قضايا

سجاد مصطفى: في اغتيال الحقيقة وتواطؤ الجماعة مع الزيف

﴿والحقّ يصرخ في مذبح الصمت﴾

ليس الحديث هنا عن الحقيقة بوصفها مفهوماً مجرداً يختزل في حدود التعريفات الفلسفية المتداولة، بل عن حقيقةٍ تعرّضت لاغتيالٍ مقصودٍ من منظومة اجتماعيةٍ تآمرت على إخفائها وتكبيل صوتها. الحقيقة في هذه الرؤية ليست قضيّة معرفةٍ فحسب، بل قضية وجودٍ وكرامة، حين يتحوّل الصمت من فضيلةٍ أخلاقيةٍ إلى أداةٍ بيد السلطة لتكميم الأفواه وقمع الأصوات المنبّهة. والسؤال الذي يفرض نفسه ليس ما هي الحقيقة، بل لماذا يُقتل صوتها في بيئة تدّعي حرصها عليها؟

يرى المفكّر ميشيل فوكو أن الحقيقة ليست كياناً مستقلاً أو مطلقاً، بل هي ثمرةُ إنتاجٍ ضمن أنساقٍ متداخلةٍ من الخطاب، حيث تتشابك اللغة والمصلحة والسياق السياسي لتشكيلها وتوظيفها وفق متطلبات مراكز القوة والنفوذ. الحقيقة إذًا ليست سوى لعبةٍ مصطنعةٍ تروّج لها المؤسساتُ لفرض استقرارٍ زائفٍ على الواقع. وما نتصوّره حقائقَ أبدية في كثيرٍ من الأحيان ما هو إلا إجماعٌ قسريٌ مشبّعٌ بالخوف من التفكيك والتحليل. وتزداد المأساة حين تُستبدل الحقيقة بالحماية الطقسية، فتجفُّ ينابيعها، ويتحول حضورها إلى جملةٍ من الشعائر التي تخدّر الوعي وتمنع النقد.

ولا يخفى على المتأمل أن المجتمعات التقليدية تعلّمت سكوتًا حكيمًا، أو هكذا تظن، وهو في حقيقته الخوفُ من المساءلة والردّ، لا حكمةً أو تروّيًا. فتقول حنّة أرندت إن الخطر ليس في الكذب، بل في قبول الكذب كجزء من الحياة العادية. والصمت الجماعي إذن لا يحمي الحقيقة، بل هو شريكٌ خفيّ في تمكين الزيف من الاستفراد بالواقع، فحين يُذبح الحقّ علنًا في وسط المجتمع، ويظلُّ الصمت سيد الموقف، يتحمّل الجميع عبء القتل لا باليد بل باللسان المكبوت.

الطقوس ليست بذاتها أداة قتل للحقيقة، ولكنها تؤول إلى ذلك عندما يُفصلُ المعنى عن الممارسة، فتتحوّل إلى حجابٍ يوارِي جوهر الثورة والرفض. في سياقاتنا، كثيرًا ما يُختزل الحسين – رمز الثبات والتغيير – إلى مظاهرٍ طقسيةٍ باردةٍ تُعيد إنتاج حالة التبعية والجمود، فتصبح ذكرى الحسين مناسبةً للأحزان التي لا تُفجّر إرادة التغيير، بل تُكرّس حالة الرضوخ والتواطؤ. كما قال علي شريعتي إن الحسين ليس شخصًا يُبكى عليه، بل مبدأ يُقاتَل من أجله. لكنّنا في واقعنا أفرغنا الحسين من ثورته وملأنا مجالسنا بالنحيب، فكان ذلك أشدّ قتلاً من السيوف.

ومن المؤلم أيضًا أن الحقيقة في مجتمعاتنا لا تُطرح بمعزلٍ عن الناطق بها، فلا تزن الكلمة بميزان الحق والباطل، بل بميزان انتماء القائل. يقول الإمام علي عليه السلام اعرف الحق تعرف أهله، غير أن الأمة ألبست أهل الحق لباس الحق، فاصبح الحق في ذاك الأسلوب صفةً للأشخاص، لا لمضمون القضيّة، وانعكس ذلك إلى تضييق آفاق النقد والحرية.

الحقيقة لا تُقتل بالعنف الفجّ فقط، بل بسلسلة من التكتيكات الدقيقة كالالتفاف، والتأجيل، والتأويل القسري، والتشتيت، والتشخيص. التأجيل يتحجّج بغير وقته، والتأويل يزيف النص ليخدم المصالح، والتشتيت يغرق المعنى في تفاصيل ثانوية، والتشخيص يقتل الفكرة بتخوين حاملها. كل هذه استراتيجيات تمكّن الزيف من الهيمنة، وتجعل من الصمت مسرحًا للتواطؤ والانسحاب.

إن الحقيقة لا تموت بحد السيف، بل تموت بالسكوت على الظلم، وبالقبول بالزيف، وبالتغاضي عن القتل الرمزي. ندفن الحقيقة ونقيم عليها العزاء، وننشر في الصحف أن لا أحد قتلها. إن نسيان الحقيقة يعادل تعميم الكذبة، وعبر نسياننا هذا نُمسخ كرامتنا ونغتال ضميرنا.

الحقيقة لا تطلب جمهورًا، بل تطلب ضميرًا واعيًا، شجاعًا، لا يخشى المواجهة. لا تحتاج إلى مناصرين كثيرين، بل إلى صادقين قليلين. كل من يسكت عن الحقّ يبني سكينًا مسمومةً في ظهر التاريخ. كل من يبرر الزيف باسم الاستقرار يكتب شهادة اغتيال الحقيقة باسمه. وأشدّ ما أذهلني أن الطقس أضحى قاتلًا محتمًا، جعلنا ندفن الحسين كل عام وننسى أن نثور.

إن الحقيقة تصرخ اليوم في مذبحٍ من خشبٍ تغشاه منابر السلطة، ومن حرير الفتاوى، ومن أكفان وعي الجمع. فإذا لم نستجب لصراخها، فإن دماءنا ستكون خاتمة كتابها المؤلم.

***

الكاتب سجاد مصطفى حمود

 

في المثقف اليوم