قضايا

محمد فرَّاح: إِمَّا أَنْ تَكُونَ فَاعِلاً Actif أَوْ تَكُونَ مُنْفَعِلاً Passif

ما معنى أن تكون فاعلاً؟ يعني ذلك أن تتخلص من مختلف الإكراهات كيفما كانت طبيعتها، سواء اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو دينية أو ثقافية أو قانونية أو نفسية ووجدانية ...إلخ، يتعارض الفاعل تعارضاً عنيداً مع كل حتمية، وكل فاعل هو تعبير عن الإرادة والمسؤولية.

يتخلص الفاعل من العمل الذي تفرضه الحاجة والضرورة الخارجية أو دعوى المحافظة على الحياة، عكس المنفعل تماماً الذي يجد نفسه مرغماً على القيام بفعل معين، فيظل المنفعل دوماً محصوراً في مملكة الضرورة وكأنه وسيلة لغاية ما، إذ لا يمكن الحديث عن المنفعل بدون استحضار الضرورة والحتمية والقانون، وتتجلى قيود المنفعل على مستوى السلوك والأفعال، وتمتد أيضاً على مستوى الأفكار والعواطف، يفتقد المنفعل إذن لكل إرادة الإنسانية.

تظل إرادة المنفعل إرادة محفوظة بالأمور التي توجد في الخارج ومربوطة بها، أي مدفوعاً بعلل خارجية تتحكم في وجوده وفي فعله، عكس الفاعل الذي يتفاخر بامتلاك الحرية لأنه يعي شهواته، بل يعي أيضاً الأسباب التي تتحكم في شهواته ويسلك في فعله وفق القرارات والمواقف والمبادرات الحرة والفاعلة التي تمليها عليه نفسه.

لكن الكائن المنفعل يظل يتوهم أنه يسلك وفق مبدأ الحرية، في حين يفتقد حتى القدرة على تأسيس حالة ما تأسيساً ذاتياً، إنه يعتمد على الغير كثيراً في كل الحالات، ويخضع لقوانين الطبيعة، ولشرط التجربة فيظل عقله حبيس أهوائه وشهواته، عكس الكائن الفاعل الذي يملك الاستقلالية في الحكم أمام الإكراه الذي تفرضه الميولات.

كل ما يوجد للكائن الفاعل بالطبع ويختص به من الأفعال فهو نابع من إرادة الاختيار التي هي إرادة ناتجة عن الرَّوِيَّةِ التي تحررت من البهامة، فيكون الفاعل هو من يفعل لأجل إصابة الحق وإحقاق الحق وسداد العمل.

لهذا يمكن اعتبار أن الفاعلية تؤدي بالفاعل إلى الاستقلال مباشرة. وتدفعه نحو الحركة بشكل مفاجئ. عكس المنفعل الذي تقوده الشروط التي تشرطه نحو العبودية.

الإنسان الفاعل هو أولاً وقبل كل شيء إنسان يحيا ذاته، ويعمل جاهداً على تحقيق ما ينوي فعله، من خلال قراره الواعي والمسؤول، كما يمتلك في يديه كينونته، ويختار ذاته بذاته ولذاته لأن مسؤوليته أكبر بكثير مما يفترضه، إنه مسؤول عن ذاته وعن الآخرين.

يستطيع كل فاعل القيام بعمل ما يرغب فيه هو ذاته، فيسمح لنفسه بالقيام بأي فعل يريد في إطار الممكن دائماً، فكل فعل يقوم به الفاعل هو عملية تحرير وتحقيق مستمرة للذات، وليس بحالة ثابتة أو ساكنة يستطيع التحكم فيها.

يبدو لنا إذن، أن الكائن المنفعل هو كائن لا يستطيع تنظيم أفعاله وتصرفاته ما يجعله مفتقداً لضرورات الحياة ويحاول أن يحرص فقط على البقاء.

تحمل إشكالية علاقة الفاعل بالمنفعل في طياتها العديد من المعاني المختلفة، فقد تكون علاقة جدلية تارة معزولة وتارة متداخلة، كما تحيل في بعض الأحيان إلى علاقة عنف متطرفة نظراً لانعدام توافق العادات والتقاليد والأهواء بين كلا الطرفين.

حقاً يستطيع الفاعل أن يصنع ما يريد، غير أن المنفعل لا يستطيع فعل ما يريد بشكل مطلق، عكس الفاعل الذي يمتلك حق القدرة على فعل ما يجب وعلى عدم الإكراه على فعل ما لا يريد. لهذا تجد أن الحرية والاستقلال منقوشة في ذهن الفاعل، لكن على المنفعل أن يلتزم بفعل كل ما تبيحه القوانين، وبالتالي تكون حريته مَحْدُودَةً، ينتابنا الكثير من الشك فيما إذا كان إنقاد الإنسان المنفعل ممكنا اليوم، لأنه فقد أهم شيء هي الحرية !

تحول الكائن المنفعل إلى كائن فارغ من المعنى، لأنه يفتقد إلى الحرية كما قلنا سابقاً، بل ويتنافى مع النظام العام، كما يتصرف بدون دافع ووفقاً للعادة التي ألفها خلال تفاعله مع محيطه الإجتماعي، ويتوهم أنه يريد أو يسلك وفق مبدأ حر، ويتعقل الضرورة التي لا يدركها جيداً، وينفعل مع قوانين الطبيعة.

عكس الكائن الفاعل الذي يبحث عن كل الإمكانيات المتاحة له قصد التحكم في قوانين الطبيعة وتسخيرها من أجل خدمة غايات محددة بدقة، إن حرية الإرادة بالنسبة إليه هي ملكة اتخاذ القرار والمبادرة على الفعل والسلوك.

كما نشير هنا إلى أننا نقصد بالإمكانيات المتاحة توليفة من الدافعية أو الحافزية التي تؤدي إلى إنجاح المشروع الذاتي والحر والمبدع والمستقل الشخصي دون التعرض لأي عرقلة من طرف مشروع آخر، ما يفيد أننا من خلال التعرف على قوانين الأشياء نستطيع بالكاد التحرر منها.

الفاعل هو وككل كائن عاقل له القدرة على الاختيار المحض ما يفيد القدرة على الفعل والسلوك واتخاذ القرارات والمواقف والمبادرات الحرة بغض النظر عن ضغط الضرورة.

إرادة الفاعل تمكنه من السعي وراء الحرية، واتخاذ قرار بلوغ غايات عليا معينة، وينبثق سيد نفسه بنفسه ولنفسه، ما يعني أنه يوجد ذاته بذاته ولذاته وألا يكون معاقاً في اختياراته من طرف الآخرين.

أما عن الكائن المنفعل يظل خاضعاً لتأثير الآخرين، دون وعي منه، مما يخلق لديه ميولاً وأذواقاً وعادات استهلاكية سلبية أو تشريطاً أيديولوجيا لجماعة معينة من الفاعلين الذين يخضع إليهم، فيظل يتوهم أنه سيد في اختياراته، في حين أنه مجرد عبد لتجارب الأنداد الذين يظلون يفكرون بدلاً عنه ومن ثم يتحكمون فيه.

 يبقى الكائن الفاعل كائنا متميزاً بحقه في الحرية الفعلية أو الممارسات العملية التي يقوم بها، عكس الكائن المنفعل الذي كان في المجتمعات القديمة (المصرية الفرعونية خاصة) يفتقد الحق في الحرية، واتخاذ القرارات فعلاً وممارسةً، فيفعل وفق ما يريده منه السيد الفاعل، أو يقوم بما يجب أن يقوم به من أفعال وتصرفات وسلوكات وممارسات مملاة عليه، ذلك أن الفاعل يتوفر على الكثير من الإمكانات والوسائل كما سبق وأن قلنا، لهذا يقوم أو يتصرف وفق محض إرادته ويتحكم في المنفعل كما يريد.

تكون حرية الكائن الفاعل -إنطلاقا مما سبق- حرية كاملة، بينما تكون حرية الكائن المنفعل حرية نسبية، ذلك أن أفعال هذا الأخير تأتي بالضرورة من الخارج. في حين تأتي أفعال الكائن الفاعل وتنبع من الداخل.

يحاول الكائن المنفعل في الحقيقة أن يندمج مع العالم الخارجي والآخرين والمجتمع اندماجاً وثيقاً يتيح له إمكانية العيش المشترك بأمان، وتكون اختياراته لما يفعله بحياته تتم دائماً وفق معطى الكائن الفاعل، ويمكن لهذا الأخير أن يغير اتجاه حياة الكائن المنفعل وإرادته، وهكذا فكل تفسير لتصرفات هذا الأخير يعتمد على عامل الكائن الفاعل الذي يتحكم في وجوده الاجتماعي، كما يتلقى الكائن المنفعل معنى وجوده في العالم من طرف الكائن الفاعل الذي يستطيع التحكم حتى في بُنَاهُ السيكولوجية المُضطربة وأبعاده الاجتماعية.

إذا ضربنا صفحاً عن ذكر هذه العلاقة الجدلية المعقدة بين كل من الفاعل والمنفعل، فإننا سنلاحظ أن هذا الفاعل يستطيع نفي حياة المنفعل بكل بساطة، وبدون أي معنى أو غاية أو هدف، وقد ظل هذا السؤال "ما الغاية من وجود هذه المفارقة بين الفاعل والمنفعل" بلا جواب، ودون جدوى، لم يعرف الكائن المنفعل كيف يبرر هذه العلاقة، أو يفسرها أو حتى يؤكدها.

يخبرنا نيتشه أن حالة الإنسان المعاصر هي حالة فقدان المعنى وإنكار كل شيء وانتقاد قدرة العقل على بلوغ اليقين والحقيقة، فالحقيقة أوهام نسينا أنها كذلك، كما أعلن موت الإله من خلال موت القيم والأفعال الأخلاقية وردها إلى مصادر خارج الأخلاق، ونضيف نحن أن هذه الحالة التي وصفها نيتشه إنما هي حالة الكائن المنفعل الذي يرغب في الفناء، عكس الكائن الفاعل الذي نشبهه بحالة "الإنسان الأعلى" الذي لا يخشى الموت ولا ينفر من الحياة، إنه يعيش الحياة بكل تفصيلاتها، ما يعني أنه يفضل إرادة الحياة على كل شيء، ضديد الكائن المنفعل الذي يفضل إرادة العدم على عدم إرادة أي شيء.

الكائن الفاعل هو قوة مبادرة واختيار، يفعل ما يريد وما لا يريد، فيعيش حالة استقلال ذاتي، بمعنى أنه لا يوضع داخل صندوق، أو قالب فارغ، إنه يخرج من أسطورة النمط الواحد نحو وجهاته وتطلعاته الخاصة، في حين أن الإرادة المنفعلة إرادة "متناهية ونسبية".

لابد أن نحدد أولاً، أن معنى أن تكون فاعلاً، أي أن تحصل نسبياً على ما تريد، كما تصمم بشكل فعلي على اختياراتك وتوجهاتك، بواسطة ذاتك الفاعلة، بما يتيح لك القدرة على تحصيل الغايات الذاتية المختارة، ويمكن اختزال كل هذا في الاستقلال الذاتي والحر للاختيار-الفعل، هكذا تتحقق الإرادة الفاعلة.

كما يشعر الكائن الفاعل بالحاجة إلى القوة والفعل ويفرغ ذلك في الكائنات المازوشية التي تتقبل التعنيف، ويتقمص الفاعل في طياته دور الكائن الأعلى السادي الذي يمارس التعنيف.

توجد في كل كائن فاعل طاقة نفسية ووجدانية وذهنية ووجودية داخلية هدامة كامنة فيه، من أجل إقامة علاقة شبقية Érotique متمثلة في لذات جسمية ذي طبيعة جنسية عنيفة مع الكائن المنفعل الذي يشعر في حقيقته بالذنب وفي حاجة ماسة إلى العقاب النابع عن القلق الذي تشعر به الذات أمام السلطة الخارجية، ما يعني وجود أزمة أو صراع حادم بين هذين الطرفين، فهناك العديد من الرغبات والنزوات والميولات والممارسات والدوافع والأهواء التي يؤدي حرمان تحقيقها إلى توليد ميل نحو العدوانية كما شخصها وعبر عنها الطبيب والمحلل النفساني سيغموند فرويد في كتابه الشهير:

"Malaise dans la civilisation"

"إن هذا النزوع إلى العدوان، -يقول فرويد- الذي يمكننا أن نزيح النقاب عنه في أنفسنا والذي نفترض بحق وجوده لدى الآخرين، يشكل العامل الرئيسي للخلل في علاقتنا بقريبنا، وهو الذي يفرض على الحضارة أعباءً كبيرة." هناك إذن عدوانية خفية تؤلب الإنسان الفاعل على الإنسان المنفعل.

تذهب أطروحتنا في هذا المقال مصب أطروحة ماركس في مقاله النقدي الشهير:

"Le manifeste communiste (1848)".

حيث نجد الكائن الفاعل الحر من جهة والعبد المنفعل من جهة أخرى، السيد الإقطاعي الفاعل والقِنُّ، سيد نفسه بنفسه ولنفسه والتابع المنفعل المطيع، أو بعبارة أخرى المُضْطَهِدُ الفاعِلُ والمُضْطَهَدُ المُنْفَعَلُ، الذين كانوا دائماً في حالة تعارض وتناقض وتضاد وعراك وسجال وحرب ومواجهة وتقابل دائماً، هناك حروب مضمرة فيما بينهم البين كما قلنا سابقاً، لا تهدئ حتى تخرج للعلن، فالفاعل هو الساديُّ الذي يعتبر نفسه شريفاً والقنُّ هو المنفعل الذي يشعر بالذنب والانبطاح والخضوع، هناك إذن علاقة جدلية بين الفاعل والمنفعل، شبيهة لعلاقة السيد والعبد الهيجيلية التي تصف طبيعة الهيمنة والسيطرة والسيادة التي تطبع العلاقات الإنسانية، فالإنسان إما أن يكون كائنا فاعلاً سيداً أو كائناً منفعلاً عبداً لا حول له ولا قوة طموحه الوحيد هو الاعتراف به كشخص.

من المستحيل تنازل الفاعل للمنفعل أو حتى تنازل المنفعل للفاعل، أو التفكير في التخلي عن الصراع المحتدم بينهما عبر التاريخ، والواقع يشهد على ذلك ويعترف به، لهذا يهاب المنفعل الفاعل دون أن يكون مفطوراً على ذلك، لهذا يحاول أن يتنازل عن قسط من حريته لصالح الكائن الفاعل، دون المخاطرة بكاملها كي لا يتحول إلى عبد فعلاً، لأنه يطمح في نهاية المطاف إلى نيل الاعتراف، لهذا يتخلى عن جزء كبير من رغباته ونزواته وأهوائه وانفعالاته وطموحاته من أجل نيل رضى الفاعل، ما يعني أنه يعترف له كسيد عليه، في مقابل أن يكون هو عبد، وينطبق الأمر كذلك على العلاقات الجنسية أو الحميمية أو علاقات الزواج، فإما أن تكون فاعلاً سيداً في هذا النوع من العلاقات وإما أن تكون منفعلاً عبداً، لأن الواقع الإجتماعي والشرط البشري يفترض ذلك ويشرطه لا مفر لنا من ذلك الثنائية الضرورية، فيربح الفاعل الاستقلال الذاتي والحر للاختيار-الفعل بينما يخضع الكائن المنفعل الذي يصبح أسير وسجين هذا النظام الإجتماعي الغائم.

يطرح التفكير في إشكالية علاقة الفاعل بالمنفعل رهانات فكرية وأخلاقية وسياسية وإديولوجية وابستيمولوجية وتكنولوجية-تقنية واجتماعية وثقافية واقتصادية وقيمية عديدة، فرغم وضوح هذه العلاقات، وسهولة تحديدها، إلا أنها مع ذلك تشكل قيمة عليا، تحتاج إلى إعادة الطرح والتفكير من وجهات نظر عميقة ومختلفة، بل يمكن القول، أن المقاربة الفلسفية لها غير كافية لتحصيل القيم التي تحملها هذه العلاقة، فلا معنى لكل هذا، دون الاستناد إلى نظريات ودراسات سوسيولوجية وسيكولوجية (رغم اعتمادنا على فرويد في مقاربتها تحتاج في الحقيقة إلى دراسات أنثروبولوجية محكمة)، ذلك أننا نعترف بقسوتنا على الكائن المنفعل، إلا أن هذا لا يعني أن له دوراً سلبياً، بل يملك الحق في التفكير والتأمل والوعي النقدي وإبداء الرأي والتعبير عنه، وهي ممارسات لا تتأتى للإنسان المنفعل إلا داخل هذه العلاقة باعتبارها ممارسة فعلية وفاعلية، كما يملك الحق في الممارسة السياسية والانخراط في بناء الشأن العام بإعتباره مواطنا ممارساً يخضع لقوانين دولته ومجتمعه، فيصبح مواطنا صالحاً يطمح إلى تحقيق الكرامة والمساواة والإنصاف.

***

بقلم: محمد فرَّاح - أستاذ فلسفة

في المثقف اليوم