قضايا

حيدر شوكان: التشيع أكبر من الطقوس

تلقيت رسالة من أحد الأصدقاء، وهو أكاديمي في إحدى الجامعات العربية متسائلًا وناقدًا:" ألم يقتضب التشيع في إيقاعات احتفالية تستعاد دوريًا؟ ألم يتحول التشيع في الوعي المعاصر إلى طقوس ومأتم وزيارة الأربعين وو؟
ثم طلب مني التعليق، أقول: إن هذا الاختزال الذي يمارسه بعضهم هو استلاب مزدوج، يتجلى أولًا في تجريد التشيع من حمولته الفكرية العميقة، وثانيًا في إعادة صياغته كظاهرة احتفالية جوفاء، لا تمتد جذورها إلى الحراك النقدي والاجتماعي الذي ميزه في التاريخ. هذه الرؤية، التي تسجن التشيع في إطار الشعيرة وحدها، ليست مجرد سوء فهم بريء، بل هي عدسة تشويهية تُسقط من الحساب التحولات الفكرية التي أسهمت في هندسته كقوة حضارية فاعلة.
ولست هنا في مقام تحليل معمق للخطاب الشيعي وطقوسه وتحقيبه، ولا في سياق تفكيك التصورات السائدة فيه عبر تراكماته فذلك له مجاله وأدواته من الانثروبولوجيا التاريخية ومنهجياتها النقدية التي قد تستدعي قلب المفاهيم رأسًا على عقب. ما يعنيني هنا هو الإلماح إلى رفض اختزال المنظومات بطريقة متسرعة، متجاهلة التداخلات المعقدة بين الممارسة والفكر، بين الرمزي والسياسي.
إن التاريخ لا يُوثق بسطحية العناوين ولا بتحليل الاستهلاك العاطفي، بل هو انبثاقٌ لحركة الفعل الإنسانيَّ في صراعه مع الوجود، إذ يتخطى التشيعُ بُعدَه الطقوسي ليتجلى كدينامية حضارية، يتقاطع فيها الجهاد بالمعرفة، والبذل بالتأمل. فليس التشيع محض انتماء مذهبي، بل هو مدرسة معرفية أنجبت العباقرة، وناضلت، انطلاقًا من رؤية كونية تدرك أن المواجهة ليست ضد الآخر الديني أو المذهبي أو السياسي بقدر ما هي صراع مع القوى المهيمنة والأنظمة القامعة التي عملت على تدجين الفكر وسلب الإرادة الفاعلة.
إن التشيع، في جوهره، لم يكن يومًا مجرد ممارسة طقوسية، بل كان دائمًا رؤية نقدية للحكم والمعرفة والتاريخ، واستمرارًا لمسار من المراجعة والنظر والتحدي لمراكز السلطة والهيمنة. لذا، فإن أي محاولة لاختزاله في الشعائر وحدها ليست سوى تفريغ ناعم لمضامينه الكبرى، وجعل الفكر حبيس الأداء، في تجاهل صارخ لأثره في بنية الدولة والمجتمع والفكر الإسلاميَّ ككل.
لا يمكن إنكار أن التكرار المفرط للطقوس والممارسة الشعائرية المكثفة لا تبقى مغلقة داخل فضائه الداخلي، بل تُعيد تشكيل صورة التشيع في وعي الآخر، إذ تتقلص التجربة إلى بعد نمطي واحد، فتُقرأ من خلال مرآة الطقس لا من خلال عمقها الفكري وتضاريس التاريخي فيها. من ثَّم، نرى أن المؤسسات الدينيَّة أمام مسؤولية تاريخية ومعرفية تقتضي إعادة النظر في حجم هذه الممارسات وتوجيهها نحو وعي أكثر اتزانًا، يضمن ألا يُختزل التشيع في مظهره الاحتفالي وحده.
إن العالم اليوم أشبه بقرية كونية صغيرة، تخضع للمراقبة المستمرة عبر عدسة مكبرة، إذ لا يمكن لأي تجربة أن تعيش في عزلة عن أعين المراقبين والمتأملين، سواء بحسن نية أو بسوء تأويل. لذا، فإن مسؤولية إنتاج وعي حضاري متجاوز لثغرات الطقس تقع على عاتق الفاعلين في المشهد الدينيَّ،" ومديري شؤون التقديس فيه"، ليس من باب الانفصال عن الموروث، بل من باب إعادة هندسة حضوره، ليكون جسرًا نحو فهم أعمق للتشيع، لا حاجزًا يحصره في أفق ضيق من الشعائر وحدها.
إن التجربة التاريخية للمجتمعات والملل الكبرى تكشف أن إعادة النظر في الموروث، بممارساته وصوره، لم تكن يومًا فعلًا ترفيًا، بل ضرورة وجودية فرضتها ديناميكيات التحول الحضاري. فالأمم التي امتلكت الجرأة على تحليل ذاتها ونقد موروثها، لم تفقد هويتها، بل وسّعت أفقها، وأعادت إنتاج صورتها بوعي أكثر عمقًا ومسؤولية.
هذا يعني أنّ الطقس الديني لا بد أن يخضع لميزان النقد والمعايرة، لا من منطلق الرفض، بل من منطلق إعادة تعريف وظيفته داخل المنظومة الفكرية والاجتماعية. إذ إن الطقوس التي لا تثمر استقطابًا معرفيًا، ولا تحرك حراكًا فكريًا، تظل ممارسات خاملة، تستدعي الغربلة والزحزحة من خلال قراءة علمية متأنية، تعيد ضبط العلاقة بين الشكل والمضمون، بين الممارسة والمعنى.
وتاريخ التشيع، بامتداداته العميقة، ليس غريبًا عن هذه الحركة النقدية؛ فهو تاريخ متحرك، لا ساكن، تاريخ مراجعة وتحدٍّ، لا جمود واستكانة. وكل لحظة فارقة فيه كانت وليدة نقد الذات قبل نقد الآخر، ما يجعل من النقد ونقد النقد في الطقوس امتدادًا طبيعيًا لمنهجه التاريخي، لا خروجًا عنه.
***
أ. م. د. حيدر شوكان سعيد
جامعة بابل/ قسم الفقه وأصوله

في المثقف اليوم