قراءة في كتاب

علي حسين: سهرة مع المرحوم أبيقور وزهوره الفلسفية

كان من عادتي وأنا صغير في السن إذا سمعت أسم شخص لا أعرف عنه شيئا، أن أبحث عنه في رفوف الكتب، أو أسأل أحد رواد المكتبة عنه، في ذلك الحين وقعت في يدي مجلة إسمها المختار وفيها موضوعا عن كاتب إسمه مارك توين كتبه ديل كارينجي، من هو مارك توين؟ كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها بهذا الاسم، أما كارينجي فسبق لي أن تعرفت عليه من خلال كتابه الشهير " دع القلق وابدأ الحياة".

لكي يجد المرء مكانه في هذا العالم الذي يحيط به، ومن أجل أن يتعلم العيش والعمل فيه فإنه يتوجب عليه أولاً بأول التعرف عليه. هذه هي العبارة التي ماتزال في ذهني من كتاب كارينجي " دع القلق وأبدأ الحياة ".

يقول كارنيجي سل نفسك؟ ثم هيئ نفسك لقبول أسوأ الإجابات ثم اشرع في إنقاذ ما يمكن إنقاذه. وبعبارة اخرى إن السؤال هو الذي يجعلك تعيش حياتك بإطمئنان، وهكذا فإن فيلسوفا مثل أبيقور يصف الأسئلة بانها : " طبابة النفس، وانها تهدف في نهاية المطاف الى افهامنا بانه يجب ألا نخشى المجهول :".

اثناء تصفحي لأعداد قديمة من مجلة الرسالة، وهي مجلة ثقافية كان يصدرها في منتصف القرن الماضي أحمد حسن الزيات، عثرت على مجموعة مقالات بعنوان " حديقة أبيقور"، كانت هذه المقالات هي ترجمة لفصول من كتاب للاديب الفرنسي أناتول فرانس. لماذا الحديقة بدلاً من الفلسفة سألت نفسي، وتبين لي فيما بعد إن الفيلسوف اليوناني أبيقور كان قد اشترى بميراث له من ابيه قطعة ارض أنشأ عليها مدرسة أحاطها بحديقة كبيرة تضم مختلف الزهور، وكان يعتقد أن هناك علاقة بين الجمال والمعرفة :" ليس ما هو أشرف للانسان أن يزاول الفلسفة والزهور تحيط به ".

كان أبيقور المولود سنة 324 قبل الميلاد في جزيرة ساموس، قد بلغ الثامنة عشرة من عمره حين قرر أن يجد إجابات على ما طرحه معلمه من أسئلة لم يجد لها أجوبة في قاعة الدرس لأنها حسب قول المعلم من اختصاص الفلاسفة فقط.. إذن ليدرس الفلسفة..كان أبوه معلماً يتقاضى راتباً بسيطاً، مما دفع أمه أن تعمل لتعيل العائلة، فكانت تبيع الأعشاب الطبية لمعالجة المرضى، يسافر الى أثينا لحضور دروس الفلاسفة وكان في ذهنه مشروعين الأول البحث عن العماء.. والثاني تخليص العالم من هذا العماء..لكنه وجد إن النزاع شديد بين الفلاسفة، فقرر أن يسافر إلى بلدان الشرق باحثاً عن إجابات لأسئلته، دارِساً الحكمة الشرقية.. وما أن بلغ الخامسة والثلاثين من عمره حتى عاد ثانية الى أثينا حيث قرر أن يشتري بيتاً كبيراً وحديقة لينشئ مدرسة لتدريس الفلسفة، وكان الانضمام الى هذه المدرسة متاحاً للجميع، رجالا ونساء .. أغنياءً وفقراءً، وكان يهدف من وراء مدرسته إلى نشر أفكار عن عالم مثالي يعيش فيه الجميع بإخاء ومساواة.. وبعكس مدرسة أفلاطون التي كان يسعى صاحبها إلى إنشاء جمهورية مثالية، كان أبيقور يبشر بمدينة شعارها " الاستمتاع بالحياة "، وكانت المدرسة التي سميت " حديقة أبيقور" ترفع شعار المساواة، فلا فرق بين التلاميذ وأستاذهم، ولا وجود للفروقات الطبقية، والحياة داخل المدرسة تتسم بالتقشف، فالطعام اليومي يقتصر على خبز الشعير والقليل من الجبن، وكان الطعام الدسم محرماً لأنه يبعث على الأسى والألم. يكتب أبيقور :" إنني أنتشي من خبزي ومائي..وإني لأعرض عن التوابل واللحوم ". وقد كان الخبز والماء والنبيذ هي مقومات الحياة السعيدة في نظر أبيقور. كانت فلسفة أبيقور تدين لسقراط بالكثير من مفاهيمها، فسقراط أول فيلسوف يشير إلى أهمية التطبيق العملي للفلسفة باعتبارها تهدف الى تغيير حياة الإنسان، وأن تكون أولى غايتها الاهتمام به، ولهذا سعى أبيقور وتلامذته إلى إثبات إن الوصول الى السعادة هو الهدف من الحياة، وكانوا يثنون على أهمية تحرر الإنسان من العبودية والتسلط والاضطراب. قال سقراط إن الرجل الصالح لا يمكن أن يلحق الأذى بالآخرين..فمفتاح الحكمة هو إشاعة الخير والسلم بين البشر.

اعتقد أبيقور أنه يجب أن تكون الفلسفة عملية. ويجب أن تغيير الطريقة التي نعيش بها. و تبعاً لذلك، كان مهماً أن يمارس مَن التحقوا به، مهنة الفلسفة عوضاً عن تعلمها فقط.

بالنسبة لأبيقور، كان مفتاح الحياة هو إدراك أن ما نسعى إليه هو المعرفة الممتزجة بالمتعة. و الأهم من ذلك هو تجنب نشر الشقاء بين الناس، ولهذا نجد إن أهم وصايا أبيقور لتلامذته :

  • السعي إلى إلغاء المعاناة من حياة الناس.. إلغاء المعاناة من حياتك.
  • نشر السعادة لأنها ستجعل الحياة أفضل
  • العيش ببساطة، فليس مهماً أن تحصل على أشياء لاتحتاجها. إذا كانت رغباتك بسيطة فمن السهل تلبيتها و سيبقى لك الوقت و الطاقة للاستمتاع بالأمور المهمة في حياتك.

ويرى أبيقورإننا لن نستطيع العيش بسعادة ما لم نفهم العالم الذي نعيش فيه وندرك طبيعته، وبعبارة أخرى إننا يجب أن نعرف من نكون،ولماذا نعيش؟ ولهذا يؤكد أبيقور إن بإمكان الإنسان أن يعيش سعيداً لو تحرر من الخوفين الكبيرين الذين يفسدان الحياة : الخوف من الآلهة والخوف من الموت.

قضى أبيقور كثيراً من الوقت في الكتابة، كان كثير الإنتاج. كتب حوالي 300 كتاب، رغم أنه لم يصلنا منها أي كتاب. ما نعرف عنه اليوم هو مستمد في أغلبه من كتابات تلامذته وأتباعهم فيما بعد. فقد كانوا يحفظون كتابات أستاذهم عن ظهر قلب و نقلوا تعاليمه عبر المؤلفات التي ظهرت في العصر الروماني، وكان أشهرها كتاب " في طبيعة الأشياء " كتبه الفيلسوف الروماني لوكريتوس الذي عاش بعد وفاة أبيقور بـ 200 عام.وفي هذه القصيدة – الكتاب – (ترجمه الى العربية علي عبد التواب علي) يرى لوكريتوس إن شقاء الجنس البشري وانهيار أفكاره يرجع الى الخوف من تسلّط الآلهة والفزع من غضبهم، وأن فلسفة أبيقور جاءت لتخليص الإنسان من تلك المخاوف، ومن ثم توطيد الإحساس بالطمأنينة في قلوبهم.

كان أبيقور يهتم بالأفكار والمعتقدات الخاطئة، وكان يرى أن معظم المشكلات التي تواجهنا لا تنبع من أحوالنا الفعلية أو الواقعية، وإنما من معتقداتنا الخاطئة عنها. ورغم أن أبيقور يتحدث عن الآلهة، فإنه في كثير من الأحيان يرفض الأقاويل التي تذهب الى أن الآلهة تتدخل في الشؤون اليومية، وهو يرى إنه لادع لأن تتدخل الآلهة في عمل العالم الطبيعي.. وقد تبنى الأبيقوريون وعلى راسهم لوكريتوس لتفسير نشأة الحياة رأياً يشبه نظرية الانتخاب الطبيعي لدى سبنسر وداروين، كان أبيقور على حد قول لوكريتوس يهدف الى المحافظة على الفكر قريباً من الواقع ومرتبطاً به قدر الإمكان، لأن ما يميز العقل إنه مكون من أشياء مادية. ولهذا أنكر ابيقور إن للآلهة علاقة بخلق العالم الذي نعيش فيه، أو تقرير مصير البشر أو هدايتهم فالحياة: " إن هي إلا مهزلة، فيها من الجنون ما يستحيل أن يكون قد أبدعها عقل آلهي.فلا يوجد آله عاقل يأمر ببناء معبد تمجيداً له، ثم لايلبث أن يهدمه من أساسه بضربة صاعقة ينزلها به. وليست هناك عناية آلهية خيّرة تنقذ حياة صبي صغير من مرض خطير من غير سبب، اللهم إلا لتبعث به إلى ساحات القتال ليموت ميتة أشنع، فليعن الآلهة أذن بأنفسهم، ولنحاول نحن أن نقلدهم من غير أن نطلب منهم عوناً، أما خلاصنا فيتوقف على أنفسنا فحسب، لأننا نعيش في عالم خلق نفسه من خلال التقاء الجواهر، تلك الجزيئات من المادة التي تتحرك في أشكال لا حد لها، ولكن من غير ما ترتيب أو تخطيط ". وربما يسأل البعض كيف حدث أن أدى تجمع هذه الجزيئيات غير الموجهة من المادة معاً الى خلق عالم من الأشجار والطيور والحيوانات والبشر، وما نوع هذه العملية التي مكّنت الجوهر خلالها الى أن يُخرج الى الوجود فيلسوفاً مثال سقراط؟ يجيب أبيقور قائلاً :" إن ذلك يتم بجهل وبغير قصد خلال تطور المادة التدريجي من الأشكال الأولية الى الأشكال

الأكثر تطوراً.خلال التخلص من غير الصالح والبقاء للأصلح

مساء هذا اليوم أعادني الصديق سامر السبع إلى ذكرياتي مع أبيقور وهو يقدم لي نسخة من كتاب دانيال كلاين " أسفار مع أبيقور " والذي اتمنى ان اقضي معه سهرة بحثا عن زهوره وافكاره.

***

علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية

في المثقف اليوم