قضايا
غالب المسعودي: الكسل الفلسفي معضلة وجودية

يواجه العصر الحديث مفارقة وجودية عميقة؛ ففي الوقت الذي تعجّ فيه الحياة بالتحديات الاجتماعية والفردية المعقدة، يسود اعتقاد بأن الفلسفة ليست سوى ترف عقلي وجدليات ديالكتيكية عديمة الفائدة. تُنكر أهميتها أحياناً وتُتهم بأنها "ثرثرة" أو "مضيعة للوقت"، بينما يُنظر إلى الفلاسفة على أنهم ذوو قدرات محدودة يخوضون في قضايا تجاوزها الزمن. يهدف هذا الموضوع إلى دحض هذه النظرة من خلال تحليل مفاهيم فلسفية أساسية كالكسل والفضول، كما تجلت في الفكر القديم والمعاصر، وتقديمها كأدوات حيوية لتحقيق الوعي والسكينة في عالم مضطرب.
في الحقيقة لا يمكن فصل السؤال الفلسفي عن الحياة الاجتماعية للإنسان، فالفلسفة لم تغفل يوماً عن قضايا ومشاكل الناس وشأنهم العام. إنها ليست مجرد دراسة نظرية، بل هي ممارسة تهدف إلى تخفيف المعاناة وتشكيل الذات وإعادة تشكيلها، ودعوة لكل إنسان لتغيير نفسه. هذه المفاهيم سأتناولها واقارن بين وجهات نظر متناقضة لفيلسوفين عظيمين، سقراط وأبيقور، ثم الربط بين هذه المفاهيم وأهمية التفكير الفلسفي في الحياة اليومية، مع التأكيد على أن الفلسفة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة مستمرة للتفكير الواعي والعمل العقلاني.
الكسل الفلسفي: من العطالة السلبية إلى الإبداع المنتج
يُعد مفهوم "الكسل الفلسفي" أحد أكثر المفاهيم الفلسفية إثارة للجدل، وذلك لكونه يتناقض مع النظرة التقليدية للكسل كعطالة أو خمول سلبي. الكسل السلبي هو حالة من الفتور والإمعان في السلبية، تُصيب الإنسان وتجعله يُحجم عن القيام بما يجب عليه. هذا النوع من الكسل هو ما تسعى الفلسفات الموجهة، مثل مفهوم "كايزن" الياباني، إلى التغلب عليه من خلال التحسين المستمر والجهد التدريجي، وتقسيم المهام الكبيرة إلى خطوات صغيرة.
الفضول: من الرغبة المعرفية إلى التساؤل الفلسفي
يُعد الفضول محركاً أساسياً للوجود الإنساني، وهو دافع فطري قاد أعظم الاكتشافات العلمية والفلسفية على مر التاريخ. وكما يرى أرسطو، فإن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف، وهي تتطلب درجة عالية من العقل. يكمن جوهر الفضول في الذهاب نحو المجهول، نحو ما لا نعرفه، وهو استعداد الفرد لشيء مغاير لما هو معهود.
يمكن التفريق بين نوعين من الفضول: الفضول الفكري والفضول الفلسفي. الفضول الفكري هو الرغبة في سد "فجوة معلوماتية" معينة، أو البحث عن إجابات تفسر ظاهرة محددة. مجاله هو العالم المحسوس والمادي، وهدفه اختبار الفرضيات بناءً على البيانات الواقعية. هذا الفضول، رغم أهميته، قد يكون سلبياً إذا تحول إلى "تطفل".
أما الفضول الفلسفي، فهو رغبة أعمق وأشمل. إنه ينطلق من الدهشة ويسعى للبحث عن الحقائق الجوهرية والأساسية التي تحيط بالواقع والوجود. إنه يجعل من كل شيء موضوع تساؤل ونقاش وسجال، وهو ما جعل الفيلسوف كارل ياسبرز يرى أن "الأسئلة في الفلسفة أهم من الإجابات عليها". الفضول الفلسفي هو مستوى أعلى من التفكير يتجاوز مجرد جمع المعلومات، فهو يختبر الافتراضات الموجودة في السؤال نفسه.
يمكن النظر إلى الفضول الفكري كشرط ضروري، ولكنه غير كافٍ للفضول الفلسفي. يبدأ الإنسان بفضول فكري حول ظاهرة معينة، ثم عبر التحليل والتساؤل النقدي، يتحول هذا السؤال إلى إشكالية فلسفية تتطلب تفكيراً أعمق. إن الفضول، وفقاً لعلماء النفس، سلاح ذو حدين، حيث يجب تحقيق التوازن. إذا كانت الفجوة المعلوماتية كبيرة جداً، يصبح السؤال مرهقاً، وإذا كانت صغيرة جداً، يسبب الملل. الفضول الفلسفي يتطلب هذه الموازنة الدقيقة؛ فهو يبحث عن الأسئلة الصعبة والمدهشة دون أن يستسلم للشك المطلق أو اليقين الزائف.
المواجهة الفلسفية: سقراط ضد أبيقور
يُعرف سقراط بأنه فيلسوف الاستبطان وفحص الذات بامتياز، وتُعد مقولته الشهيرة "الحياة غير المفحوصة لا تستحق العيش" إحدى أهم معتقداته التي تحدد معنى العيش حياة فلسفية. هذه المقولة ليست دعوة للتحليل الأكاديمي، بل هي تحدٍ جريء للعيش بوعي وقناعة، من خلال إعادة النظر في القيم التي نعتبرها مسلّمات. كان سقراط يرى أن الغرض الأساسي من الفلسفة هو جعل حياة المرء أفضل من خلال جعله شخصاً أفضل، ويربط ذلك مباشرة بالمسائل الأخلاقية.
تُعد فلسفة سقراط فلسفة مواجهة لا هروب. هو يواجه الآخر في الحوار ليجعله يواجه نفسه، ويواجه المجتمع بتحريضه على التفكير في الأخلاق والقيم بدلاً من جمع المال والشهرة. إنها فلسفة نشطة، اجتماعية، وأخلاقية، تهدف إلى إصلاح الفرد والمجتمع من خلال العقل. هناك علاقة سببية مباشرة بين منهجه وغايته؛ فالمنهج القائم على الاستجواب والنقد هو الوسيلة للوصول إلى الغاية المتمثلة في الحياة الفاضلة. إن غاية الحوار ليست كسب النقاش، بل توليد الحكمة ومعرفة الذات.
أبيقور: السكينة الداخلية كهدف أسمى
في المقابل، قدم أبيقور رؤية مغايرة تماماً للسعادة، تتلخص في الوصول إلى حالتين: "الأتاراكسيا" (السكينة والهدوء النفسي) و"الأبونيا" (غياب الألم الجسدي). يرى الأبيقوريون أن الخوف هو أكبر عدو للسعادة، وأن التخلص منه هو الخطوة الأولى نحو حياة هادئة ومليئة بالسلام الداخلي. سعى أبيقور لتحرير العقل من المخاوف الأساسية التي تشلّه. أولها الخوف من الموت، الذي اعتبره غير منطقي؛ فالموت هو نهاية الوعي، وبالتالي لا يوجد وعي أو إحساس بالألم بعده. حجته الشهيرة في هذا الصدد هي: "عندما نكون نحن، يكون الموت غائباً؛ وعندما يكون الموت، نكون نحن غائبين". وثانيها الخوف من الآلهة، حيث اعتقد أبيقور أن الآلهة، رغم وجودها، لا تتدخل في حياة البشر ولا تعاقبهم، لأنها تعيش في حالة من السعادة الأبدية، مما حرر أتباعه من القلق الديني والخرافات.
الفلسفة في العالم الحديث: التفكير كمهارة حياتية
الفلسفة ليست مجرد دراسة نظرية، بل هي "أداة عملية" تساعد الأفراد على تطوير مهارات التفكير النقدي والتحليلي، التي بدورها تمكنهم من اتخاذ قرارات حكيمة ومدروسة في حياتهم اليومية. إن الفلسفة توفر أساساً لفهم الأخلاق وطبيعة السلوك الإنساني. على سبيل المثال، تدعو فلسفة كانط الأخلاقية إلى التفكير في جوهر الفعل الأخلاقي نفسه، وتطبيق مبدأ الواجب المطلق في العلاقات الشخصية والمهنية والمجتمعية.
الفلسفة ومواجهة تحديات العصر
يمثل "اقتصاد الانتباه"، الذي يُعرّف بأنه تنافس على جذب انتباه الإنسان الذي أصبح سلعة نادرة، تحدياً وجودياً مباشراً لقدرتنا على التفكير العميق. إن تدفق المعلومات والإشعارات يستهلك انتباهنا، مما يقلل من صبرنا على الفهم ويدفعنا نحو "التفريغ الإدراكي". الفلسفة هي الحل لهذه المعضلة؛ فهي تدعو إلى "الصوم الرقمي" وإعادة السيطرة على العقل، كما تدعو إلى التفكير النقدي لتمييز الأخبار الكاذبة والمضللة، وبذلك تقاوم الكسل الفكري الذي يسببه العصر الرقمي. إن الكسل الفلسفي ليس عطالة، بل مساحة ذهنية للإبداع. والفضول الفلسفي ليس مجرد تطفل، بل هو محرك للوعي والبحث عن الحقائق الجوهرية. إن فلسفة سقراط وأبيقور، رغم تناقضهما الظاهري، تقدمان نماذج عملية للتعامل مع الوجود؛ الأولى تدعو للمواجهة والتدخل لإصلاح الذات والمجتمع، والثانية تدعو للانسحاب لتحقيق السكينة الداخلية والتحرر من المخاوف، لذلك فإن التحدي الأكبر في عصرنا يكمن في مقاومة الكسل الفكري واللامبالاة الوجودية، واستبدالها بالتفلسف اليومي.
***
غالب المسعودي