قضايا

محمد سيف: الحيـــاة مُقايَضـــة

يَمرُّ البشر بتجارب مختلفة، وهي وإن كانت تشترك فيما بينها في قواسم عريضة، لكنها تحتفظ في نهاية المطاف بخصوصيتها المائِزة عن غيرها، فكلٌّ له تجربته الخاصة بحكم الطباع الشخصية والبيئة وسياق الأحداث وعقلية الاستجابة والمتغيرات الخارجية، والنوازع الداخلية، وغيرها، ومع ذلك حينما ننظر إلى المحصلة النهائية نجد - في المجمل - أنّ البشر يخرجون من معمعة التجارب الخاصة بدروس نهائية متشابهة إلى حد كبير، معلنةً أن الجوهر واحد مهما تعددتْ السبُل، ولا ضَيرَ في اختلاف الطريق إذا كانت تؤدي إلى نهاية واحدة.

ومن بين تلك الدروس العامة التي نصل إليها - نحن البشر - عبر تجارب متباينة أشدّ التباين، وجوب إراقة التضحيات من أجل المَسعى، وكلما كانت الأماني جليلة، عظُمَ حجم التضحيات التي نقدمها تحت أقدامها، ومن هنا كانت الحياة  تعقيدا من المقايضات، خذ وهات.

إنّ مَن يرومُ الظفرَ بأهداف بلا استعداد جادّ إلى بذل ما تتطلبه من قرابين، فهو يعيش خيالا مترَفًا، لا يمتّ إلى الواقع بِصلة، ويُمنّي نفسه بمستحيل لن يرى النور، على أنّ هذه القرابين تتخذ أشكالًا عدّة، وصوَرا شتّى، تتمثّل في الوقت والتنازلات والجهد وتغيير الرؤى وإرساء حدود قاسية وبذل المال وضبط النفس والصمت الإستراتيجي وتجرّع آلام محسوبة، والقائمة تطول، ولكل غاية تضحيات خاصة بحكم خليط العوامل التي تحفُّ بها، فإن اشترك اثنان في نشدان غاية ما فليس بالضرورة أن يضطرا إلى تقديم القرابين ذاتها.

وحين نتعاطى مع موضوع التضحيات التي نقدمها؛ كَرْمى الأهداف، فإننا لا يمكن ألّا نشير إلى الممارسات التي تحمل الملامح ذاتها لكنها تجسّد درجات مقززة من السمات الحيوانية القابعة فينا، وذلك حين ينبري المرء بالتخلي عن مبادئ الشرف والمروءة والإنسانية والكرامة والنزاهة والأمانة ليصل إلى مبتغاه، ويكون مستعدا لدفع أي ثمن - مهما كانت الإنسانية تمجُّه مجًّا - حتى ينال مطلوبه،  كمن يكيد المكائد ضد غيره زورا وبهتانا حتى يظفر بمنصب ما، أو يبذل مالا وفيرا في سبيل تشويه سمعة أحدهم، وعليه؛ فهناك مستويان من الممارسات اللاإنسانية في موضوع التضحيات، أولهما أن يكون الهدف مشروعا لكن التضحية المقدمة غير مشروعة، ويجسدها المثال الأول، أو أن تكون التضحية بحد ذاتها مشروعة لا شِيَةَ فيها لكن الهدف غير مشروع، وعليه المثال الثاني، إن التضحيات التي أسلّط عليها الضوء في هذا المقال هي - حصرا - تلك التضحيات المشروعة، والتي تخدم هدفا نبيلا ومسعى كريما وغاية سامية، الأهداف التي تتعلق بها النفوس النبيلة المترفّعة عن القاع وتربأ بنفسها عن الضحالة.

عَوْدًا على بَدْء، الحياة مقايضة، نعم هي كذلك قانونا مضت عليه الحياة وما زالت، لا شيء يحدث بالمجان، لا شيء يحدث عفو الخاطر، لا شيء يَجيءُ اعتباطا، فإذا أردت أن تقطع مسافة مائة متر مشيا يجب أن تكون خطواتك أكثر مما إذا كانت المسافة المراد قطعها عشرة أمتار فقط.

إن الفكرة المحورية التي أنوي أن أجُرَّها إلى بؤرة الضوء هنا هي أنه إذا كان الأمر على هذه الشاكلة، وأنه يتحتّم علينا أن نقدم القرابين، فلا بُدّ أن نصطفي أنبل الأهداف وأرفعها شأوًا، وهذا هو مربط الفرس، فمن يقضي سحابةَ عمره في بذل التضحية وراء الأخرى من أجل هدف هزيل غير مستحق، فإنه لا يصنع شيئا سوى دَلْق عبير حياته على القَيْح، ومن ناحية أخرى فإن الاهتداء إلى التضحيات السديدة هو عنصر مهم جدا، إذْ لا يكفي أن يكون الهدف نبيلا فحسب، بل لا بد أن يُقرَن بالتضحيات الصحيحة، مع الانتباه إلى أنه لا يعني من كون التضحية مشروعة أنها صحيحة، فكونها مشروعة هذا جزء أساسي لا ريب، لكنه يجب أن تُضاف إليها الدقة والمناسبة، وعليه؛ فإنّ الطريقة المثلى للسعي الذي يؤتي ثماره هو الهدف السامي المقرون بتضحيات مشروعة وصحيحة، ومَن يكن هدفه ساميا، وتضحياته مشروعة لكنها لا تخدم مساره، فإنه عبثًا يحاول، كأعمى يخطو للأمام بغير هدى ظانًا أنه لا شك سيصل إلى وجهته؛ لأنه يمضي مجتهدا.

إنّ الأهداف السامقة والطموحات المتعالية تتطلب نفوسا جامحة بالإصرار والتفاني، وفي ذلك للمتنبي حكمة سائرة إذْ يقول:

وإذا كانت النفوسُ كِبارًا            تعِبتْ في مُرادِها الأجسامُ

وبالالتزام والمثابرة نستطيع أن نعقد مقايضات رائعة رابحة مع الحياة، وهذا لا يتأتّى بغير الدُّربة، فتوطين النفس على التضحيات الجسيمة من أجل المعنى هي في جوهرها عضلة تحتاج إلى مِراس، شأنها شأن سائر عضلات الجسم العضوية التي يؤول إهمالُها إلى الضمور، ولكنها مع الصقل والتدريب، يشتدُّ عودها وتتضخّم عروقها.

إنّ مقايضة الحياة عبر دروب التضحيات ليست سلوكا كماليا على قارعة طريق الترفيه، بل ممارسة مُلحّة متوغلةٌ في حياة قويّي الشكيمة، أولئك الذين يريدون بحقّ أن يصبحوا علامة فارقة وقصة مؤثرة، تضع في حسبانها أنّ خيارات الحياة العليا تتطلّب ثمنا باهظا، وهم مستعدّون حقًا لدفعه، ثمنٌ قد يكلّفهم التخلي عن أعز ما يملكون، لكنهم يتخلون عنه بكل رضى جذِلين بالتجلّي وراء هذا التخلّي، مخلّفين وراء ظهورهم الدّعة والراحة المزيفة، تاركينها لمن ليسوا على استعداد بعدُ للتنازل عنها ليحرموا أنفسهم من تحقيق غايات قد تغير حياتهم رأسا على عقب.

وبرأيي لا تصلح أي فكرة أن تكون خاتمةً متينةً لِما طرحتُه كفكرةِ أنّه حذارِ حذارِ من هدفٍ لا يستحق تضحياتِه، مهما كان عظيما، فأيّ هدف يستحق أن نخسر في سبيله مستويات متقدمة من راحة بالنا واستقرارنا النفسي وصحتنا؟ لا هدفَ أبدا، هذا إنْ كنّا نُوْلي سلامنا الداخلية أولوية قصوى لا تضاهيها أية أولوية في سُلّم أولويّاتِنا، وكم من أناس بذلوا الغالي والنفيس من صحتهم النفسية للظَّفَر بهدف كبير ومشروع، ولكنهم أدركوا بعد فوات الأوان، بعدما نُكِبوا بوَيلات جسيمة في استقرارهم النفسي وصحتهم الجسدية، أنّ الأمر لم يكن يستحق كل تلك الاستماتة، وأنه لو رجع الزمان بهم لما قدموا أمرا على صحتهم مهما كان بريقه لامعا، على أنّ بعض الأهداف يمكن أن تكون أولويات مرحلية مؤقتة من أجل الصالح النهائي العام، وحينئذٍ، وحينئذٍ فقط يمكن تبرير تقديم بعض الأهداف الأقل أولويةً - مؤقتا - على ما هو أولى منها كالاستقرار النفسي والعائلة، فتغدو التضحية بهذه الأولويات الجوهرية من أجلها، فهي القربان وهي الغاية في آن.

***

محمـــد سيـــف

في المثقف اليوم