قضايا

أسعد عبد الرزاق: توظيف (الارجاء) في الخطاب السلفي المتشدد

من الحدث التاريخي إلى الظاهرة المعاصرة

إن التعامل مع الأفكار الدينية بمنطق فهم علمي يختلف عن التعامل معها بمنطق إيماني مؤدلج، فلا يمكن التفكير والتدبر في المعرفة الدينية من دون تجريد الذهن ولو نسبيا من كل المسبقات الفكرية والعقدية وربما حتى الايمانية، التزاما بمبدأ الموضوعية، برغم أنها لم ولن تتحقق بنحو تام، لكن يأمل أهل العلم والمعرفة أن تتحقق الموضوعية ولو بنحو نسبي.

إن الاشتغال في مجال العقيدة ليس بالأمر الهين، والتفكير والنقاش في مسائل العقائد يحيل إلى مساحات خطرة بنظر كثير من الدارسين والعاملين في المعرفة الدينية.

لذا فإن الاتجاهات في الفكر الديني تتعدد وهو أمر طبيعي مع إدراك كل حيثيات التدين والاعتقاد وأزمات التفكير الديني، وما انتجه الخطاب السلفي المتشدد من معارف يثير كثير من الإسئلة، ويستدعي قراءة ومراجعة كثير من السرديات التي نتجت عن تلك الرؤى التي اختلف في منهج تفكيرها كثيرا عن مجمل البيئات المعرفية في الاطار الديني الاسلامي.

وفي هذا المقال يتم تناول التوظيف السلفي المعاصر لمشكلة الارجاء، تلك المشكلة القديمة والحديثة في الوقت نفسه، بسبب إعادة انتاجها واسقاطها على الواقع الراهن، من قبل كثير من الدارسين في مجال المعرفة الدينية.

وتمت محاولة قراءة أحد أهم الكتب التي تناولت هذه المشكلة وهو كتاب سفر بن عبد الرحمن  الحوالي (ظاهرة الارجاء في الفكر الاسلامي) ومراجعته ومحاولة نقده وتسجيل بعض الملاحظات التي من شأنها أن تبين الفارق المنهجي بين التفكير العلمي الموضوعي، والتفكير المؤدلج الذي يتحرك في مساحات شديدة الضيق، وقد يصعب التحاور معها بسبب اختلاف منطق الفهم ومرجعيات التفكير، وفقدان حلقة المنهج العلمي البرهاني الذي يقرب وجهات النظر في الغالب ولو نسبيا.

تمثل مسائل الايمان والكفر، مساحة معقدة وحساسة لدى أغلب الاتجاهات العقدية والكلامية، ومنذ القرون الأولى للعهد الاسلامي، إذ دخل الفكر الكلامي في أنفاق ومتاهات متداخلة بسبب ما أختلف فيه من مسائل الايمان والكفر، وما يترتب على تلك المسائل من تكفير وإقصاء، جعل من الخوض في مثل تلك المسائل مدخلا لإخراج فئات ومجاميع من ملة الدين، والمشكلة أن هذا الاختلاف قد انعكس أيضا على الواقع الحديث والمعاصر، وكأن الأزمة مستمرة، والمساحات مفتوحة أمام إثارة تلك المسائل في كل زمان ومكان.

والإرجاء كمفهوم وظاهرة وحدث، كان متأثرا بمقولات الايمان والكفر من جهة، ومؤثرا فيها من جهة أخرى.

يمكن تحديد محل الاشكال في فكرة الإرجاء من خلال، ثنائية الإيمان والعمل، وعدم تمامية الإيمان من دون العمل، وعدم كفاية الانعقاد القلبي، والاذعان النفسي، ومجرد التصديق، في إسباغ صفة الإيمان على الإنسان، وهنا لنا وقفة تحليلية مع تلك المخاوف:

أولا: ما هو المراد من تقوّم الايمان بالعمل؟ وأن العمل جزء من الإيمان؟ وأن الإيمان يزيد وينقص باعتبار دخالة العمل ضمنه؟

للإجابة على هذه التساؤلات لا بد من إيراد احتمالات:

إما أن يكون سبب التأكيد على دخالة العمل بالايمان هو عدم كفاية اسلام الفرد من دون عمل يكشف عن إيمانه، بمعنى أن يصبح العمل هو الطريق إلى انكشاف إيمان المؤمن، ولا يكفي منه ادعاء (القول)، بل ضرورة (العمل).

أو أن يكون العمل مكملا للإيمان، وأن الإيمان يتقوم بالعمل على مستوى الواقع العملي، الذي يستحق معه المؤمن صفة الإيمان الحقيقي ويكون مستحقا للثواب.

وهنا لابد من الالتفات إلى خطورة الموضوع، فمن آمن في قلبه وكشف عن إيمانه هذا بمجرد قول أو ما يوازيه، هل يكفي ذلك في اعتباره مسلما محقون الدم؟ حتى لو لم يعمل؟

أم أن ذلك غير كاف؟ بل يبقى كافرا مالم يبين عليه العمل؟

هذه التساؤلات لم يتم تناولها بنحو صريح في المدونات التي تناولت موضوع الارجاء، لكن الهاجس الفعلي وراء تلك الإشكالية مرتبط بمسألة الإيمان والكفر.

ثانيا: إن القول بكفاية الانعقاد القلبي في تحقق الإيمان يُفهم على نحوين:

إما أن يكون الإنسان مسلما بمجرد قناعته الداخلية، من دون الحاجة الى القول والعمل أو يكون الاكتفاء بالانعقاد القلبي على مستوى تحديد مفهوم الإيمان، إذ يتم تحديده بالتصديق والاذعان، وهما فعلان نفسيان، والعمل مفهوم مغاير للإيمان كما صرحت في ذلك نصوص القرآن الكريم في عطفها بين الإيمان والعمل الصالح في أكثر من موضع، (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، (من آمن وعمل صالحا).

إذن الغاية من فصل العمل عن الإيمان متعددة، فإما أن تكون لأجل الفصل المفهومي، وهو ما لا شك فيه، أو تكون لأجل الفصل الواقعي العملي، وهو مما يسبب مشكلات عدة، أبرزها تقويض الفعل الايماني في حدود الواقع القلبي، مما يفضي الى انحسار فعل التدين بالفعل النفسي الداخلي،

إن المرتكز الذي يقوم عليه الخطاب السلفي هو ربط العمل بالايمان، وجعله مقوما لحقيقة الإيمان، ولا يكفي أن تتم صياغة مفهوم الإيمان على أنه اعتقاد في القلب كما يستفاد منه لغة واصطلاحا، بل تلزم إعادة صياغة المفهوم بالنظر إلى واقع العمل، وأثره في تمام الإيمان، ونقصانه، وإذا كان الايمان الكامل يقتضي تحقق العمل، فإن الخطاب السلفي لم يكتف بذلك، مؤكدا على أن حقيقة الايمان مركبة من القول والعملفضلا عن الاعتقاد، وأن العمل كاشف عن حصول الايمان القلبي، ومن دونه لا يكون الايمان إيمانا، ومن هنا تم نقل الارجاء من الحدث إلى الظاهرة، فالصياغات التي تصوغ مفهوم الايمان على اساس لغوي واصطلاحي بأنه انعقاد في القلب فقط تمثل حالة الإرجاء كظاهرة مستمرة، ينبغي مواجهتها في مختلف الأحوال وعلى كافة الصعد.

لذا نجده يتناول تراث السلف في قولهم الايمان قول وعمل، محاولا التأصيل والدعوة لتلك الرؤية التي أثقلت مفهوم الإيمان بالنحو الذي أدى إلى تضخم مقولة الإيمان وربطه بالعمل، وليس أي عمل، بل سعى الخطاب السلفي إلى انتقاء نمط محدد من العمل، فالعمل الذي يراه السلف هو العمل الذي يندك بحالة الدعوة والجهاد والحرص على عدم الزيغ والضلال والبراءة من الكفر بحيث أصبح التكفير جزءً من العمل ولو بنحو ضمني كما يتضح مما يدونه سفر الحوالي، من أن إرجاء الاعمال الى الآخرة كما يتضح من مفهوم الارجاء لهو منطق يغاير منطق الايمان الصحيح، لذا فهو يكرس مبدأ الحكم على عقائد الناس، بنحو ضمني، لأنه ينتقد حالة التقاعس عن ايضاح الإيمان بمعناه الملازم لضرورة العمل، فالسلف يدخلون الأعمال في ذات الإيمان وحقيقته، وهذا بدور يؤدي إلى تكفير من لا يعمل ولو بنحو غير مباشر.

مما تقدم يتضح:

- تم ترحيل مشكلة الارجاء من بعدها التاريخي إلى واقع معاصر وراهن، من خلال التركيز على مدخلية العمل في حقيقة الإيمان، من دون الاكتفاء بكونه مكملا للإيمان، مما يفتح الباب إلى سلب اعتبار الايمان من مذاهب ومجتمعات في العصر الراهن، لكونها لا تعتقد بمدخلية العمل في حقيقة الايمان.

- إن اشتراط العمل في الإيمان بعد أن جرى اعتباره مقوما لمفهوم الايمان، يؤدي بنحو ضمني إلى تكفير كل من لم يعمل، فضلا عن انتقاء الخطاب السلفي للعمل في حدود ما ينتجه المنهج السلفي (اهل السنة والجماعة) من أنساق وأحكام وضوابط للأعمال الصحيحة، تختلف كثيرا عن ما تنتجه المعارف الدينية لدى بقية المذاهب والاتجاهات الاسلامية.

- يقوم منطق الفهم على الجانب البياني فقط، ولا يناقش الفهوم الأولى، (القرون الثلاثة) بل يجعلها مرجعية معرفية توجه خطابه المعاصر، ويضيف عليها من خلال اعتماده على المرجعيات اللاحقة (ابن تيمية، ابن عبد الوهاب، المودودوي، سيد قطب..).

- إن عملية تصنيف الناس في الواقع المعاصر وفرزهم  على اساس ديني متشدد يستدعي إحياء مشكلة عقدية موغلة في القدم وإعادة انتاجها وإسقاطها على واقع راهن، لتنتج مشكلة جديدة تتمثل بتكفير أغلب المسملين.

- يعتقد السلفيون المتشددون أن منهجهم معصوم من الخطأ، وهو الحالة التي بشر بها النبي (ص) بأنها ستعود بالاسلام غريبا كما بدأ غريبا، وهو يكشف عن منطق جازم في أفكاره، يجانب المنهج العلمي، ويستعين بالمعتقد من خلال توظيف الوجدان الايماني الذي يحشد الناس على التمسك بما ينتجوه من أفكار.

***

د. أسعد عبد الرزاق الاسدي

في المثقف اليوم