قضايا
قاسم حسين صالح: الجــنــس والعدوان من منظور فرويد
يعدّ فرويد أجرأ من تحدث في موضوعين، هما (الجنس و الدين) في زمن كان التحدث عنهما يعد (تابو). وكان هو اول من اثبت ان الجنس هو السبب وراء كل ما يصاب به الإنسان من اضطرابات نفسية! وذلك راجعٌ حسب نظره إلى أنّ النفس في مرحلة الطفولة.. تكون مادة خاما سهلة وسلسة، وان ما يحصل من خبرات واحداث سلبية فأن تاثيرها يمتد الى مرحلة الرشد، لدرجة ان الفرد لن يكون صالحا لنفسه ولا لمجتمعه لأنه سيكون مريضا نفسيا!. واختلفت الآراء والمواقف فيما بعد بخصوص مفهوم فرويد عن الجنس.
وللوقوف على حقيقة موقف فرويد من الجنس، فأننا اجرينا حوارا مطولا معه، وفي ادناه تحليله النفسي للجنس.
+ يمكن أن نوجز نظريتك في التحليل النفسي بأنها تحاول تفسير الشخصية والدافعية والاضطرابات النفسية بالتركيز على تاثير خبرات الطفولة المبكرة في الطريقة التي يتعامل بها الانسان مع ما بداخله من الحاحات جنسية وعدوانية حين يصبح راشدا.. صح؟
فرويد: صح.
+ لكنك في هذا تلغي تماما امكانية تأثير الخبرات اللاحقة في الأحداث السابقة، فحكمت على الانسان أن يبقى أسير طفولته حتى لو بلغ التسعين.
فرويد
- ذلك ما اثبتته كشوفاتي التي أجريتها على الراشدين.
+ وهؤلاء الراشدين ياسيدي هم من المرضى وليسوا من الأسوياء، ومن يدري أن يكون بينهم – ومعظمهم من نساء الطبقة البورجوازية – يقول لك ما تحب ان تسمعه متأثرا بارائك أو لكسب ودّك.
فرويد
وهل أنا من السذاجة بحيث ينطلي عليّ مثل هذا؟!
+ عفوا سيدي. لكن التحليل النفسي عندك يعني: تقنية أو تكنيك علاجي لتحليل الأفكار الموجودة في اللاشعور، صح؟
فرويد: صح.
الجنس.. محور نظرية فرويد
بمتحفه في فيينا، النمسا
+ وهنالك من يرى أن التحليل النفسي يفتقر الى الدليل العلمي الذي يؤيد صحته، بمعنى أن الوسيلة غير علمية وبالتالي فأن النتيجة التي تصل اليها غير علمية.
فرويد: هل هذا رأيك؟
+ أنا محاور وعليّ أن اكون محايدا أولا، وأن أمثّل رأي المغيبين ثانيا الذين يرون أن التحليل النفسي قد مات، ورأيّ في جنابك أن سعة صدرك تتحمل حتى اسئلة من هم ضدك.
فرويد
أنا أعتقد، بل تأكد لي عن طريق علاج مئات المرضى، أن جذور كل المشكلات النفسية هي صراعات لاشعورية بين)الهو idوالأنا ego والأنا الأعلى superego).
وللتوضيح، فان الصراعات بين هذه القوى الثلاث المتنافسة أمر عادي، ولكنها تتحول من الأمر العادي الى مشكلات اذا أصبحت خارج السيطرة. فاذا وجّه الأنا والأنا الأعلى الكثير من طاقتهما لكبح الرغبات الانانية (للهو) وانشغلا بوضعها تحت السيطرة، واذا كانت هذه الكوابح ضعيفة وقام(الهو) بالتهديد بتجاوزها.. نجم عنها الاضطراب النفسي. وللتخلص من هذا الاضطراب فان الحل يكون بأن نأتي بالصراعات اللاشعورية ونضعها على مستوى الشعور، وتلك هي مهمة التحليل النفسي، وعلى من يشك بصحته أن يجرّبه شرط أن يكون قد تدّرب عليه.
+ دكتور فرويد، المشكلة لديك أن الفكرة المركزية في نظريتك تقوم على أهمية العمليات اللاشعورية. فأنت تقول بأن معظم ما نفعله لا نكون على دراية به، وأن سلوكنا محكوم بما يحتويه لاشعورنا فتلغي بذلك دور الوعي. ثم أن كل نظريتك تقوم على مبدأ الحتمية النفسية في قولك الصريح بأن كل الأفكار والانفعالات والافعال ناجمة عن أسباب نفسية. ماذا لو خففتها يادكتور كأن تقول ان للاشعور دورا في تحديد ما نفعله وأن للحتمية النفسية دورا مشاركا في حتميات أخرى تعمل معا في تشكيل شخصياتنا وسلوكنا.
فرويد
أنت تطرح اكثر من سؤال ومع ذلك أجيبك.
ان اكتشافي للاشعور أعدّه من أعظم كشوفاتي، وأن ما أصاب البشرية من كوارث وما يصيب الانسان من كدر هو أنها ظلت آلاف السنين تنظر الى العقل كما لو كان يساوي الوعي فقط، فكان جهلنا باللاشعور سبب مآسينا. ثم أن الدور المركزي للاشعور ما كان قولا من على مكتبي بل أثبتّه عمليا، ومن يريد أن يتأكد عليه بتحليل نفسه ان كان يمتلك المهارة. وأظن أن اكتشافي للاشعور فتح بابا جديدا للتأمل في الحياة العقلية. وبالمناسبة، ان كنت تريد ادلة عملية عليك بمراجعة الفن السوريالي في الرسم والأدب والسينما. أما عن الحتمية النفسية فأنا مازلت مؤمنا بها وأرى في الحتميات الأخرى ما هي الا توابع لها.
+ مع أن شكسبير كان قد سبقك في اكتشاف اللاشعور وضمّن تأثير العقل اللاواعي في العديد من مسرحياته، غير أننا نعترف بأنك أنت الذي اعطيت العمليات اللاشعورية الأهمية الجوهرية في الحياة اليومية لدى الانسان العادي من قبيل النسيان وزلات اللسان والنكتة التي وصفتها بأنها وسائل تستخدم لخفض التوتر النفسي واشباع دوافع خفية " النكته مثلا تنفيس عن عدوان"، لكنك حددت محتوى اللاشعور بدافعين فقط اختزلت بهما سلوك الانسان هما الجنس والعدوان، وتفترض أن كل الحيوانات بضمنها الانسان تولد ولديها غريزة العدوان، وان هذه الغريزة –على ماترى – تخلق دافعا للقيام بالعدوان لأشباعها، بمعنى: انها تخلق ضغوطا تجبر الانسان على أن يقوم بالعدوان بطريقة ما فالغيت بذلك دور العلم والثقافة والتمدن وصورت لنا الانسان بأنه لا يختلف عن الحيوان من حيث تحكّم القوى البيولوجية في سلوكه ان لم يكن أشد ضراوة منها، وأنه – وفقا لطروحاتك - ليس سيد عقله.
فرويد
العدوان سلوك بيولوجي لدى كلّ من الحيوان والانسان. هذه حقيقة واقعة يمكنك التأكد منها بمراقبتك سلوك الديكة في المسابقات! وملاحظتك سلوك الأطفال. فالغضب يظهر على سلوك الطفل قبل ان يكون عمره سنة، ولاحظ العدوان الجسدي لدى الأطفال كيف يضرب بعضهم بعضا وهم بعمر سنتين. وتشير الملاحظة التتبعية أن الطفل العدواني بعمر ست او سبع سنوات يكون عدوانيا حين يصبح راشدا. ولو لم يكن العدوان غريزة بيولوجية لما تقاتل الناس ولما نشبت الحروب بين الدول. وسيأتي يوم يثبت لكم فيه التقدم العلمي أن نظريتي صحيحة، بل يثبت لكم ايضا أن زيادة او نقصان هرمون معين يفضي الى العدوان. اما عن دور الثقافة والتعلم والتحضر فان أفضل ما تستطيع عمله هو ترويض العدوان وليس السيطرة عليه وتفريع شحناته عن طريق نشاطات مشروعة كالرياضة مثلا.
+ هذا يعني ان نظرية ماركس في الصراع الطبقي والصراع على المصالح ودافع السيطرة ليست اسبابا لنشوب الحروب بين الدول على رأيك؟
فرويد
ها انت ذكرت دافع السيطرة الذي اساسه غريزة العدوان، اما الأسباب الأخرى فتمّثل رأي أصحابها.
+ الوظيفة الجنسية عند الاطفال، هل هي متغير فرضي لديك، ام انك اهتديت اليها علميا"؟
فرويد
الوظيفة الجنسية موجودة منذ بدء حياة الفرد. وان كشوفي المستغربة في الجنسية لدى الاطفال وصلت اليها في بادىء الامر عن طريق تحليل الراشدين، ولكن امكن فيما بعد (منذ حوالي سنة 1908 وما بعدها) التحقق منها على اتم واوفى وجه بالملاحظات المباشرة للاطفال. وانه لمن اليسير حقا" ان يقتنع المرء بوجود نشاط جنسي مطرد لدى الاطفال حتى لا يسعه ان يتساءل في دهشة: كيف استطاع الجنس البشري ان ينجح في اغفال الحقائق واعتناق الاسطورة المستحبة، اسطورة لا جنسية الطفولة ذلك الزمن؟.
+ نظريتك في الشخصية، ومازلنا في موضوع الجنس ايضا، هي نظرية نمائية او تكوينية. Developmental فأنت ترى ان شخصياتنا تتشكل عبر مرورنا بمراحل نمو تكويني اسميتها النمو النفسي الجنسي: من مرحلة الرضاعة وصولا الى مرحلة الرشد، في كل واحدة منها تكون الدافعية الجنسية للطفل هي اشباع دافع اللذة من مناطق جسمية متنوعة تتمثل في:الفم بمرحلة الرضاعة، والشرج بالمرحلة الشرجية، والاعضاء التناسلية بالمرحلة القضيبية. وسؤالي: لماذا حددت هذه المراحل بثلاث اساسيات برغم انك لم تدرس الاطفال، وانك الغيت تأثير الاحداث اللاحقة في الخبرات السابقة؟.
فرويد
هذه استنتاجاتي من معاينتي لمرضاي وتحليلي لمشاكلهم واضطراباتهم النفسية.
+ سيدي، أنت تذهب خطوة أبعد بقولك ان خصائص أو سمات شخصية الانسان الراشد تشتق من هذه المراحل الثلاث للنمو النفسي الجنسي وكأن التعلم والخبرة والثقافة لا تستطيع حتى تعديل ما حصل في الطفولة.
فرويد
الجواب نعم في حالة الشخصية غير السوية، لأن تقصّي أسباب اضطراباتها النفسية يكمن في واحدة من تلك المراحل.
+ وماذا بخصوص مفهوم التثبيت fixation الذي تقصد به بقاء جوانب من شخصية الراشد متجمدة على مرحلة من هذه المراحل مرّ بها "الهو" بخبرة معينة؟
فرويد: صحيحة تماما.
+ على رأيك فأن الطفل المنشغل في مرحلة الرضاعة بمص ثدي أمّه بكثرة وحصل له تثبيت، فأنه يظهر عليه في الرشد بسلوك آخر كأن يكون التدخين مثلا عند الرجال وأكل (الموطة أم العودة) عند البنات، ليعوض مص السيجارة ومص الآيس كريم أبو العودة عن مص الثدي، صح؟
فرويد: صح
+ وبما انك مدمن على تدخين " البايب" ّالذي لا تستطيع ان تتخلى عنه برغم ان التدخين سبب لك سرطان الفك، فهذا يعني انك كنت تمص ثدي امك كثيرا ولديك تثبيت، ولا يمكنك استثناء نفسك من " حقيقة " أنت عممتها على كل الناس، وسؤالي: لماذا اخترت " البايب " بالذات؟!
فرويد": يضحك ". سؤالك لا يخلو من خباثة ولكن لا تظن بي سوءا!.
***
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية