قضايا
حاتم حميد محسن: العوامل التجارية والاقتصادية لظهور الديمقراطية

عندما كان جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، حذّر من ان خصومه السياسين يشكلون تهديدا للديمقراطية ذاتها. نفس الاتهامات وُجهت ضد الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو. في الحقيقة، العديد من الصحفيين والنقاد يدّعون ان التهديد للديمقراطية هو ظاهرة عالمية. المحافظون لطالما انتقدوا خصومهم لكونهم متساهلين حول الجريمة، اما الليبراليون فقد انتقدوا خصومهم لعدم اهتمامهم بالفقراء، لكن اتهام المعارضة بكونها "تهديد للديمقراطية" يبدو اكثر إحباطا، فهل هذه الاتهامات صحيحة؟ ان تحذيرات مثل "الديمقراطية ستصل الى نهايتها عندما انت لا تستمع لي" هي قديمة قدم فكرة ان الأغنياء يزدادون ثراءً والفقراء يزدادون فقرا.
منذ نشوء الجمهورية الديمقراطية القديمة في اثينا، كان النقاد يحذرون المواطنين من زوال الديمقراطية الحتمي. فمثلا، في الجزء الثامن من كتاب الجمهورية لإفلاطون (380ق.م)، حذر سقراط من تساهل الديمقراطية في الميول نحو الجريمة، والإفراط في المساواة: "ألم تلاحظوا كيف ان العديد من الاشخاص في الديمقراطية، رغم معاقبتهم بالنفي، يبقون حيثما هم ويتنقلون حول العالم؟.. الرجال الكبار في السن يعطفون على الشباب.. ولايجب ان انسى المساواة بين الجنسين.. الافراط في الحرية يتسع ليتحول الى إفراط في العبودية.. وهكذا يبرز الاستبداد من الديمقراطية". وفي روما ،بعد انتخاب ماركوس ليفيوس دروسوس مدافعا عن الشعب عام 121 ب.م، صرخ اصدقاء خصمه كايوس جراكوس في الشكوى من عدم العدالة، وهو ما جعل زوال الديمقراطية يبدو حتميا. هم اتهموا دروسوس في التلاعب بأصوات الناخبين. وكرد فعل، طارد مساعدو دروسوس كايوس وقتلوه. الديمقراطية لازالت تعمل في اليونان وروما بعد قرون، والتنبؤ بموت الديمقراطية ذاتها لم يتحقق ابدا. لكن الديموقراطيات تولد وتموت. كيف نستطيع معرفة ان كانت الديمقراطية الحالية مهددة؟
ظهور الديمقراطية
قبل معرفة ان كان هناك تهديد للديمقراطية، نحتاج لفهم كيف جاءت الديمقراطية في المقام الاول. في (حياة اليونان،1939)، يقدم لنا المؤرخ وول دورانت Will Durant فكرة : "في عام 459 ق.م، كان بريكلس متحمسا للسيطرة على قمح المصريين، فأرسل اسطولا كبيرا لطرد الفرس من مصر. الحملة فشلت، وبعد ذلك تبنّى بريكليس سياسة كسب العالم عبر السيطرة على التجارة بدلا من الحرب".
ليس صدفة ان جميع الديمقراطيات القديمة برزت في مراكز الانتاج اوعند مفترق الطرق التجارية. التجارة أجبرت التجار كمتعصبين وكارهين للاجانب للمقايضة مدنيا مع متعاملين من أماكن اخرى. اذا كان المطلب الاول للتاجر هو القدرة على اكتشاف الصفقات الكبيرة، فان المطلب الثاني يجب ان يكون التسامح مع الملابس الغريبة وعادات المستهلكين. نجاح التاجر يعتمد على معاملة كل شخص بنفس الشيء سواء كان يحبه ام لا. لذا فان التجارة تحوّل اللاتسامح الى تسامح. وبعد قرون، صعدت روما كما اليونان من قبل فهيمنت على التجارة. بالنهاية، قادت حروب روما الدائمة الى تركيز نسبة كبيرة من الثروة والسلطة لدى الدولة. الحروب خنقت التجارة في كلا الامبراطوريتين وادت الى انحطاطهما.
وبعد سقوط روما في القرن الخامس الميلادي، خيّم تقريبا الف سنة من ظلام الامية على اوربا. بعد ذلك، بزغ شعاع ضوء في الافق. في القرن العاشر، منحت التجارة مولدا للديمقراطية عندما قادت النشاطات التجارية الواسعة الى تكوين جمهوريات ايطاليا البحرية في البندقية وجنوة وبيزا. مرة اخرى، القتال المستمر جعل حياة تلك الجمهوريات قصيرة. التجارب الحالية تعلّمنا نفس الدرس: الديموقراطيات تنشأ كتعبير سياسي للمجتمعات التجارية.
التسامح والمساواة كمحصلة للانتاج والتجارة
لنستطلع قليلا كيف تقود الفعالية التجارية الى ظهور المساواة الديمقراطية والحكم الذاتي والحرية. ان توسّع التجارة يغير العلاقات بين المواطنين ويصوغها لتتماشى مع نفسية صاحب المتجر. معظم علاقاتنا هي سطحية، نجاحها او فشلها يتم قياسه بمعطيات مادية. التاجر لا يهتم بالضرورة بلون جلدك، وانما في النقود التي لديك. لا يهم كثيرا بالنسبة له ما اذا كنت زائرا اجنبيا او جار له في الشارع. هو ينظر الى ربحه. لذا فان التجارية الديمقراطية بالنهاية تعزز تسامحا سياسيا واجتماعيا واسعين. لكن صاحب المتجر ليس فقط عليه ان يبدو مرحبا بالناس، هو ايضا عليه ان يملأ رفوف متجره بأشياء يرغبها الناس. لذا فان البائع ،اكثر من أي شخص آخر، مسؤول عن تعريف بقية الناس على عادات واذواق الناس الاخرين.
التغيرات تحدث في مجتمع حين تبدأ فيه طبقة التجار باكتساب سلطة اكبر، وهنا يدخل الحراك الاجتماعي حيز التنفيذ: "في الديمقراطية، عندما يذهب النجار للمطعم لشراء طعام، يكون النادل هو خادمه المؤقت. في اليوم التالي، عندما يذهب نفس النجار الى بلد النادل لنصب خزائن، يصبح النادل سيدا ورب عمل.. في هذه الطريقة، هم يعتبرون بعضهما البعض كمتساوين اجتماعيا" (قطيعنا الانساني، ستيفن مارتن فرتز،2020).
التاريخ كمحصلة للانتاج والتجارة
تخلق التجارية أكثر من مجرد ثروة وديمقراطية: انها تصنع تاريخا. في الامم القليلة الانتاج والتجارة، لاشيء يتغير تقريبا. بدون تجارة وفيرة، ليس امام الفقير الاّ القليل من الفرص، والحراك الاجتماعي ليس له وجود. عندما يضمن الابن مستقبله كفلاح مثل ابيه، وبنته تتأكد من مستقبلها كربة بيت او راهبة مثل النساء الاخريات، فلن يحدث أي شيء جديد. التاريخ ذاته يبدو كأنه ثابتا. في ظل هذه الظروف الساكنة، اصبحت العلاقات الطويلة الامد راسخة الجذور. عندما يحتال فرد على آخر بالنقود، فان عائلة ذلك الفرد سيتم تذكّرها لعدة اجيال كغير جديرة بالثقة. في مثل هذه الظروف، يصبح لتاريخ العائلة أهمية كبيرة. عندما يتم اختيار شخص ما كمسؤول محلي حكومي، هو يحاول المناورة مع أقاربه على مواقع وظيفية مشابهه، فتبرز الهرمية وتبقى بلا تغيير لسنوات. وهكذا عندما تصبح الامم الفقيرة هرمية، وتكتسب فيها بعض العوائل قيمة أكثر من الاخرين سيبرز نظام طبقي، يقوده الملوك او الملكات. افكار مثل "شرف" و "سمعة" تعني كل شيء، وربما الى درجة تستبدل النقود لتصبح كعملة للمجتمعات الفقيرة. كل هذا انقلب رأسا على عقب في ديمقراطية متغيرة سياسيا، وتجارة واسعة تضمن زيادة كبيرة في الاختراعات الجديدة وتغيرات في اسلوب الحياة ايضا. الاشياء تتطور بسرعة والناس يتحركون وراء النقود. لذا فان الثقافة الديمقراطية هي حضارة تتقدم بسرعة مع الكثير من التغيير يحدث في وقت قصير نسبيا. خلال أجيال قليلة، اصبح من الصعب التعرف على الجيران. الرجل الذي يقف خلفك في المحل ربما فقير او حاكم اقليم، انت لا تعرف ذلك ولا تهتم به. الشرف والسمعة تعني القليل عندما لا احد يعرف ماضينا، وحتى القليل ربما يعرفون اسمنا.
الحكومة الذاتية والحرية
ما يعطي المجتمعات فرصة التحول من شكل للحكومة الى شكل آخر هو اختفاء القبضة الحديدة لقوة الملكيات والدكتاتوريات. عندما يكون هناك القليل من الموارد تُفرض عليها الضرائب والقليل من الفعاليات تُراقب وتُنظم، فان عدد المشرفين الحكوميين يتضائل وينكمش تأثير البيروقراطيين على المزارعين المحليين والحرفيين. هذا يخلق فرصا لرواد الاعمال. التاجر المغامر الذي يفتح محلا لبيع سلع مستوردة جديدة ربما تزداد ثروته ببطء. الحكومات المهتمة بمزيد من الثروة عادة تعطي للمشاريع الجديدة الكثير من الحرية للتوسع. عندما تتوسع الشركة بسرعة اكبر من امكانية الحكومة للسيطرة او فرض الضرائب عليها، فان التحول الى الديمقراطية قد لا يكون بعيدا. عادة، الاوتوقراطيات لاتعرف بسهولة كيف تحكم الشركات الجديدة. هي عادة تُجبر على توظيف أعضاء من شركات الجالية لإقتراح التعليمات. لذلك، يتم تعين المنتجين لحكم أنفسهم. في ظل هذه الظروف من "الحكم الذاتي"، يزدهر الانتاج والتجارة. لكن بينما من السهل رؤية كيف ان التسامح والحكم الذاتي يترافقان مع تبنّي رؤية اصحاب المتاجر، يبقى الربط بين التجارة والحرية ليس واضحا.
"الحرية" مفردة ذُكرت كثيرا اثناء الفترات الديمقراطية، لكنها نادرا ما جرى تبنّيها في الاوقات الارستقراطية. لماذا؟ لأن الحرية لا معنى لها عندما لا تتوفر خيارات. عندما يقوم الفلاح والفلاحة كل يوم بنفس الاشياء التي قاما بها يوم أمس، وعندما يعملان نفس الاشياء التي يقوم بها جيرانهما، وعندما تتطلب الظروف الاقتصادية انهما يستمران بعمل هذه الاشياء، ماذا تعني "الحرية"؟ لكي تكون حرا ذلك يتطلب فرصا لعمل خيارات اخرى، وعمل شيء مختلف. اساسا، كلما كانت الخيارات لدينا كثيرة، كلما كنا أكثر حرية. الانتاج المادي يخلق خيارات للملايين من الناس.
الجغرافية والناس الذين هم على جانب واحد من الحدود بين الولايات المتحدة وكندا لا يختلفان كثيرا عن الجغرافية والناس في الجانب الآخر. مع ذلك، هناك اختلافات. الناس في الولايات المتحدة هم اكثر غنى بنسبة 10%، بما يجعلهم اكثر حرية في اتخاذ القرارات حول اشياء لأنفسهم. باختصار، الامريكيون يتمتعون بالكثير من الخيارات قياسا بالكنديين. نفس الشيء يصح بشأن المزيد من الاختلافات بين الولايات المتحدة ومكسيكو. لكن الاختلافات في السياسة هي في الحقيقة اكثر وضوحا عندما تنظر للاختلافات بين كوريا الشمالية والجنوبية. اللغة والمناخ هو ذاته. ما يتغير في الدولتين هو حجم الانتاج والتجارة، ما مقدار السهولة التي يتم بها وما حجم الاتساع الذي يحدث فيهما. جنوب كوريا اكثر حرية ماديا وسياسيا مقارنة بنظيرتها الشمالية.
الوقت الشاق للديمقراطية
عندما جرى تطبيق التقدم الذي صنعته الثورة العلمية على المكائن، وُلدت الثورة الصناعية، والانفجار الناجم في الثروة ادى الى عصر ديمقراطي عالمي جديد من الحرية والمساواة.
مالكو المصانع وأصحاب مشاريع النسيج في بريطانيا كانوا اول من طبق العلم في التكنلوجيا على نطاق واسع في اواسط القرن الثامن عشر. كان هذا في الاساس مرحب به من جانب الحكومة التي معظمها من الارستقراط الذين كانوا متلهفين لفرض ضرائب على الثروة المتصاعدة الجديدة. والعديد من الديموقراطيات الكبيرة اليوم هي من تجار المستعمرات البريطانية السابقة التي وضع فيها التاجر حقه في الممارسة الريادية فوق العادات المحلية. القيود الثقافية عليها ان تتساهل مع حاجات مالك المصنع والصيادين التجاريين، واصحاب المتاجر. وفي عام 1840، لاحظ الكس دي توكفيل في كتابه (الديمقراطية في امريكا) ان احدى الطرق التي اختلفت بها الديمقراطيات عن الارستقراطيات في اوربا هي ان "في الديمقراطيات كل شخص يعمل".
مع ذلك، كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية دمويا. انه اخذ من البريطانيين قرنين من الزمن للحفاظ على سيادتهم واطلاق العنان لصناعاتهم، حيث بدءاً من عام 1649 جرى إعدام تشارلس الاول واستمرت تلك الاضطرابات حتى القرن التاسع عشر تحت حكم الملكة فكتوريا. في فرنسا كان التحول مضطربا وطويلا. انه بدأ بتوسيع التجارة. صعود الجاكوبيين الباحثين عن المساواة، و اعدام لويس السادس عشر في عام 1793، دفع البلاد للتراجع الى الوراء مع دكاتورية نابليون ثم اضطربت الاوضاع مرة اخرى مع الجمهورية الثالثة، حتى الوصول اخيرا الى ديمقراطية مستقرة في بداية القرن العشرين.
المحللون السياسيون الحديثون هم دائما محبطون من المسيرة البطيئة التي اتخذتها روسيا والصين لعمل التحول. لكن اذا كان التحول من الاوتوقراطية الى الديمقراطية، يتطلب قرنين من الزمن في بريطانيا وفرنسا لماذا يجب على روسيا والصين ان تكون قادرة على فعل هذا بوقت أسرع؟
في كل ديمقراطية وليدة، تبرز نماذج شائعة. اول الناس في شراء مصنع او تبنّي ثقافة المتجر يمكن ان يصبح ثريا. اذا كان التجار يكسبون سلطة اجتماعية كبيرة قبل استكمال التحول الى الديمقراطية، فان الاوتوقراطيين الموجودين عادة يجدون اسبابا لسجنهم او قتلهم لمصادرة ثروتهم. نفس الحالة برزت في امريكا عندما كان الصناعيون الرواد مثل كارنجي و فورد عرضة للسخرية في الصحف حيث جرى وصفهم كـ "بارونات اللصوص". ولكن لحسن الحظ، تشكلت الديمقراطية سلفا في امريكا، واولئك الصناعيون الكبار تُركوا دون مساس ليخلقوا المزيد من الثروة.
القادة السياسيون الذين لا يفهمون محرك الانتاج والتجارة اللذان يقودان العقلية الديمقراطية يتصورون ان الديمقراطية يمكن فرضها على الناس. التفكير يقوم على انه اذا كانت الامم الفقيرة يمكن جعلها تفهم فقط منافع الديمقراطية، فهم سيطالبون بها لانفسهم. الافتراض هو انه، عبر غزو بلد ووضع مواطنيه في صفوف منتظمة للتصويت ، فان الديمقراطية ستُخلق بشكل رائع. لكن من الخطأ الاعتقاد ان الناس يمكن تعليمهم او تحويلهم الى الديمقراطية مالم تستطع القوة الغازية بناء اساس واسع للانتاج والتجارة في الارض المستعمرة – كما حصل في اليابان وجنوب كوريا بعد الحرب العالمية الثانية – جهود الناس نحو الديمقراطية محكوم عليها بالفشل، طالما ان الحرية السياسية مشتقة من الانتاج الحر.
هل يمكن للامة ان تكون ذكية وشعبها غبي؟
الكتاب السياسيون ينتابهم القلق حول بقاء الديمقراطية. ألا يكون وضع العملية السياسية بايدي العامة امرا كارثيا مالم يتم تعليمهم الى مستوى يمكّنهم من تقدير حريتهم؟ في (اعتبارات حول الحكومة التمثيلية،1861)،اقترح جون ستيوارت مل بانه في الديمقراطية كل بالغ يستحق صوت، ربما الألمع والاكثر انجازا يجب اعطاؤه صوتين او ثلاثة.
لذا، لماذا لم تسقط الديمقراطية في امريكا عندما وُضعت عملية اختيار القادة بيد اناس قليلي التدريب وأرتال من المصوتين الاكثر جهلا؟ كعينة عن مستوى تعليم الجماهير، وفي مقابلة في الشارع كشفت ان الامريكيين غير قادرين على تحديد قارة آسيا على الخارطة، ولم يعرفوا بالضبط أية لغة يتحدث بها الناس في باريس. السبب في بقاء الديمقراطية هو واضح. ما يهم في الديمقراطية ليس مستوى التعليم لدى كل فرد، ما يهم هو مدى سهولة ان يتخصص الافراد ويتاجروا مع بعضهم البعض. السياسة لا تهم كثيرا في حياة الناس، الذي يهم هو الانتاج والتجارة. الرئيس لا يوفر الحاجات للناس، بينما محلات السوبرماركت والمتاجر توفر ذلك. لذا، فان المواطن العادي ربما يُسمح له اختيار الرئيس القادم للولايات المتحدة لكن لا احد عاقل سيثق بذلك المواطن العادي في اختيار المدير المحلي لمحلات كوستكو.
الديمقراطية تنشأ من تطبيق نظرية ديفد ريغاردو "المزايا النسبية" في كتابه (حول مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب،1817): نحن لسنا حكماء، نحن متخصصون. التخصص يسمح لنا لإنتاج الكثير بينما نعرف القليل، لأن تركيزنا هو ضيق. فرديا، كل واحد منا يعرف القليل جدا، لكن من خلال الانتاج والتجارة مع الاخرين، نحن نستطيع امتلاك الكثير. كل ما نحتاج معرفته هو موجود في مكان ما في رؤوس جيراننا، او رؤوس جيرانهم... رجل النهضة الحديث، الذي يعرف الموسيقى الكلاسيكية والحديثة، يقرأ روايات اجنبية بلغتها الأصلية، ويستطيع التحدث حول العلوم والسياسة والفلسفة والثيولوجي، لديه القليل للحديث عنه. القليل من الناس الذين يقابلهم ربما يستطيعون فهم ما يتحدث عنه حول اي موضوع وربما ليس لديهم الرغبة في ذلك. لكن مجتمع المتخصصين المنتجين لا يحتاج لمثل هذا الشخص الواسع التعليم. (مذكرات رجل لا ضرورة له ،1943).
الديمقراطية والهندسة الاجتماعية
التجارة تعيد تشكيل أفكار الناس حول الهدف من الحكومة. في الأزمان المبكرة، تصوّر الفلاسفة السياسيون ان الهدف من الحكومة هو تحسين الناس أخلاقيا: المفكرون الاوائل مثل ارسطو وتوما الاكويني اعتبروا ان وجود الحكومة هو لجعل كل واحد من الناس أحسن حالا – ان لا يكذب كثيرا، يكون أقل تبجحا، (وبالنسبة للاكويني) ان يحب الله كثيرا. عبر جعل الناس أفضل، سنخلق امة أفضل.
في الديمقراطية الحديثة، لايزال الجدل الاخلاقي مستمراً، حول اشياء مثل زواج المثليين، مشكلة المخدرات، تغير المناخ وقضايا الاجهاض. كمخلوقات اجتماعية، الناس لازالوا متلهفين لإقناع الآخرين حول رؤاهم عن الصحيح والخطأ. لكن خلافا لما في الاوتوقراطية - حيث الرجل في القمة يضع البرامج الاخلاقية لكل الناس الاخرين – في الديمقراطية، تستلزم مثل هذه القرارات من جميع السكان البالغين الدخول في خلافات لا متناهية. لكن هذا ليس ضعفا في الديمقراطية، بل قوة. خلافا لما نسمع من النقاد، لا تشير النقاشات اللامتناهية الى ان الديمقراطية في خطر، انها تشير الى ان الديمقراطية مزدهرة. الديمقراطية تعني عدم الاتفاق. لكن اذا كان هناك فقط "طريقة صحيحة" واضحة واحدة، فاننا سنحتاج فقط الى قائد واحد متنور. كذلك، اسلوب الحياة العابر للعديد من الناس في هذه الايام يجعل من الصعب ان نعرف ما اذا كان جيراننا مثليين او ان كانوا يدخنون الماريجونا، ام انهم يؤيدون تقلبات المناخ، او ان كانوا أجروا عملية اجهاض.
آخر كلام في الديمقراطية وربما الأقل اهمية، يأتي من صناديق الاقتراع. في السوق السياسي، الناس يشترون القادة مثلما يشترون الصابون – لكنهم يستخدمون الاصوات بدلا من النقود. ولا يهم اي سياسي سيختارون، الاشياء ستكون ذاتها بعد دورة الانتخابات كما في سابقتها. لكن في النهاية، ما يهم معظم الناس هو ليس التشريعات وانما ما يحدث في السوق. الامتيازات تأتي دائما بعد ان يتمكن المرء من القدرة على الانتاج والتجارة. تاريخيا، كان التصويت دائما مقتصرا على مالكي الملكية من الرجال، ولم يتمدد لكل الرجال الاّ لاحقا. وعندما أخذت المرأة مكانها الى جانب الرجل في خطوط التجميع، فهي بالنهاية نالت مكانها الى جانب الرجل في صناديق الاقتراع ايضا. ومع اتساع الثروة، يتحدث البعض حاليا عن إعطاء صوت للاطفال – ولما لا؟ طالما تستمر المصانع والمتاجر في العمل بحرية، فسوف لا يهم ذلك كثيرا.
بالنهاية، الديمقراطيات هي بالأساس حياة تجارية، انتاجية، ومادية، وهيمنة ثقافة الديمقراطية في قبول الناس لطريقة عيش وسلوك الآخرين. الحكومة، في ممارساتها اليومية تصبح مؤسسة هدفها الرئيسي ليس جعل الناس جيدين وانما لجعلهم مزدهرين. لذا، بينما تهيمن شعارات الليبراليين او المحافظين على الحملات السياسية، لكن التشريعات "لتحسين حياة الناس" في الحقيقة تركز على دعم الشركات والضرائب وإعادة توزيع الثروة.
كيف تموت الديمقراطية؟
في العودة مرة اخرى للتاريخ، نكتشف ان الديمقراطية لن تموت، بل هي تُقتل. انها تُخنق عندما يغير المجتمع تركيزه من الانتاج والتجارة في ظل سلام وازدهار الى حروب لا متناهية وإعادة توجيه الصناعة لغايات مدمرة اجتماعيا – غايات تعرقل الانتاج المتغير وتترك أقل الخيارات المتاحة للمواطنين. مجهزو النقود هم عصب الحرب. في معظم التاريخ، هُددت الديمقراطية بإعادة توجيه الثروة لتلبية الاهداف العسكرية (رغم ان امريكا أثبتت ان أغنى ديمقراطيات العالم قادرة على تمويل حروب لا متناهية بينما سكانها في نفس الوقت يزدادون بدانة ويعيشون أطول عمرا مما في السابق).
النزعات القومية والمشاعر المضادة للأجانب يمكنها ايضا ان تخنق الحاجة للمهاجرين مما يخلق نقصا في العمالة الامر الذي يؤدي الى رفع كلفة الصناعة. واذا اصبح المحتجون في الشوارع والذي هو امر عادي وطبيعي في المجتمعات الحرة اكثر عنفا، فان المواطن القلق عادة يستجيب بمنح الحكومة سلطة بوليسية مفرطة قد تتوسع بالنهاية الى قبضة قوية في السيطرة على الاقتصاد. تاريخيا، رغم ان الناس يتنازلون عن الحرية مقابل الأمان، كما شهدنا مؤخرا، في إغلاق كل الاقتصاديات لأعمالها استجابة لإنفجار الوباء، كي يظهر القادة كمنقذين لناخبي الغد. حاليا، يرتبط السياسيون الاشتراكيون الميالون لليسار بالقوميين الميالين لليمين، وان شركات الأعمال تواجه ضغطا لتغيير تركيزها من الانتاج الفعال الى الاهتمامات الاجتماعية التي ترضي غايات ليبرالية. في امريكا، يُتوقع ان تفضل اسواق السندات الشركات التي تمتثل لمعايير "متنوعة". هيئات ادارة الشركات الكبرى تواجه ضغطا لتوسيع متطلبات التوظيف لتلبية رغبات تتعدى المنافسة الريادية، وانما لتنظر في عوامل مثل جنس او عرق العاملين. شركات الأعمال برزت من عدة ديمقراطيات مختلفة، جاعلة الملايين أغنى وأكثر حرية عبر تجاوز الأصفاد التي وُضعت عليهم من جانب سلطاتهم السياسية والدينية والثقافية.
***
حاتم حميد محسن