قضايا
بتول أحمد سليم: العربية واللسانيات الحاسوبية
علاقة اللغة العربية بالحاسوب من أحدث التخصصات المشتركة بين العلوم الإنسانية والعلوم الصرفة. ونشير هنا إلى حقيقتين تتعلقان بطرفي هذه المعادلة، أولهما:ـ المكانة التي تحتلها اللغة العربية في نفوسنا فهي ذاتنا، وعماد اصالتنا، وهويتنا التي نقدمها للعالم. والثانية:ـ المكانة التي يحتلها الحاسوب في هذا العصر، فالعالم يعيش في عصر المعلوماتية بمعناها الواسع. وتعدّ معالجة اللغة البشرية آليا احد المجالات التطبيقية للسانيات الحاسوبية.
اللسانيات: تعني الدراسة العلمية للغات. وتقوم على معرفة أصوات اللغة، وصفاتها، ومخارجها، والإحاطة بممفرداتها، ومعرفة دلالاتها، والقواعد المتعلقة بتركيب المفردات فيما بينها؛ لإنشاء جمل صحيحة، ودراسة الخطاب اللغوي من حيث الدلالة المباشرة، والدلالات السياقية الممكنة.
اما اللسانيات الحاسوبية: علم من العلوم البينية المستقلة المهمة، جوهره قائم على على ثنائية اللسان وعلوم الإنسان العربية والتعليمية، والحاسوب. يتطوّرهذا العلم بتطوّر الوسائل التكنولوجية الحديثة، وتعمل اللسانيات على تطوير استعمال اللغة العربية في مختلف مجالات الحياة العصرية، وترقيتها وبناء نظرية معرفية تساعد في معالجة القضايا اللغوية من خلال قولبة اللغة إلى رموز رياضية يفهمها الحاسوب؛ حتى يتأتى له القيام بأنشطة لغوية كثيرة يؤديها العقل البشري تسمى (مقاربات لغوية حاسوبية).
أول من نظّر لهذا العلم (الدكتور عبد الرحمن الحاج صالح) إذ ربط التراث العربي باللسانيات الحديثة؛ فأبدع في إعادة قراءة التراث اللساني العربي ممّا تركه لنا اسلافنا.
تعدّ اللسانيات الحاسوبية مرحلة توصيف اللغة للحاسوب، أي وضع القواعد والقوانين اللغوية والحاسوبية لنمذجة اللغة ومن ثم توظيف هذه النمذجة للتحقق من صحة تلك الظواهر اللغوية، ثم تأتي المعالجة الآلية للغة التي تستمد إطارها النظري من اللسانيات الحاسوبية، وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ ليتم تصميم أنظمة آلية لمعالجة المعطيات تحليلا وتركيبا. أما من الناحية الحاسوبية: يعدّ هذا المجال أحد فروع علم الذكاء الاصطناعي، تتم فيه الاستفادة من مزايا معطيات الحاسوب؛ لتوظيف التطبيقات الذكية، منها: معالجة اللغات البشرية التي مفادها تصميم وإنجاز أنظمة حاسوبية تحاكي قدرة الانسان في التعامل مع اللغة الإنسانية،والتحقق من صحة الفرضيات النظرية الخاصة باللغة. أهمية اللسانيات الحاسوبية:ـ تعدّ من اهم العلوم الحديثة التي واكبت التقنيات وتتمثل أهميتها بآستثمار نتائجها في مجالات كثيرة منها: مجال التعريب، وصناعة المعاجم العامة والمختصة، والإحصاء اللغوي، والترجمة الآلية،والمعالجة الآلية وتعلم اللغات، وخدمة هذا العلم الحديث لعديد من مصطلحات اللغة الفنية لمختلف العلوم؛ مما أدى إلى إنشاء بنوك للمصطلحات تهدف إلى خلق مصطلحات أخرى معرّبة، ومن ثم توفيرها، وتوثيقها، وتوحيدها؛ من أجل الارتقاء باللغة البشرية من خلال الاسنفادة من مزايا الحاسوب ومعطياته وادواته المتاحة لتوظيف قواعد بيانات اللغة، والاستفادة من علوم أخرى كالرياضيات والمنطق.
البذرة الأولى للسانيات الحاسوبية على مستوى العالم زُرعت في تربة الحرب العالمية الثانية إذ أخذت شكل الترجمة الفورية بآلة تسمى (أنكما) أنجزتها المانيا في إطار منظومتها العسكرية لالتقاط رسائل دول الأعداء، وترجمتها الى الألمانية. أما في الوطن العربي، بدأ العمل بهذا العلم عندما عُقدت عدة مؤتمرات، وورش عمل، وندوات، أولها: الندوة الدولية لجمعية اللسانيات في المغرب العربي في العاصمة الرباط في سنة 1987بجامعة محمد الخامس، ناقشت موضوعات في اللسانيات النظرية والتطبيقية،وحصيلة البحث اللساني في اللغة العربية، ومشكلاتها الواقعية والنظرية.
مهام علوم اللغة الحاسوبية:
1ـ تقسيم النص الى كلمات.
2ـ معرفة نوع الكلمات.
3- الإعراب.
4 ـ معرفة أسماء الاعلام، والتعبيرات الزمنية،والأحداث (اجتماع او مباراة مثلا).
5- تحليل المشاعرفي النص مثل (هل الشخص مؤيد لفكرة معينة أم لا).
6ـ العلاقات بين الأشياء مثل (تحديد تاريخ عمل الشخص في شركة معينة من... إلى...).
7ـ الترجمة الآلية.
ـ في أحدث استعمالات توظيف الحاسوب في خدمة اللغة العربية نحتاج الى تصريف اللفظ بتصريفاته كلها. مثلا الفعل (ابتسم) ينبغي ذكر الأوجه التصريفية والاشتقاقية للفعل، وتفصيلات حالاته الاعرابية، ولواصقه (سوابقه ولواحقه) ثم نغذي الحاسوب بهذا الكم الهائل من التجريد والتصريف لبيان ماهية اللفظ؛ لان الحاسوب لا يمكنه معرفة المراد من لفظ (ابتسم) فقد يكون فعلا ماضيا، او فعل أمر، أو ماضيا مبني للمجهول. إذا لم يكن مشكولا (أي لم توضع عليه حركة اعرابية) لأننا لا نستطيع أن نجعل من الآلة (الحاسوب) ما يحاكي كلام الانسان. وبهذا نكون قد قدمنا نسخة من الذكاء الاصطناعي في التنظير اللغوي، والاستعمال الفصيح، وزوّدنا الحاسوب بثلاثة أمور:ـ الضبط الإملائيّ، والضبط الصرفيّ، والضبط النحويّ؛ لمعرفة ماهية اللّفظ. إذ يحل الحاسوب هذا الإشكال بما يمكن أن يبينه الضبط لتلك الأمور الثلاثة في توضيح معنى اللفظ. وكذلك الحال في لفظ (ذهب) هل هي اسم، ام فعل. نحتاج الى توضيحها للحاسوب؛ كي يزودنا بالمعلومات الصحيحة عنها.
ومن أوسع مظاهر التلاقح بين الحاسوب والتنظير اللغوي (علم العروض) فكأن هذا النظام العروضيّ مجهّز للتعامل مع كلّ مستجدات التطوّر الرقميّ، إذ ان الشعر العربيّ هندسيّ في تفعيلاته،يُبنى على المتحرك والساكن، بمعنى (ثنائية رقمية) فلو ادخلنا أي بيت شعري الى الحاسوب؛ سيخبرنا من أي بحر، وماتفعيلاته، وما ضربه، وما الزوائد والاشكالات فيه، بل سيخبرنا هل هذا البيت الشعريّ صحيحا ام مكسورا. ولظهور المقطع الصوتي في اللسانيات الحديثة أثر في إدخال البرامج الى الحاسوب (البرمجيات الصوتية) إذ نستطيع دراسة ظواهر الأصوات من خلال الخطوط البيانية التي يرسمها الحاسوب، فالسلسلة الكلامية يمكن تمثيلها بمخطط بياني تظهر فيه أكثر الظواهر الصوتية. فنعرف طول موجة الصوت أو قصرها،ومواطن النبر، ومقدار الخفة او الثقل في تلك الموجة، وشدّة الصوت كذلك.
- أهم الإنجازات المبهرة في هذا المجال: وسائل الاتصال الرقمي، الحواسيب، الروبوتات، السيارات ذاتية القيادة.
ـ اما الرسالة الأساسية للسانيات الحاسوبية: إثراء اللغة العربية من خلال تقديم مواد علمية باللغة العربية في مجال اللسانيات الحاسوبية. و انشاء تعليقات حاسوبية لمعالجة اللغة العربية. وتنمية المهارات في مجال اللسانيات الحاسوبية والبرمجة والمجالات النظرية والعلمية المتصلة بذلك، وانشاء قاعدة بحثية؛ لخدمة الجوانب الاكاديمية والتجارية.
ان اللغة العربية مقبلة بصدق على ما يسمى (الهوّة الرقمية) التي تفصل بين دول العالم المتقدم، والعالم النامي. ونعني بها قدرة العربية على الاستفادة من المعطيات المعاصرة، والتكنولوجبا الحديثة في البحث العلمي، وفي دراسة العربية وتدريسها. ـ من جانب اخر اذا نظرنا الى المساحة التي تحتلها لغتنا على شبكة المعلومات العالمية،نجدها ضئيلة لا ترقى الى مستوى العربية ومكانتها. إذا نظرنا الى هذه المساحة لأيقنا ان العربية مقبلة على مايسمى (الهوّة اللغوية).
فاللغة العربية لن تجد مكانا يناسبها، ويناسب تاريخها، وعدد المتكلمين بها على شبكة المعلومات العالمية، إذا لم نبدأ بشكل جاد وواضح في تقديمها بشكل يتناسب مع معطيات عصر المعلوماتية،من خلال حوسبة علومها بشكل صحيح وسريع، بل وسريع جدا. لاسيما ان المشكلات التي تواجهها العربية هي مشكلات ثقافية،وعلمية متولدة من أوضاع واحوال عالمية مثل: محاربة العربية وإبدالها بالعاميّة،وإدخال المصطلحات الأجنبية إليها. وفي الخاتمة: لابدّ من التأكيد على ضرورة الإيمان أن أي تقدم في أي علم ومن بينها علوم العربية، مرهون بقدرة المتخصص على استغلال الطاقات الإبداعية اللامتناهية للحاسوب، وتحديد أهم المشكلات التي تواجهه في مجال تخصصه،وقدرته على ابتكارالحلول والتطبيقات التي تمكنه من حلّ تلك المشكلات حاسوبيا. وإنّ معالجة اللغة تقنيا يُثبت بشكل واضح ان اللغة بخصائصها وميزاتها قادرة على تطويع قدرات الحاسوب،وأنظمته، وآلياته لمواءمتها بكافة مستوياتها، لاسيما ان الجيل الأخير من الحاسوب والأجهزة الذكية الأخرى تتواصل كلاميا مع الانسان، وهذا من أرقى أنواع التواصل وأنجعها وأسهلها على الاطلاق. ويأتي إدخال الحوسبة في خدمة العربية من جوانب متعددة في مقدمة المهمات العلمية المعاصرة والملحّة؛ لتواكب لغتنا العربية التطور العلمي ّ، العالميّ المتسارع. وما التدريس الألكترونيّ في مدارسنا وجامعاتنا، والتواصل بين سائر الناس على الرغم من بعد المسافات،في زمن (جائحة كورونا) إلّاشاهد ماثل إلى يومنا هذا على تأكيد العلاقة الوثيقة بين لغتنا العربية، والحاسوب الذي أصبح محورالحياة العلمية والعملية.
فللّه درّ لسان الضاد منزلة ً
فيها الهدى والندى والعلم َ ماكانا
***
م.د. بتول أحمد سليم