قضايا

درصاف بندحر: المقهور وحب الظهور

لئن ركزت الدراسات التي تعنى بالتخلف في أغلبها على النواحي الاقتصادية والسياسية إلا أن للتخلف أوجها أخرى مرتبطة بتكوين الإنسان.

يعتبر الباحث اللبناني في علم النفس مصطفى حجازي من الكتاب القلائل الذين تناولوا بالبحث التكوين النفسي والذهني للتخلف. يربط حجازي التخلف بالقهر إذ يرى أن الحقيقة الأساسية التي يختبئ وراءها التخلف هي القهر.  يقول في كتابه "التخلف الاجتماعي: سيكولوجية الإنسان المقهور”  إن:

"الإنسان المقهور هو كائن مزيف فقد هويته، وأضاع أصالته، ووجد نفسه عاريًا أمام غربته عن نفسه وهو يحاول بشتى الأساليب ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجد هوية بديلة”.

والهوية، استنادا إلى معجم لسان العرب لابن منظور، تعني حقيقة الشيء من حيث تميزه عن غيره، وتسمى أيضا وحدة الذات.

يضيف حجازي فيقول:"يتذبذب الإنسان المتخلف ما بين الشعور الشديد بالعجز عن استيعاب العالم، وبين طغيان مشاعر السيطرة على الواقع من خلال الحذق (الفهلوة).."

ونحن وإن ننقل بأمانة ما قاله مصطفى حجازي  عند ذكره كلمة "الحذق" إلا أن ترجمته للكلمة بلهجته (الفهلوة) يحيلنا إلى انه يقصد في الحقيقة الحذلقة وذلك في معرض حديثه عن ذبذبة الإنسان المتخلف بين شعوره بالعجز وتوقه إلى السيطرة على واقعه.

حسب تعريف معجم المعاني الجامع المتحذلق في كلامه هو المتصنّع، متكلّف الحذق والقدرة. كذلك هو من يُولي اهتماما زائدا لتعلّم الكتب والقواعد الرّسميّة، وغالبا ما حد يكون هذا الاهتمام للتباهي. يتبنى البعض الحذلقة  كأسلوب حياة لغايات تتعلق بحب الظهور..التموقع.

 الحذلقة ظاهرة منتشرة في كل ما يتعلق بالقول والكلمة والٱداء، وذلك بتقليد من يمتلك المعرفة، بطريقة مخادعة تتناول المعلومة بقشورها لا بمضامينها.

المتحذلقون في أيامنا هذه يجيدون التعبير ويحذقون اللغة..ينسجون القول المنمق ويحيكون الكلام الجميل ..تسمعهم أو تقرأ لهم أو تشاهد ما يؤدونه من أدوار فيشدك الشكل ولكن حين تتمعن في المضمون تجده مفرغا.

إن خطاب المتحذلقين يمكن أن يزدان بالكثير من أدوات المحاججة والإتقان ولكن إذا ما نظرت إلى أفعالهم ..إلى حقيقتهم تجد أنها بعيدة كل البعد عن تصريحاتهم ومداخلاتهم.

إن حالة المتحذلقين يمكن أن يفهمها الواحد منا إذا ما علمنا أن غاياتهم النفعية تبرر تصنعهم. والمنفعة هنا قد لا تكون بالضرورة مادية بل هي بالاساس معنوية ..هي بمثابة التعويض عن العجز عن الفعل والإنجاز..هي محاولة لمن لا حول له ولا قوة ليقول للعالم أنا هنا أنا موجود..هي عملية استعراض وبحث عن الاعتراف لتعويض الخواء الداخلي والشعور بعدم القيمة.

الطبيب النمساوي ألفريد أدلر"، أحد أهم رواد مدرسة التحليل النفسي، ومن إسهاماته الكبيرة ابتكاره مصطلح «عقدة النقص» و كذلك نظريته الشهيرة عن «التعويض».

 يرى " أدلر " أن مفهوم التعويض عن النقص يجب أن يكون له أثر إيجابي على الشخصية، فالشعور بالنقص قد يخلق رغبة جامحة في التفوق ويكون بالتالي محفزا للنجاح. لكن من جهة أخرى فإن للتعويض أثرا سلبيا عندما يضحى زائدا عن حده فيؤدي بصاحبه إلى الاستماتة من أجل البحث عن تقدير الٱخر بشتى الأساليب حتى تلك غير اللائقة منها.

يرى "أدلر" أن من يعاني من عقدة النقص يعيش صراعا أزليا بين هربه من الشعور بالتدني، وهوسه بإشباع الشعور بالتفوق.

من خلال هذا نتبين أن في التعويض الزائد عن الحد تأثيرا سيئا  على سلوكيات الفرد.

هذا ما يجعله مرائيا، لا يبغي من وراء كل أفعاله سوى رؤية الناس لها.

هكذا لا تكون القناعة هي أساسا لتصرفات الإنسان، فمثلا يكون المقصد الوحيد من فعل الخير والعطاء، الحصول على الثناء.

 كذلك لا تهدف ممارسة هذه القيم إلى إعلاء الإنسان  من شأن الإنسان بل تصب كلها في خانة الحصول على الاعتراف والتبجيل والتهليل..كلها وسائل لا يبغي صاحبها من ورائها سوى السعي المندفع، المحموم، إلى المكانة..مكانة يقلق كثيرا بشأنها فيسقط كل ما عداها ..لتصبح هي نقطة الوصول، تصبح هي الغاية.

هذا ما يجعل هوية الإنسان المقهور تلبس قناعا بديلا لا يعبر عن حقيقتها.. بل يتم بواسطتها الاستعاضة عن الهوية الحقيقية بهوية بديلة، مزيفة، مرائية.

صحيح أن  المرائي ومن خلال حذلقته يخدع الناس ولكنه في الحقيقة لا يخدع إلا نفسه التي فقدت أصالتها..هو يعيش إزدواجية تجعله عندما يختلي بنفسه يحتقرها  ..يطالع وجهه في المرٱة فيقول على حد تعبير فاروق جويدة : " هل ألمح وجهي أم هذا وجه كذاب؟"

***

درصاف بندحر - تونس

 

في المثقف اليوم