قضايا
إحسان الحيدري: نحو إحياء الحكمة.. واقع الدرس الفلسفي في الجامعات العراقية وسبل النهوض به

مقدمة: الفلسفة في مواجهة التحديات
لطالما كانت الفلسفة، "أم العلوم"، المنارة التي تضيء دروب الفكر الإنساني وتصقل العقول الناقدة القادرة على بناء الحضارات. إلا أن هذا الدور الريادي يواجه اليوم في جامعاتنا العراقية واقعًا معقدًا يضع الدرس الفلسفي في موقف دفاعي، محاصرًا بين أساليب تدريس تقليدية، وسوق عمل مغلق، وصورة نمطية مجتمعية تختزل الفلسفة في الغموض والتعقيد وخطر الإلحاد. يستهدف هذا المقال تشخيص هذا الواقع، وتحليل معوقاته، والأهم من ذلك، طرح رؤية عملية لإصلاح المسار الأكاديمي وتصحيح المفاهيم المجتمعية.
أولًا: واقع الدرس الفلسفي: من التلقين إلى التفلسف المفقود
يكمن جوهر الأزمة الأكاديمية في طبيعة تدريس الفلسفة نفسها، والتي تتجلّى في مظهرين رئيسيين:
1. هيمنة أسلوب التلقين: يتحول الطالب في كثير من الأحيان إلى متلقٍ سلبي للمعلومات. يُركّز المنهج على ضرورة حفظ أسماء الفلاسفة، وتواريخ المدارس الفلسفية، ونصوص نظرياتهم، دون إتاحة مساحة كافية للطالب لطرح الأسئلة الجوهرية، أو نقد الأفكار، أو بناء حججه الخاصة. وبهذا، يتم تدريس تاريخ الفلسفة، لا الفلسفة كفعل وممارسة عقلية. إننا نُلقّن الطالب ما قاله كانط، لكننا لا نُدرّبه على التفكير بمنهجية كانط النقدية.
2. الانفصال عن الواقع المعاصر: غالبًا ما تظل المناهج غارقة في الفلسفات الكلاسيكية والحديثة دون بناء جسور حقيقية مع قضايا العصر الملحة. لا يتم التركيز بالقدر الكافي على فروع الفلسفة التطبيقية كأخلاقيات الذكاء الاصطناعي، أو فلسفة القانون، أو أخلاقيات البيولوجيا، أو فلسفة الإعلام، وهي المجالات التي يمكن أن تبرهن على حيوية الفلسفة وقدرتها على معالجة تحديات اليوم.
ثانيًا: المعوّقات البنيوية والمجتمعية
لا تقتصر المشكلة على داخل أسوار الجامعة، بل تمتد إلى نظرة المجتمع وسوق العمل، مما يخلق حلقة مفرغة من التهميش.
1. انعدام سوق العمل: يُعد هذا المعوق هو الأكثر تأثيرًا في مستقبل الأقسام. يتخرج الطالب ليجد نفسه أمام أبواب موصدة، فلا توجد مسارات وظيفية واضحة لخريج الفلسفة باستثناء التدريس الأكاديمي المحدود. هذا الواقع يقلل من إقبال الطلبة المتميزين على دراسة هذا التخصص ويُضعف من دافعيتهم.
2. الصورة النمطية المجتمعية: ترسخت في الوعي الجمعي صورة مشوّهة عن الفلسفة، ويمكن تفكيكها إلى ثلاثة أبعاد:
أ-الغموض والتعقيد: يُنظر إلى الفلسفة على أنها مجموعة من الأفكار المجردة والمعقدة التي لا علاقة لها بحياة الناس اليومية، وأنها مجرد "ترف فكري".
ب- الانفصال عن الواقع: يُتهم دارس الفلسفة بأنه يعيش في "برجٍ عاجي"، ويتعامل مع أسئلة لا تقدم حلولًا لمشاكل المجتمع الاقتصادية أو الأمنية أو الخدمية.
ت-الخوف من الإلحاد: وهو الانطباع الأخطر، حيث يُربط البحث الفلسفي الحر والتشكيك المنهجي بالتشكيك في الثوابت الدينية، مما يخلق حاجزًا نفسيًا واجتماعيًا قويًا ضد دراستها.
ثالثًا: سبل النهوض والتغيير: رؤية للإصلاح المزدوج
إن تغيير هذا الواقع يتطلب استراتيجية ذات مسارين متوازيين: إصلاح أكاديمي جذري من الداخل، وحملة لتغيير الوعي المجتمعي من الخارج.
1.على الصعيد الأكاديمي:
أ-الانتقال من التلقين إلى التفلسف:
- تغيير طرائق التدريس: اعتماد أساليب تعزز التفكير النقدي مثل الندوات السقراطية (Socratic Seminars)، والمناظرات الفلسفية، وورش كتابة المقال التحليلي. يجب أن تتحول قاعة الدرس إلى مختبر للأفكار.
- تحديث المناهج: إدخال مواد دراسية في "الفلسفة التطبيقية" و"التفكير النقدي ومهارات حل المشكلات" و"أخلاقيات المهنة". يمكن أيضًا طرح فكرة تغيير مسمى الأقسام إلى "قسم الفلسفة والدراسات النقدية" أو "قسم الفلسفة والأخلاقيات التطبيقية" أو "قسم الفلسفة والدراسات المستقبلية" ليعكس هذا التوجه الجديد.
ب- ربط التخصص بسوق العمل:
- بناء مسارات مهنية: استحداث برامج دبلوم عالي أو ماجستير مهني تربط الفلسفة بمجالات أخرى، مثل: منها على سبيل المثال:
المؤسسات الأمنية والعسكرية:
تهدف هذه البرامج إلى تزويد العاملين في هذا القطاع بالقدرة على التحليل العميق، فهم الأيديولوجيات، واتخاذ القرارات في المواقف المعقدة.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "تحليل الخطاب والتفكير الاستراتيجي":
- المبررات: تحتاج المؤسسات الأمنية إلى متخصصين قادرين على تفكيك الخطابات المتطرفة والإعلام الموجّه، وفهم بنيتها المنطقية والنفسية.
- المهارات: يركّز هذا البرنامج على تدريب الخريجين على مهارات المنطق، تحليل الحجج والمغالطات، ودراسة أثر اللغة في بناء الأيديولوجيات، مما يخدم بشكل مباشر في وحدات التحليل الاستخباري والحرب النفسية.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة القانون والأخلاقيات الأمنية":
- المبررات: يواجه العمل الأمني تحديات أخلاقية وقانونية مستمرة (مثل أخلاقيات التحقيق، وقواعد الاشتباك، وحقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب).
- المهارات: يوفّر هذا التخصص أساسًا نظريًا وعمليًا لصياغة السياسات والتشريعات الأمنية، وتدريب الضباط على اتخاذ قرارات متوازنة تجمع بين ضرورات الأمن واحترام القانون.
المؤسسات الثقافية والبحثية:
تهدف هذه البرامج إلى تعميق الفهم بالهوية والتراث والمشكلات الاجتماعية، وتقديم حلول مبتكرة.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الحوار وإدارة التنوع الثقافي":
- المبررات: يمر العراق بتحديات تتعلق بالهوية والتعايش بين المكونات المختلفة. تحتاج المؤسسات الثقافية إلى خبراء في إدارة الحوار وتعزيز المشتركات الوطنية.
- المهارات: يركز البرنامج على فلسفة التواصل، نظريات الاعتراف، وفلسفة التعددية الثقافية، لإعداد مستشارين في مجال المصالحة المجتمعية وصياغة السياسات الثقافية الشاملة.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "الدراسات النقدية والسياسات الثقافية":
- المبررات: تحتاج مؤسسات مثل دار الكتب والوثائق، ودور النشر، والمراكز البحثية إلى نقّاد ومحللين قادرين على تقييم الإنتاج الفكري والثقافي ووضع سياسات للنهوض به.
- المهارات: يوفّر هذا التخصص أدوات النقد الفني والأدبي والاجتماعي، ويمكّن الخريج من تحليل الظواهر الثقافية وتقديم استشارات عملية لصناع القرار الثقافي.
المؤسسات الإعلامية
تهدف هذه البرامج إلى رفع مستوى الأداء الإعلامي من خلال تعزيز التفكير النقدي والأخلاقيات المهنية.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "فلسفة الإعلام والأخلاقيات الرقمية":
- المبررات: مع انتشار الإعلام الرقمي والأخبار الزائفة، أصبحت الحاجة ملحّة لوجود إعلاميين قادرين على التعامل مع التحديات الأخلاقية والتحقق من المعلومات بشكل منهجي.
- المهارات: يدرس هذا البرنامج أخلاقيات المهنة الإعلامية في العصر الرقمي، فلسفة الصورة، تحليل الدعاية، وتأثير الإعلام في الرأي العام، مما يصقل مهارات الصحفيين ومُعدّي المحتوى.
* دبلوم عالي / ماجستير مهني في "المنطق وتحليل الرأي العام":
- المبررات: تحتاج المؤسسات الإعلامية ومراكز استطلاع الرأي إلى محللين يمتلكون أدوات منطقية صارمة لفهم اتجاهات الرأي العام وتفسير البيانات وتجنّب الاستنتاجات المتسرعة.
- المهارات: يركّز على تدريس المنطق غير الصوري، كشف المغالطات المنطقية في الخطاب السياسي والإعلامي، ومناهج تحليل المحتوى، لإعداد محللي بيانات ومحتوى إعلامي على مستوى عالٍ.
- التأكيد على المهارات: يجب على الأقسام أن تسوّق لخريجيها ليس كـ"فلاسفة" بل كـ "خبراء في حل المشكلات المعقدة"، و"محللين نقديين"، و"استراتيجيين في التواصل"، وهي مهارات مطلوبة في كل قطاعات العمل الحديثة.
2. على الصعيد المجتمعي:
أ- مبادرات "الفلسفة للجميع":
- تنظيم فعّاليات عامة: إقامة منتديات مفتوحة، ومقاهٍ فلسفية، وندوات مبسّطة تناقش قضايا الساعة (مثل العدالة الاجتماعية، وأخلاق التكنولوجيا، ومعنى المواطنة) من منظور فلسفي.
- التواصل الإعلامي: كتابة مقالات رأي في الصحف والمواقع الإلكترونية، والمشاركة في برامج إذاعية وتلفزيونية لتقديم الفلسفة كأداة لفهم الواقع لا للهروب منه.
ب- تفكيك الصور النمطية:
- التركيز على القيمة العملية: إبراز كيف أن التفكير النقدي الذي تعلمه الفلسفة هو أساس النجاح في أي مهنة، من الطب والمحاماة إلى إدارة الأعمال والبرمجة.
- مواجهة وصمة الإلحاد: التأكيد على أن تاريخ الفلسفة غني بالتقاليد الفلسفية الدينية العريقة (مثل الفلسفة الإسلامية والمسيحية)، وأن الهدف ليس تقويض الإيمان، بل تعميقه من خلال العقل والبرهان. وفي هذا السياق، يمكن إبراز الدور التاريخي لفلاسفة مؤمنين كبار.
خاتمة: نحو جيل يمارس التفكير لا استعراضه
إن النهوض بواقع الدرس الفلسفي في العراق ليس ترفًا أكاديميًا، بل هو ضرورة وطنية. فالمجتمع الذي يفتقر إلى التفكير النقدي يصبح فريسة سهلة للأفكار المتطرفة، والشعبوية، والتضليل. إن إنقاذ الفلسفة من عزلتها الحالية، عبر تحديث مناهجها وربطها بالحياة وتصحيح صورتها، هو استثمار في بناء عقول قادرة على طرح الأسئلة الصعبة، وابتكار الحلول المبدعة، والمشاركة بوعي في بناء مستقبل أفضل للعراق.
***
أ.د. إحسان علي الحيدري - أستاذ فلسفة الدين والأخلاق
كلية الآداب / جامع بغداد