قضايا
صائب المختار: قصة النهضة العربية

ما زالت فكرة النهضة العربية تشغل حيزاً مهماً في المجتمع العربي والفكر العربي. أكثر أفراد المجتمع العربي محبطون من النهضة العربية. بعض المفكرين وأفراد من المجتمع العربي لا يؤمنون بوجود نهضة عربية، والبعض الآخر لا يعرف أصلاً أن هناك نهضة حدثت في المجتمع العربي. ويبقى السؤال المحيّر يدور في أذهاننا "لماذا فشلنا ولماذا نجح الأوروبيون؟"، وهو سؤال يتردد كثيراً في أذهاننا، وقد حاول الأمير شكيب أرسلان الإجابة عليه في كتابه " لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم" ولم تكتمل الإجابة على هذا السؤال حتى الآن. ويبدو أن هذا التصوّر السلبي عن النهضة العربية قد انعكس في ثقافتنا بسبب الوضع المزرى الذي يعيشه مجتمعنا الحالي بسبب الانحدار والانحطاط الواضح في الحضارة العربية الإسلامية والمتمثل في ضياع القيم الأخلاقية الحميدة وانتشار الفساد بشتى أنواعه، والشعور بالذّل والمسكنة وفقدان الثقة بالنفس وبالمجتمع. فما هي قصة النهضة في المجتمع العربي؟ متى بدأت، وأين ظهرت وكيف تطورت؟
ما المقصود بالنهضة
لغوياً، مصطلح النهضة مأخوذ من الفعل نهض. ونهض ينهض بمعنى قام وارتفع، والنهضة تعني الطاقة والقوة، ومكان ناهض يعني مكان مرتفع (لسان العرب). والفعل يرمز إلى الحركة والوثبة والقوة، والانتقال من حالة الضعف إلى القوة. في الفكر والثقافة العربية، استعمل مصطلح النهضة للتعبير عن حركة إصلاح فكري وثقافي هدفها القضاء على حالة الركود والانحطاط التي أصابت المجتمع العربي بعد قرون من الاحتلال العثماني، وشملت كل مجالات الحياة الاجتماعية مثل الفكر والتمدن والأدب والفن والاقتصاد...الخ. ومفهوم النهضة في الأصل ليس عربياً وإنمّا دخل الثقافة العربية منقولاً من الثقافة الأوروبية ومحاكاة لها في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويسمى بالإنكليزية (Renaissance) حيث شهدت أوروبا نهضة علمية صناعية واقتصادية وفكرية وفنية بدأت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وتطوّرت واستمرت حتى اليوم.
هل تعتبر النهضة الأوروبية المثال القدوة
تعتبر النهضة الأوروبية المثال الأفضل لنهضة المجتمع، والنموذج المثالي للاقتداء به والاستفادة منه لنهضة المجتمع العربي، وهذه حقيقة لا يمكن نكرانها. كما يجب استنباط العبر منها بما يلائم مجتمعنا العربي والعمل به، وليس بالتقليد الأعمى كما يدّعي البعض منّا. لكن ينبغي التنويه أن النهضة الأوروبية ليست هي النهضة الوحيدة التي حدثت في التاريخ، ولا هي بالضرورة المثال الأفضل. فالحضارة الإسلامية على سبيل المثال، كانت قد نهضت أيضاً من سبات عميق وطويل في زمن الجاهلية وقبل ظهور الدين الإسلامي، شأنها في ذلك شأن الحضارة الاوروبية التي نهضت بعد سبات وجهل طويل الأمد. لقد كان العرب قبل الإسلام قوم جهالة وأمية، ينقصهم التحضّر والعلم والعمران. وبعد أن اعتنقوا الإسلام، شُحذت به الهمم، فاتحد العرب وتخلّقوا بفضائل الأخلاق، فعزموا على النهضة والرقي، فنهضوا وانتشروا في أصقاع الأرض وتحضّروا. ووجدوا طريقهم إلى العلم، فاكتشفوا العلوم التجريبية والرياضيات وغيرها. وسادوا على شعوب الأرض في التحضّر والعلم والفلسفة، وكانوا الروّاد في ذلك الوقت لقرون عديدة. ومثل هذا القول ينطبق على الحضارات القديمة الأخرى مثل الرومانية واليونانية والفرعونية وبلاد الرافدين، فهذه الحضارات كذلك نهضت بعد سبات طويل. ولولا نتاج هذه الحضارات العلمي عبر التاريخ لما استطاعت الحضارة الأوروبية أن تصل إلى ما وصلت إليه. فكفانا تعظيماً وتمجيداً لتحضّر الغرب، فما حدث لهم حدث لغيرهم قبلهم، وهذه سُنّة التاريخ. وقد يكون نتاج غيرهم من الحضارات أفضل مما استطاع الأوروبيون أن ينتجوه بقدرتهم العظيمة. فما زال تصميم وبناء الأهرام وأبو الهول والجنائن المعلقة تعتبر أعظم نتاج حضاري بشرى لحد الآن، ولم يستطع أحد أن يتفوق عليه رغم الإمكانات الهائلة المتوفرة في الوقت الحاضر.
بذور النهضة العربية
بدأت أولى بذور النهضة العربية في الشام، في لبنان وسورية. تأسست أول مطبعة في المشرق العربي في شمال لبنان عام 1585م وصدر عنها أول كتاب باللغة السريانية في عام 1610م، ثم تأسست أول مطبعة في حلب عام 1704م بالحرف العربي ثم أنشأت مطابع أخرى عديدة. كانت هذه المطابع تعني بالأمور الدينية المسيحية حصراً لتوعية المسيحيين بأصول دينهم.
في القرن التاسع عشر، أرادت الدول الأوروبية التدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية فادّعت حمايتها للمسيحين، ففتحت المدارس التبشيرية والإرساليات الدينية لاحتضان المسيحين وتعليمهم تعاليم الدين المسيحي والإنجيلي، فوفرت لهم الكتب والمطابع والمدرسين التبشيرين، وزودتهم بكل ما يحتاجونه للتربية والتعليم لخلق جيل موالي لأوروبا أكثر من ولاءه للعروبة. وقد ظهر في الشام مثقفون وعلماء كبار مثل الشيخ ناصيف اليازجي والمُعلّم بطرس البستاني، وفارس الشدياق ومحمد كرد على والأمير شكيب أرسلان وكثيرين غيرهم. كانوا عروبيون مخلصون للعروبة واللغة العربية، وكانوا من كبار علماء اللغة العربية والمدافعين عنها. كانوا الرواد الأوائل في الصحافة وإنشاء الصحف والجرائد اليومية التي كان لها دور مهم في نشر العلم والأخبار وتثقيف أفراد المجتمع. فعلى سبيل المثال أسس الشقيقان اللبنانيان سليم وبشارة تقلا جريدة الاهرام المصرية في عام 1875 والتي أصبحت أشهر جريدة في الوطن العربي.
وفي مصر، يعتقد البعض أن بذور النهضة جاءت مع الحملة الفرنسية على مصر في عام 1798م، حيث جلب نابليون مع حملته ما يقارب مائتين عالماً من مختلف الاختصاصات العلمية وكلّفهم بالعمل على دراسة مصر والمجتمع المصري. وأحضر معه مطبعة ليتواصل من خلالها مع الشعب المصري. انبهر المصريون بالفرنسيين وأطّلعوا على الكثير من جوانب العلوم والمعرفة والتحضّر مما لم يكونوا عارفين به من قبل.
يعزى إلى والي مصر محمد علي باشا الكبير، الفضل في الإصلاحات التي حدثت في مصر وفتح باب النهضة للمصريين ومنهم انتقلت بوادر النهضة إلى باقي أرجاء الوطن العربي. لم يحتاج محمد علي باشا ولا مثقفو ذلك الزمان إلى من يدلّهم على التقدم الأوروبي ومدحه من قبل المتغربين، بل عرفوه بذاتهم واطّلعوا عليه بأنفسهم وعملوا على الاستفادة من وسائل التقدم الأوروبي.
فذلكة عصر النهضة
بدأت النهضة في مصر والشام في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستمرت النهضة بمسيرتها لغاية الوقت الحاضر. وقد عانت خلال مسيرتها من إحباطات وعثرات وانتكاسات كبيرة ومؤلمة، لكنها لم تمت بل بقيت تحبو وتناضل للاستمرار. ظهر خلال هذه الفترة، الممتدة على نحو قرنين من الزمان، عدد كبير من المفكرين والمثقفين، منهم من يشار لهم بالبنان. ومازالت الساحة العربية زاخرة بأمثالهم ونتاجاتهم الفكرية المختلفة التي تجتهد لدراسة أسباب التخلّف وإيجاد الحلول المناسبة للنهضة كُلٌ حسب اجتهاده ورأيه. يمكن تقسيم عصر النهضة العربية إلى ثلاث مراحل زمنية متداخلة مع بعضها، حيث يصعب تحديد فاصل زمني دقيق، لأن كل فترة زمنية لها ظروفها السياسية الخاصة وطابعها الفكري والثقافي الذي يميّزها عن الأخرى، ونجملها كالتالي:
الفترة الأولى من النهضة:
من منتصف القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين
(الجيل الأول من رواد النهضة العربية)
يعتبر القرن التاسع عشر بداية عصر النهضة العربية. رزح الوطن العربي تحت الاحتلال العثماني منذ بداية القرن السادس عشر لغاية الحرب العالمية الأولى التي انتهت بسقوط الإمبراطورية العثمانية وبداية الاستعمار الأوروبي للوطن العربي. عانت الدول العربية في فترة الحكم العثماني من التهميش والإهمال، وكانت المنطقة العربية معزولة تماماً عن مجريات الأمور في العالم من ثقافة وتحضّر، وتفشت الأمية والجهل والتخلّف بين أفراد المجتمع.
في القرن التاسع عشر ظهر الجيل الأول من رواد النهضة العربية وكانوا بحق من كبار مثقفي النهضة وأفضلهم عطاءً للنهضة. يذكر منهم رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) وخير الدين التونسي (1820 – 1890) وجمال الدين الافغاني (1838 – 1897) والامام محمد عبده (1849 – 1905) وعبد الرحمن الكواكبي (1855 – 1902) وشبلي شميل (1850 – 1917) وفرح أنطون (1874 – 1922)، بالإضافة إلى من سبق ذكرهم من رواد النهضة اللبنانيين والسوريين، وآخرين كثيرين غيرهم. اطّلع هؤلاء الرواد على النهضة الأوروبية وانتبهوا إلى الفرق الشاسع والهوّة السحيقة بين المجتمعين، وأقرّوا واعترفوا بتخلًف المجتمعات العربية والحاجة إلى إحداث تغيّر جذري فيه. كما اقتنعوا بأن هناك مشكلة في تأويلات المفاهيم الدينية، وأن هناك حاجة إلى تجديد أو تحديث الأفكار الدينية وتصحيح ما أسيء فهمه من المبادئ الجوهرية الإسلامية. البعض من هؤلاء الرواد زار فرنسا وعاش فيها وتعلم لغتها ودرس نهضتها وثقافتها. الطهطاوي مثلاً عندما بُعث إلى فرنسا عام 1824م مع البعثة العلمية ليكون رقيباً على المبعوثين لتجنيبهم مخاطر الانحراف الأخلاقي المعروف عند الأوروبيين، فبالإضافة إلى مهمته كرقيب للبعثة عَمَد الطهطاوي إلى تعلم اللغة الفرنسية ودراسة جوانب النهضة الفرنسية وقراءة كتبها ثم ترجمتها إلى العربية لينتفع بها المجتمع العربي. قام الطهطاوي بترجمة عشرين كتاباً، وأنشأ مؤسسة للترجمة في مصر ترجمت مئات الكتب الفرنسية بإشرافه المباشر على المترجمين. أمّا الافغاني والكواكبي فقد دعوا إلى معارضة طغيان السلطة ومحاربة الاستبداد والتخلص من الظلم الاجتماعي على أساس أن طغيان السلطة والظلم الاجتماعي الذي مورس من قبل السلطة والاقطاعيين بحق الشعب هو من أهم أسباب تخلّف المجتمع. وكذلك محمد عبده، فقد عَمَد إلى التوفيق بين الإسلام والعلم والمنطق العقلاني وعمل على إصلاح المفاهيم الدينية البالية وتوضيح المبادئ الإسلامية استناد إلى جوهر الإسلام الصحيح. وعلى الرغم من انبهار الرواد بالنهضة الأوروبية إلا إن نهجهم الثقافي بقي عقلانياً في اقتباس ما هو مفيد للمجتمع العربي واجتناب ما هو غير مناسب للمجتمع.
الفترة الثانية من النهضة:
(بدايات النصف الأول من القرن العشرين إلى بدايات الثلث الأخير من القرن العشرين)
(الجيل الثاني من رواد النهضة العربية)
يشمل الجيل الثاني من مثقفي النهضة العربي مجموعة أخرى كبيرة من المثقفين الذين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين. لمع واشتهر منهم على سبيل المثال: سلامة موسى (1877 – 1958)، طه حسين (1889- 1973)، احمد لطفي السيد (1872 – 1963)، شكيب أرسلان (1869 – 1946)، محمد كرد على (1876 – 1953)، ومالك بن نبي (1905 – 1973)، وعلي الوردي (1913 – 1995). تميّز مثقفو هذه الفترة بالانحياز إلى الثقافة الأوروبية وتبنّيها بشكل واضح، مثال ذلك دعوة طه حسين إلى تبني خطوات النهضة الأوروبية بحسناتها وسيئاتها دون تميّز. ولم يكن سلامة موسى ولا لطفي السيد أقل اندفاعاً منه، فسلامة موسى ذكر في كتابه "هؤلاء علموني" أسماء عشرين عالماً وفيلسوفاً غربياً تعلم منهم ولم يتعلم من أي عالم عربي، علماً أن الأوروبيون يعترفون بأنهم تعلموا من ابن رشد وابن خلدون على سبيل المثال لا الحصر. نادى الاتجاه الفكري في هذه الفترة بالعقلانية والابتعاد عن الدعوة للإصلاح الديني، وكان شبلي شميل وسلامة موسى وفرح أنطون متشددون جداً في هذا المجال وخاصة في مجال النظرية الدارونية وبإصرار ملحوظ. كذلك ظهرت الدعوات إلى القومية وتحرير المرأة والنهضة الأدبية والفكرية. ونوقشت مبادئ العلمانية والتنوير أيضاً. ويعتبر زكي نجيب محمود وفؤاد زكريا قادة الفكر العلماني في النهضة العربية.
كما ظهرت في هذه الفترة مظاهر التحضّر في دول المنطقة. فأنشأت المدارس الابتدائية والاعدادية والجامعات، وتحول التعليم من نظام الكتاتيب إلى النظام الدراسي الأوروبي، وكذلك التحضّر في مجال الصحة بظهور الأطباء الاختصاصيين والمستشفيات والأدوية، والهندسة والعمران، كما ظهرت بوادر الادب والفن السينمائي والمسرحي والموسيقى والغناء.
الفترة الثالثة من النهضة:
(بدايات النصف الثاني من القرن العشرين إلى الوقت الحاضر)
(الجيل الثالث من رواد النهضة العربية)
على الرغم من ظهور عدد كبير من المفكرين والمثقفين في هذه الفترة إلاّ أنه لم تبرز شخصية معينة استطاعت أن تكسب عقول الناس أو تُحدث تأثيراً ملحوظاً في الثقافة والفكر العربي كما لوحظ في رواد النهضة في الفترتين السابقتين. نذكر منهم على سبيل المثال: محمد عابد الجابري، جورج طرابيشي، نصر حامد أبو زيد، صادق جلال العظم، محمد اركون، وبرهان غليون وحسين محفوظ وكثيرون غيرهم.
عانت الدول العربية في هذه الفترة من تغيّرات وظروف سياسية وفكرية صعبة جداً أثرت بشكل مباشر وملموس على شخصية الفرد العربي وأفكاره الثقافية. خاضت المنطقة العربية حروباً عديدة قاسية ومدمرة، نتج عنها انهيار كامل للبنى التحتية لعدد من كبريات المدن العربية، وانهيار المنظومة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية فيها. كما ظهرت في هذه الفترة الحركات الإسلامية المتشددة والمُسَيسة، المسماة بالأصولية الإسلامية، التي عملت على إرهاب المجتمع العربي قبل الدولي. وانتشر الفكر الطائفي البغيض والتكفيري والقتل الطائفي الوحشي. كل ذلك تم بفعل سيطرة الإعلام والفكر الغربي على عقول أفراد المجتمع العربي، وكانت سيطرة شبه تامّة بحيث أصبحوا تابعين لأفكارهم وتبريراتهم بصورة مطلقة، وأصبح الدين الإسلامي جهادي وإرهابي ومعادي للنهضة والتطور.
تميّز الفكر الثقافي لمثقفي هذه الفترة بالتركيز على نقد العقل العربي ونقد الدين والتراث والاحتكام إلى مبادئ التنوير والعلمانية والحداثة باعتبارها أساس النهضة المتين، والتركيز على اعتبار التديّن ورجال الدين والتقديس عوامل تخلّف الأمة التي يجب محاربتها، فعانى المجتمع العربي من فوضى فكرية عارمة واجتهادات فكرية ساذجة تتماشى مع انكسار حركة النهضة والتطور.
ملاحظات على النهضة العربية
في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، كان الأوربيون معجبون ومبهورون بالمجتمع العربي في الأندلس لِما وصلوا إليه من تمدن وتحضّر وازدهار علمي وثقافي وحضاري، لكن اعجابهم كان مصحوباً بالألم والحسرة من الفرق الشاسع بين المجتمعين. فكانوا يقولون ويتساءلون كيف استطاع هؤلاء العرب البدو الرعاع من أن ينهضوا ويتطوروا بهذا الشكل المذهل، ولماذا لا نستطيع نحن أن نتقدم ونصبح مثلهم، بل حتى أن نكون أفضل منهم لأننا أحسن منهم وأذكى منهم وأكثر تحضراً منهم. فساوروا بهذا الطريق ووصلوا إلى ما كانوا ينشدون. في المقابل، ينظر العرب اليوم إلى الحضارة الغربية بإعجاب وانبهار، ويقولون إننا فاشلون متخلفون وليس لنا القدرة على التطوّر مثل الأوروبيين وليس هناك أمل في ذلك. وهذا نموذج واضح على الفرق الواضح بين ثقافة المجتمعين، المجتمع الواثق من نفسه وقدرته على النجاح والمجتمع الفاشل الذي لا يجد في نفسه القدرة على النجاح. وهذا جانب مما يجب أن نعمل عليه إذا أردنا أن ننهض.
لم يستيقظ الأوروبيون فجأة ليجدوا أنفسهم متحضّرين ومتطوّرين بل احتاجوا إلى ما يزيد على ستة قرون من الجهد والمثابرة والهمّة لإيقاظ مجتمعهم من الجهل والشعوذة والخرافات. عمل المثقفون الأوروبيون بجد وبدون كلل ليثقفوا أبناء شعبهم. والحقيقة انهم نجحوا فيما كانوا يبغون، وحصلوا على ما كانوا يريدون. ما زالت النهضة العربية حديثة الولادة بعمر يقل عن قرنين من الزمان، ويبقى الأمل موجوداً في النهضة إذا ما تخلص أفراد المجتمع من احباطاتهم وعملوا بجد وإخلاص ودون كلل.
يمكن ملاحظة علامات النهضة والتطور في المجتمع العربي بمقارنة حالة المجتمع في بداية عصر النهضة، في منتصف القرن التاسع عشر بحاله في القرن الحالي. إذ لا يمكن نكران التطور الحضاري والثقافي والعمراني الذي حصل للمجتمع العربي، وفي كافة المجلات الأخرى، وملاحظة ما وصل إليه المجتمع العربي في القرن الحادي والعشرين بالمقارنة مع مجتمع القرن التاسع عشر. فالنهضة موجودة ويجب العمل على إصلاحها وتحسينها ودفعها نحو الأفضل.
قد يختلف البعض معنا في هذا الطرح بمبرر إن النهضة العربية فاشلة بكل جوانبها إذا ما قورنت بما وصل إليه الغرب من تقدم علمي وثقافي وتكنولوجي، فهم يحصدون جوائز نوبل التي نعجز عن الحصول عليها!!. والجواب على هذا الطرح يكمن في المعيار الذي اختير للمقارنة بين النهضتين، بمعنى أنه معيار خطأ لا يصلح للمقارنة بين الطرفين. نحن لسنا في حالة سباق حضاري بيننا وبين الغرب لنقارن نفسنا بهم. أننا لا ننكر ما وصل إليه الغرب من تطوّر، وإن نهضتنا في مراحلها الأولى ومتعثرة، ولذلك لا يصح القول بهذا المقياس للتقليل من شأن النهضة العربية. إن المعيار الصحيح لتقييم النهضة العربية هو إبراز معالم النهضة والتطوّر أو التمدّن للمجتمع وذلك بتقييم حال المجتمع في الوقت الحالي ومقارنته بحاله في الزمن الماضي، كما سبق وأوضحنا، وملاحظة ما إذا كان هنالك تحسن في مجالات الحياة أم لا، وليس عبر المقارنة بمجتمع آخر يختلف عنه.
الرسالة الأخيرة
والرسالة الأخيرة موجهة تحديداً إلى كل من يعتقد بعدم وجود نهضة عربية أو كونها فاشلة، ذلك أن هناك الكثير من الشواهد التي تشير إلى أن المجتمع العربي يمر بنهضة حضارية وثقافية واجتماعية. وعلى الرغم من أن هذه المسيرة عانت من عقبات وعثرات صعبة ومؤثرة، وما زالت تعاني من الانتكاسات، لكنها لم تكن قاتلة ولم تفشل المسيرة. وما زال الطريق طويل ويمكن السير فيه بسواعد المفكرين والمثقفين الغيورين من أفراد المجتمع.
***
د. صائب المختار