قضايا
غالب المسعودي: براكسيس الإبستمولوجيا وجدلية الجذر والجذمور
من الهيمنة النسقية إلى الثورة على الفضاء الكارتيزي
أركيولوجية الهيمنة التراتبية: الشجرة كبنية فوقية للسلطة
في سياق تشريح البنية العميقة للثقافة الغربية، يتكشف النموذج الشجري بوصفه البنية الفوقية الأيديولوجية التي تشرعن علاقات الإنتاج السلطوية. إن هذا النموذج، الممتد من الميتافيزيقا الأفلاطونية وصولاً إلى العقلانية الحداثية، يعمل كآلية لضبط "فائض المعنى" تماماً كما يضبط رأس المال فائض القيمة. فلسفياً، تتأسس الشجرة على ثنائية "الجذر/الفرع"؛ حيث تمارس الحقيقة المركزية (الأصل/الجذر) هيمنة وجودية على الفروع. هذا النسق التراتبي ليس بريئاً؛ إنه انعكاس لنمط إنتاج يرفض التعددية إلا إذا كانت خاضعة لمركز واحد. وبذلك، تصبح المعرفة الشجرية أداة لتكريس الهيمنة التي تضمن إعادة إنتاج علاقات القوة القائمة.
عبر تحليله لـ "الصورة الدوغمائية للفكر"، يكشف دولوز عن التواطؤ الخفي بين الفلسفة التقليدية والسلطة. هذه الصورة ليست مجرد أخطاء معرفية، بل هي ما أسماه لويس ألتوسير "جهازاً أيديولوجياً للدولة". إنها مجموعة المسلمات المسبقة التي تؤدلج الوعي وتوجه الفيلسوف قبل أن يشرع في التفكير، مُحولةً الفلسفة من أداة للنقد إلى أداة لـ "التعرّف" وإعادة إنتاج الموجود. يتجلى "الازدراء الفلسفي" هنا كآلية دفاعية طبقية؛ فالنسق الفلسفي (عند كانط أو هيغل) يشيد حصوناً معرفية لحماية "العقل البرجوازي" من تهديد "الخارج" (قوى العمل غير المقيدة، الجسد، الجنون، والفكر البدوي)، حيث يتم إقصاء هذا الخارج وتصنيفه كـ "فوضى" أو "خطأ". إن هذا الإقصاء هو الوجه المعرفي لعملية "التشيؤ"، حيث يتم تحييد القوة الثورية للاختلاف الصرف عبر استيعابها في "الجدل" وتحويلها إلى مجرد "سلب" يخدم تطور الروح المطلق.
الجذمور كأبراكسيس ثوري:
(المبادئ الستة للمقاومة) في مقابل الشجرة، يطرح دولوز وغوتاري "الجذمور" ليس كنموذج بديل فحسب، بل كاستراتيجية مادية للتحرر من "سلعنة المعرفة". ويمكن تلخيص مبادئه كالتالي:
مبدأ الاتصال: يكسر الجذمور تقسيم العمل المعرفي الصارم. في البراكسيس البحثي الجذموري، يجب أن تتصل أي نقطة بأي نقطة أخرى؛ إنه رفض للتخصص الضيق الذي يفرضه نمط الإنتاج الرأسمالي لعزل الحقول المعرفية.
مبدأ التغاير: بخلاف الفكر النسقي الذي يسعى للتجانس لضمان السيطرة، يربط الجذمور بين أنظمة متباينة (سلاسل لغوية، تدفقات مالية، شفرات بيولوجية)، كاشفاً عن الطبيعة المادية المتشابكة للواقع.
مبدأ التعددية: التعددية هنا ليست "الكثرة" العددية التابعة للواحد، بل هي جوهرية ونوعية. إنها تشبه مفهوم الجموع عند نيجري وهارت؛ قوة حية تتغير طبيعتها كلما زادت أبعادها، ولا تحتاج إلى "وحدة قياس" متعالية لتستند إليها.
مبدأ القطيعة غير الدالة: الجذمور يقاوم الفناء؛ فإذا حاولت أجهزة الدولة قطعه، فإنه يعاود النمو عبر خطوط هروب جديدة. هذه الخاصية تجعل الفكر الجذموري عصياً على القمع؛ فإذا حظرت الرقابة كتاباً، تحول الفكر إلى أغنية أو "غرافيك". إنه تجسيد لقدرة الطبقات المقهورة على إعادة تنظيم صفوفها.
مبدأ رسم الخرائط: الجذمور خريطة تصنع الواقع، وليس "أثراً" ينسخه. "الأثر" هو إعادة إنتاج أيديولوجي للواقع المفروض، بينما الخريطة مشروع مفتوح قابل للتعديل، مما يمنح الباحث دور "المناضل الثوري" الذي يرسم مسارات جديدة بدلاً من الاكتفاء بتفسير العالم.
مبدأ الديكالكومانيا: وهو رفض القوالب الجاهزة؛ فالجذمور يقاوم إسقاط النماذج المتعالية والنسخ الجامدة على الواقع المادي الحي.
الجيوفلسفة.. صراع آلة الحرب وجهاز الدولة:
يقدم دولوز مفهوماً يتجاوز الماركسية التقليدية، ولكنه يتكامل معها "آلة الحرب". آلة الحرب ليست الجيش، بل هي "تجميعة" من البشر والأدوات والأفكار تتحرك في "فضاء أملس" وتقاوم التخديد الذي تفرضه الدولة. من منظور المادية التاريخية، يمكن قراءة هذا الصراع كالتالي، الدولة (ممثلة لمصالح الطبقة السائدة) تسعى دائماً لممارسة "الأسر" على آلة الحرب، لتدجين طاقة الإبداع والعمل وتحويلها إلى قوة عمل مأجورة خاضعة للقانون. التاريخ، إذن، ليس سرداً خطياً لتطور الدول كما يرى هيغل، بل هو جدلية الصراع بين "جهاز الدولة" الذي يفرض النظام الشجري لتأمين الملكية والتراكم، و"آلة الحرب" البدوية التي تبتكر "خطوط الهروب" لتقويض هذا النظام.
من "السياسة الكتلية" إلى "الثورة الجزيئية":
نحو اقتصاد سياسي للرغبة لا تكتمل القراءة المادية للجذمور دون الاشتباك مع المعضلة التي أرقت الماركسية الغربية طويلاً. لماذا تحارب الجماهير من أجل عبوديتها وكأنها تحارب من أجل خلاصها؟ هنا، ينقل دولوز وغوتاري الصراع من المستوى "الكتلي" مستوى الصراع الطبقي التقليدي، الأحزاب، والنقابات إلى المستوى "الجزيئي أي مستوى الاقتصاد الليبيدينالي".
المادية ومسألة الرغبة:
خلافاً للماركسية الأرثوذكسية التي قد تختزل الرغبة في "بنية فوقية"، أو التحليل النفسي الذي يسجنها في "مسرح العائلة" (أوديب)، يؤكد دولوز في ضد-أوديب أن الرغبة جزء من البنية التحتية؛ إنها "إنتاج" وليست "نقصاً". الرأسمالية لا تكتفي باستغلال قوة العمل في المصنع، بل تقوم بـ "تخديد" الرغبة لضمان أن العامل يستهلك، ويطيع، ويتماهى مع النظام.
الفاشية كمنتج جزيئي:
إن "المايكرو-سياسة" ليست سياسة "صغيرة" بالحجم، بل هي سياسة تعمل على مستوى التدفقات والذرات الشعورية. الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في استيلاء ديكتاتور على الدولة (مستوى كتلي)، بل في "الفاشية المجهرية" التي تعشش في تفاصيل الحياة اليومية. الثورة التي تغير شكل الدولة دون أن تفكك "الفاشية الجزيئية" في نفوس الثوار، تنتهي حتماً إلى إعادة إنتاج القمع البيروقراطي.
نحو إيتيقا مادية للجذمور:
بناءً على ما سبق، فإن الثورة الجذمورية لا تلغي ضرورة التنظيم الطبقي، لكنها تشترط أن يرافقه "تحول جزيئي" وتفكيك لشيفرات الخضوع. إن الانتقال من الفضاء الكارتيزي (المخطط والمسيطر عليه) إلى الفضاء الأملس (المفتوح للاحتمالات) هو ضرورة إيتيقية وسياسية. لقد أدى "الازدراء الفلسفي" والمركزية الشجرية إلى كوارث إنسانية عبر فصل الإنسان عن الطبيعة. لذا، فإن الثورة على الفضاء الكارتيزي تعني استعادة القدرة على "التوهان الخلاق" ورسم خرائطنا الخاصة في عالم لا تحكمه حتمية الأرباح، بل تحكمه إمكانات الصيرورة. وكما يؤكد دولوز: "نحن لا نكتب لكي نمثل العالم، بل لكي نصبح شيئاً آخر غير ما نحن عليه"؛ أي لكي نغير العالم.
***
غالب المسعودي
....................
المصادر والمراجع
المصادر العربية والمترجمة
ألتوسير، لويس. الأيديولوجيا وأجهزة الدولة الأيديولوجية. بيروت: دار الطليعة.
دولوز، جيل. الاختلاف والتكرار. (ترجمة وفاء شعبان). بيروت: المنظمة العربية للترجمة.
دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ألف هضبة: الرأسمالية والفصام 2. (ترجمة ومراجعة نقدية).
دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ضد-أوديب: الرأسمالية والفصام 1. بيروت: دار الطليعة.
دولوز، جيل، وغوتاري، فيليكس. ما هي الفلسفة؟ (ترجمة مطاع صفدي). بيروت: مركز الإنماء القومي.
غرامشي، أنطونيو. كراسات السجن. (ترجمات مختلفة).
ماركس، كارل، وإنجلز، فريدريك. الأيديولوجيا الألمانية.
هارت، مايكل، ونيجري، أنطونيو. الجموع: الحرب والديمقراطية في عصر الإمبراطورية.
ثانياً: المراجع الأجنبية (English References) 9. Byrne, T. (n.d.). The Dogmatic Image of Thought. Medium. 10. Internet Encyclopedia of Philosophy. Gilles Deleuze (1925–1995). 11. Protevi, J. (n.d.). The Image of Thought. Retrieved from [protevi.com]. 12. Taylor & Francis Online. (n.d.). Rhizomatic America and Arborescent Culture. 13. Rhizomatic vs Arborescent Systems. (n.d.). Retrieved from jzhao.xyz.






