قضايا

خالد اليماني: الكتابة القلبية

كثيرًا ما نقرأ نصوصًا تبدو مكتملة من الخارج: اللغة سليمة، الفكرة واضحة، والاستدلال متماسك. لكنها، رغم كلّ ذلك، لا تمسُّنا. تمرّ بنا وكأنها عبورٌ صامتٌ لا يترك أثرًا. لا تُغضب، ولا تُبهج، ولا تُثير فينا شيئًا. كأنها كُتبت لتُنجَز، لا لتتجسَّد.
في المقابل، هناك نصوصٌ متواضعة الشكل، متعثّرة أحيانًا في دقتها أو خالية من الزخارف اللفظية، لكنها تترك أثرًا يصعب محوه. تُفصح عمّا يشبهنا، وتقول ما لم نستطع نحن أنفسنا أن نبوح به.
هذا الفرق لا يعود إلى جودة الفكرة وحدها، بل إلى ما هو أعمق: الصِّدق، الحضور، الصَّوتُ الجوانيُّ أو ما أحبّ أن أسمّيه: «الكتابة القلبية».
الكتابةُ القلبيةُ تنشأ من المسافة بين التّجربة واللغة، من ذلك الفراغ الذي يتكثّف حين يعجز التعبير العادي عن احتواء ما يمرّ به الإنسان. ليست مشروعًا أدبيًا، ولا انفعالًا عابرًا، بل نوعٌ من الإنصات الداخليَّ الطويل، حيث تتكوّن الكلمات ببطء، كأنها تُصغى قبل أن تُقال. في لحظاتها الأصدق، لا تكون الكتابةُ اختيارًا، بل ضرورة، كما لو أن اللغة لم تأتِ لتُضيف شيئًا، بل لتكشف عمّا كان مطمورًا خلف الصِّمت.
في هذا النوع من الكتابة، لا يبدو الكاتبُ مشغولًا بالجمال ولا بالدِّقّة، بل بالحضور. إنَّه يحاول أن يكون هناك، في الجملة، كما كان تمامًا في تلك اللحظة التي ولَّدت الحاجة إلى القول. ولهذا كثيرًا ما تأتي عباراته مشبعة بالتردّد أو الوضوح الفجّ، لا لضعف في الأسلوب، بل لأن الحقيقة حين تخرج من الداخل، نادرًا ما تأتي مُهندسة.
وربما لهذا السبب تحديدًا، تبدو هذه الكتابة أكثر عُسرًا، لأنها تتطلَّب صدقًا لا تحميه نظرية، وتجرّدًا لا يتكئ على بلاغة. إنّها تمرينٌ على الإصغاء للذات قبل مخاطبة الآخر.
لو تأملنا أعمال بعض الكتّاب والفلاسفة الذين تركوا أثرًا عميقًا لا يُمحى، لوجدنا أن سرّ كتاباتهم لم يكن في صرامة الأسلوب ولا تعقيد الفكر، بل في صدق التّجربة التي كُتبت منها.
دوستويفسكي بخاصة، سلك بالكلمة دروبًا موحشة في أعماق النفس البشرية، كأنّه يستخرج المعنى من قاع الروح. لم يكن فيلسوفًا يُلقي أطروحات، بل إنسانًا يكتب من شدّة ما عاشه. في رواياته، لا نقرأ فكرة، بل نواجه وجودًا مضطربًا، يبحث عن الله، عن الخلاص، عن ذاته. الكتابة عنده لم تكن فعلًا أدبيًا، بل ضرورة وجودية.
الكتابة القلبية إذن، هي المقام الذي تُولد فيه الكلمة من أعماق الكينونة، لا أداةً للتعبير، بل شكلًا من أشكال الوجود. هي الإنصات لما لا يُقال، والاقتراب مما لا يُحاط به. هناك فقط، تبدأ اللغة في أن تكون أكثر من لغة: أن تكون حضورًا.
***
خالد اليماني

 

في المثقف اليوم