وبعد ذلك يتم استهلال تلك القروض بشركات ومكاتب أمريكية، وتظل الديون جاثمة على الدولة والذي كان من المفترض ان تسدد تلك القروض وما عليها من فوائد.
والمثير للجدل وهو أن جون بركنز في اعترافاته يؤكد بأنه كلما تمكن الخبير من توريط الدولة المقترضة بقرض بشروط تجبرها على التعثر بعد عدة سنوات قادمة يعد خبيرا ناجحا وبامتياز، وهذا هو المعيار لأن الغرض هو السيطرة على الدول وليس اقراضها من أجل التنمية، ولذلك حين تتعثر الدول ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم بسداد ديونها، تقوم الولايات الأمريكية بوصفها الجهة المديونة في أن تفرض شروطها آيا كانت ؛ سواء من حيث موافقة على ما في الأمم المتحدة إلى الخضوع لسيطرة الولايات المتحدة نفسها على موارد معينة في البلد المدين، أو أن الدولة المديونة تقبل بوجود عسكري أمريكي على أرضها وبهذا تصبح الدول النامية تظل كما نامية ولا تتحرك قيد أنملة نحو التنمية والاصلاح الاقتصادي، ولكن الدولة الدائة في ظل الهرم الرأسمالي والذي تقف الولايات المتحدة على قمته.
جون بركنز يقول أنه ومجموعة من خبراء اقتصاديين آخرين استغلوا على تجميل استراتيجية النهب الاقتصادي تلك على طريق نحن ألفاظ براقة لا تعبر في الحقيقة عن مضمونها الشرير، وهي ألفاظ ومصطلحات تبدو إيجابية مثل: الحكم الرشيد، والحوكمة، وتحرير التجارة، وحقوق المستهلك... إلخ.
وكل ذلك من الناحية اللغوية مصطلحات إيجابية، ولكن وقعها في التطبيق تمثل نار الله الموقدة لكونها تحمل كوارث، وذلك تلك الألفاظ تتحول بعد ذلك إلى معايير ؛ فمثلا: حين يقال أمامك مصطلح "الحوكمة"، فأنت عزيز القارئ قد تظن ذلك لأن معناه يحمل شيء حسن؛ حيث تظن أن هذا المصطلح الغرض منه هو أنه يحاول أن يفرض القواعد الرشيدة على بلدك، فإذا بك تكتشف من خلال تطبيقات هذا المصطلح عليك أن سياساتك الاقتصادية سواء كانت ناجحة أو فاشلة أصبح يتم تقيمها من خلال الشركات الكبرى.
وهنا كما يقول جون بركنز أن الدولة النامية سوف تحصل على شهادة تحدد ترتيبها ومستواها في الحوكمة وفي الحكم الرشيد وفي حماية المستهلك في تحرير السوق.. وهلم جرا، وأولى الأمر في الدول النامية حين يبتعلون هذه المصطلحات فإنها مباشرة سيكتشفون أن يسيرون نحو تبني فكرة الخصخصة الكاملة لكل قطاعات الدولة من الصحة والتعليم وخدمات المياة والكهرباء والمواضلات، وذلك لكي يكونوا مطابقين للمعايير المتعلقة بالسوق الحرة، ومن ثم يضطرون إلى إلغاء كل أشكال الدعم مع التحرر من كل القيود التجارية التي تحمي الصناعات الوطنية، وهم يدركون جيدا أن هذه استراتيجية السوق الحرة والذي بدونها لن يحصلوا على القروض المطلوبة.
ومن المقارفات الغريبة والتي يقدمها لنا هنا جون بركنز في كتابه أن الولايات المتحدة نفسها تقدم دعم هائل لصناعاتها المحلية وتحميها من الإغراق ؛ بينما الذين يغرقون حقا كما يقول جون بركنز الدول المديونة،وحسب تفسير الكاتب في ذلك هو أن النخبة الأمريكية لا تريد أن تكون الدول المديونة أن تسدد ديونها أصلا وهذا الأمر شبيه بفكرة أن البنك الذي يود ألا تسدد له بطاقة الدفع والصراف الآلي (Credit card) وذلك لكونه سوف يخسر الفوائد الذي يأخذها منك على مدار حياتك، وأنه طالما أن هذه الدولة مديونة فسوف تنفيذ رغما عنها السياسات الاقتصادية والعسكرية والسياسة الأمريكية وهي خاضعة.
من جهة أخري يؤكد جون بركنز أن حريات الولايات المتحدة في طبع النقد الأمريكي وهو الدولار بدون غطاء هو مصدر قوة القرصنة الاقتصداية، لأن الولايات المتحدة تطبع تلك الدولات، وهي تعطي الدول النامية قروض هي تعلم جيدا أن تلك الدول لن تتمكن من سدادها.
وهنا الدولار كما يقول جون بركنز يلعب دور العملة القياسية الدولية، فهو العملة التي تقاس بها العملات الأخرى، وقد استخدم جون بركنز هنا أمثلة دول كثيرة من أمريكا الاتينية وأفريقيا وآسيا في نجاح استراتيجية السوق الحرة.
والسؤال الآن: هذا فيما يخص القرصنة الأمريكية على الدول الفقيرة والنامية، فما هي الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة في القرصنة على الدول الغنية ؟... وهذا ما سنجيب عليه في المقال التالي.
***
د. محمود محمد علي
كاتب مصري
***
المراجع: 1- جون بركنز: الاغتيالا الاقتصادي للأمم اعرتفات قرصان اقتصادي، ترجمة ومراجعة مصطفي الطائي وعاطف معتمد، تقديم د.شريف دلاور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
2-إبراهيم الجارجي: الولايات المتحدة والاغتيال الاقتصادي للأمم | كيف تهدم أمريكا اقتصاد بلادك لتبني امبراطوريتها، يوتيوب