قضايا
مجدي إبراهيم: القرآن والعلم
هنالك حقيقتان يجب تأكيدهما في صدد العلاقة بين العلم والقرآن:
الحقيقة الأولى هى أن القرآن تضمّن حيث تقريرات “المبدأ” مناهج التعليم والبحث العلمي قاطبة، ومن يتأمل في آياته الكريمة يكتشف المبادئ الأولى التي يقوم عليها العلم ومناهجه المختلفة المتباينة؛ فمن المنهج العقلي والدعوة إلى استخدام العقل والتأمل في مخلوقات الله، إلى المنهج الاستقرائي واستعمال الحواس الظاهرة والباطنة، إلى المنهج الوصفي ووصف الحقائق الغائبة عن المدارك، أو تقريبها من طريق الوصف الى الأذهان والعقول، إلى المنهج الاستردادي وحكاية تواريخ الأمم السالفة بغية وضع العقل البشري بالوعي والاعتبار في إطار ما عساه يفكر فيه؛ إلى المنهج الجدلي ومناقشة آراء المخالفين، ومواجهة عقائدهم المنحرفة، وإقامة الحوار الهادف البناء بين ما هو حق وما هو باطل.
صدق رسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إذْ قال في القرآن الكريم :” فيه نبأ ما قبلكم، وخَبَرُ ما بعدكم، وحكمُ ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل. مَنْ تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبلُ الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا تشبع منه العلماء، ولا يُخْلَق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذْ سمعته حتى قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به.
مَنْ قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل، ومن دعي إليه هُدي إلى صراط مستقيم”.
ليس أصدق عندي من هذا القول في القرآن الكريم؛ هذه واحدة.
أمّا الحقيقة الثانية التي نؤكدها هنا هي أن القرآن منبع العلوم الإسلامية ومنبع مناهجها المختلفة. وليس يشك باحث منصف في الفكر الإسلامي والحياة الإسلامية في أن القرآن كان “نقطة انطلاق” المسلمين؛ إذْ اتجهوا إليه بالمباشرة يقرأونه ويتدبرونه. والقرآن “حَمَّال أوجه”، يعطي لكل” الوجه الذي يريد”. ومن هذا التدبر وهذا التفكر في أعماق النص الإلهي، بدأ الفكر الإسلامي : اختلفت الطرق بالناس باختلاف مناهج السير وطرائق التعبير ولكن الأصل واحد : هو القرآن.
والحياة الإسلامية ليست سوى التفسير القرآني : فمن النظر في قوانين القرآن العملية نشأ الفقه. ومن النظر فيه ككتاب يضع الميتافيزيقا نشأ علم الكلام. ومن النظر فيه ككتاب أخروي نشأ الزهد والتصوف والأخلاق. ومن النظر فيه ككتاب للحكم نشأ علم السياسة. ومن النظر فيه كلغة إلهية نشأت علوم اللغة .. وهكذا.
وتطور العلوم الإسلامية جميعها إنما ينبغي أن يبحث في هذا النطاق : في النطاق القرآني نشأت، وفيه نضجت وترعرعت، وفيه تطورت، وواجهت علوم الأمم تؤيدها أو تنكرها في ضوئه. وبهذا يكون القرآن مصدر العلوم الإسلامية ومصدر المناهج المتبعة في دراستها من حيث إنه يعطي للباحث مبدأ السير ولا يقيده في سيره نحو طلب العلم والبحث فيه واختيار الوجهة التي يختارها منهجاً ورؤية.
ومن يلتمس تطور العلوم الإسلامية خارج نطاق القرآن يلتمس الفراغ العقلي والمعرفي، يلتمس الخرافة والتعطيل، ثم ضيق الأفق الذي لا يعوّل عليه لا في الحياة الدنيا ولا في الآخرة. شرط هذا التطور إذا هو وقع في النطاق القرآني : الممارسة والحياة في ضوء معطيات القرآن ومباشرة فنون الإيحاء خلال الآيات ثم انتظار الروافد الروحية مع المجاهدة بالفكرة وبالتطبيق سواء.
أمّا الترقيع الغريب الذي نراه اليوم في المعارف الإسلامية وقياسها بمقاييس وافدة لا علاقة لها بروح القرآن ولا أصل لها إلا في جماجم أصحابها، ثم يراد غرسها في واقع البيئة الإسلامية على أجنحة التجديد والتحديث وما بعد التحديث، هذه القياسات جهل مطبق لا يعول عليه، بل هى تسئ من حيث يراد منها الإفادة، ولا تقدم في النهاية سوى نوايا سيئة إزاء منهج القرآن في بناء الفرد والمجموع.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم