قضايا
الحسين بوخرطة: قيمة الإنسان الكونية في زمن الغطرسة

منذ فجر التاريخ والإنسان يطمح إلى أن يكتب سيرته الذاتية، لا باعتبارها مجرد سرد لأحداث شخصية، بل كوثيقة فكرية تنقل إلى الأجيال المقبلة معنى أن تكون فردًا واعيًا في الأوقات الصعبة. وفي عصرنا الحالي، زمن يغمره التيه والتفاهة، حيث تسود الغطرسة وتُهمَّش القيم، يتضاعف هذا الطموح: أن نحول تجاربنا الفردية، بما تحمله من أفراح وأحزان، من انكسارات وانتصارات، إلى أرشيف إنساني يتجسد في نصوص ومذكرات ووسائط سمعية بصرية، تُسهم في تقاسم الوعي الجماعي وصياغة ذاكرة مشتركة.
إن الحق في السرد ليس ترفًا، بل هو "حق من حقوق الإنسان"؛ حق يضمن انتقال المعرفة والخبرة بين الأجيال، ويجعل من الفرد شاهدًا على عصره ومنخرطًا في التاريخ. فحكاية الفرد، في عمقها، ليست معزولة عن الجماعة، بل هي انعكاس لتفاعل الأنا الفردية مع الأنا الجماعية، وهي محاولة لتقييم المؤسسات والتجارب الإنسانية في ضوء مقاومة التفاهة وصون الموضوعية.
من هنا، يفرض السرد الفلسفي على الأفراد مسؤولية مضاعفة : أن يكشفوا كيف راكموا خصائص الفكر والوعي والإرادة والحرية، وكيف واجهوا القوى التي همّشت الموضوعية والكفاءة في تدبير الشأن العام. فالتاريخ السياسي الحديث حافل بأمثلة على انزلاق السياسة من فن شريف للحكم إلى أداة لإعادة إنتاج الأنانية والمصالح الضيقة. وفي هذا السياق، تبرز خطورة تحوّل الناخب، باعتباره جوهر الدولة والمجتمع، إلى مجرد سلعة تُباع وتُشترى، فاقدة لأبعادها الأخلاقية.
تضعنا هذه المعطيات أمام إشكالية مركزية: "ما قيمة الفرد في المجتمع الإنساني؟ وكيف يمكن لتفاعل الدولة والمجتمع أن يمنح هذه القيمة أبعادها الحقيقية في خدمة الصالح العام؟".
لقد قدّم إيمانويل كانط إجابة فلسفية جذرية حين أكد أن الإنسان ليس شيئًا، بل غاية في ذاته. فالكرامة الإنسانية لا تُختزل في المنفعة، بل تنبع من كون الفرد كائنًا عاقلًا، واعيًا ومسؤولًا. ومع ذلك، نبّه الفيلسوف جورج غوسدورف إلى خطورة الانغلاق في فهم المبدأ الكانطي؛ إذ لا يستطيع الفرد أن يعرّف ذاته بمعزل عن الآخرين، بل يكتسب قيمته عبر المشاركة والعطاء والتضحية. القيمة الإنسانية، عنده، ليست ملكية منغلقة، بل عطاء متجدد في فضاء التعايش.
ويتقاطع مع هذا الطرح إيمانويل مونييه، الذي اعتبر الشخص مصدرًا لكل القيم الأخلاقية، لا مجرد شيء بين الأشياء. فالشخصية الإنسانية، في نظره، تُبنى بالتشخصن، أي عبر الإبداع والانخراط المستمر في العالم. أما هيغل، فقد شدّد على أن الفرد لا يحقق قيمته إلا من خلال مشاركته الفعّالة، والتزامه بالقوانين، وإنتاجه للمنافع التي تعزز تماسك الجماعة.
إن هذه المفارقات الفلسفية، من كانط إلى غوسدورف، ومن مونييه إلى هيغل، تكشف عن حقيقة واحدة: قيمة الفرد لا يمكن أن تُبنى إلا على أساس الوعي، والمشاركة، والتضامن. غير أن العالم المعاصر يشهد انحرافًا خطيرًا، حيث تعمل بعض القوى المتغطرسة على تكريس فكرة تشييء الإنسان، ورفع قيمة مواطنيها عبر وهم "الإمبراطورية" المتعالية، في مقابل تهميش باقي الشعوب. هذا المنطق لا يؤدي إلا إلى انفجار الصراعات، وتفاقم الأزمات، وتقويض إمكانيات العيش المشترك.
لقد أثبت التاريخ أن العزلة الوجودية للأفراد والمجتمعات وهم قاتل، وأن الانغلاق والتمركز حول الذات طريق قصير نحو الانهيار. في المقابل، لا سبيل أمام الإنسانية إلا الاعتراف بقيمة الفرد في ذاته، وتربيته على التضامن، وإطلاق طاقاته الإبداعية في إطار المبدأ الأخلاقي الحديث "رابح – رابح".
خاتمة
إن العالم اليوم في مفترق طرق. فإما أن نستسلم لمنطق الغطرسة والتشييء الذي يحول الإنسان إلى أداة، وإما أن نستعيد الرشد الفلسفي الذي يضع الإنسان كغاية وكرامة غير قابلة للتصرف. وحده الاعتراف المتبادل بالقيمة الإنسانية، وتغذية روح المشاركة والتضامن، يمكن أن يمنح البشرية فرصة النجاة. فالإنسان ليس للبيع، وليس وسيلة للغير. إنه غاية، والغاية لا تُداس دون أن ينهار معها معنى الوجود ذاته.
***
الحسين بوخرطة - الدراسات العليا