قضايا
عبدالإله الياسريّ: موقف الشاعر اجتماعيّاً
طاب مساؤكم عزيزاتي أعرّائي. أحيّيكم أطيب تحيّة، وأشكر لكم تفضّلكم عليّ بهذا الحضور الكريم؛ كما أشكر للجمعيّة العراقيّـــة الكنديّة في أتاوا دعوتهـــا إيّاي، لأتحـدّث إليكم في هذه الأمسية الثقافيّة عن تجربتي الشعريّة. ولاريب في أنّ الحديث عن تجربة شعريّة جاوز عمرهــا نصف قرن أو أزيد ليس بالأمر الهيّن ولا السهل؛ لكنّي سأختصر القول فيها، وأحصره في ارتبـاطي بالـواقـع، والتزامي بـحاضره، ورؤيتي في تغييره.. وأعني بالواقع البيئة العراقيّة التي ولدت فيها سنة خمسين وتسعمائــة وألف للميـــلاد، ونشأت فيها حتى أدركت معنى الحريّة، فقاومت الترهيب والترغيب السلطويين اللذين أراداني، في السبعينيّــات من القرن الماضي، على أن أشارك الشعراء العبيد في جرّ عربات االسلطة المستبدّة، فأتخلّى بشعري عن كرامتي الإنسانيّة والوطنيّة وعن قيمتي الفنيّة. وحين " بلغ السكّين العظم"، كما يقال، اضطررت الى الهجــــرة القَسريّة من وطني إلى المغرب الأقصى في سنة تسع وسبعين وتســعمائــــــة وآلف للميلاد، وزاولت التعليم هناك مدّة عشرة أعوام، ثَمّ اضطررت إلى الهجرة القسريّة ثانية حتّى استقرّ بي المقام بينكم في كندا. ومن باكورة شعري في غربتي واغترابي بعض قولي في رسالة شعريّة جوابيّة لأبي وقتذاك:
"أبَتِ الحنونْ
لا. لن أعودْ
لا. لن أعود الى القيودْ
لا. لن أعود إلى اليبابْ
وإلى السرابْ
مزّقتُ تذكرة الإيابْ
لا لن أعود لغربة تُدعَى وطنْ
ولمُخبرٍ يُدعَى صديقْ
لا لن أعود الى الكفنْ
وإلى اللحودْ
لا. لن أعودْ.
لا. لن أعودْ.
قرَّرتُ كالرّيح العتيّةِ أَن أَثورْ،
لا كالنسيمْ.
قرَّرتُ كالأشواكِ أنْ أَبقَى عنيدْ.
لا كالأزاهر في الربيعْ.
ورضيتُ أنْ أَحيا شريدْ.
مثل الصّقورْ.
لا كالدواجنِ في القَفَصْ.
لا. لن أُباعَ وأُشترَى مثل العبيدْ
لا. ألْف لا.
لا يا أَبي!
لاتخشينَّ عَلَيَّ إنْ نضبتْ من النَّقدِ الجيوبْ.
لا لن أموتْ
من فرط إملاقٍ وجوعْ
الموت في ذلّ الشعوبْ
والموت في عمق السكوتْ
لكمْ اللّجــــامْ.
وليَ الكــلامْ.
لا. لن أَعودْ. "
ولئن كان الواقــع العـراقيّ يعاني من التخلّف السـيـاسيّ والإجتـمـــاعيّ والدينيّ وحتّى الإقتصاديّ، وكنت محتجّاً على تخلّفه كلّ الإحتجــاج؛ فإنّي، على الرغم من تخلّفه واحتجاجي عليه، لم أتنكَّر له البتة، بل بقيت مرتبطاً به داخل العـراق وخارجــه، وملتزماً بالعمــل الجادّ للنهوض بـه، مهما كلّفني ذلـك العمـل من ثمن؛ لأنّي لم أرَ غير الإرتباط به والإلتزام بحاضره من سبيل لتغيير مستقبله. وقد أعلنت هذه الرؤية في شعري تصريحاً وتلميحاً.
ومما يدلّ على ارتباطي بمصير العراق قولي:
"لو أسهو يوماً عن وطني. لو أنساهْ.
آهٍ وطني آهٍ آهْ!
لم تبقَ سوى الذكرى منك، ولم تبقَ سوى الآهْ!
آهٍ وطني آهٍ آه!"
أو قولي:
"أنا ابن المجد والشهــــداء فخــرا** ببذل النفس للبيض الرقاقِ
أأغضي الطرف عن وطن تدمّى** بطعن جـاهــليّ لانشـقــاقِ"
وممّا يدلّ على التزامي بحاضره لتغييره قولي:
"تعبتُ ولـــم يتعبْ بأَعمـاقــيَ الحبُّ** وشـبـتُ ولـــمْ يَبلـــغْ صباباتيَ الشيبُ
وأَشــغلَ جنحيَّ الزمــــانُ بغربــــــةٍ** ولم يَنشـغــــلْ عمَّن أُحـبُّ ليَ القلـــبُ
لئِنْ غيَّبتْني عن بــــلادي عصابــــةٌ** ففي كلِّ ليلٍ من حضوري بهـــا شُهبُ
بـــلاديْ بها جـذريْ ومائيْ وطينتي** وضوئيْ وإنّي من قطافٍ بهــــــا اللبُّ
إنْ ابتسـمـتْ بِشــراً، فإنِّي شـفاهُهــا** وإنْ دمِعـتْ حـزنـاً، فـإنِّي لـهــــــا هدبُ
يَسيــرُ معي النَّخــلُ الجميـــلُ وظلُّـه** ويَجثو معي النَّهرانِ والطّينُ والعشبُ
وللسعفـــةِ الجــــرداءِ منِّيَ خضــرةٌ** وللطائـــرِ الظمآنِ من أَدمعيْ شـــربُ
وما كان بُعديْ بُعدَ مَن نَسيَ الهـوَى** ولكنّـــه بُعــدٌ يزيـــــدُ بــــــه القُـــربُ
فَديــتُ بنفسي بلـــــدةً لـــمْ تُعــــزَّنيْ** ولــمْ يَتّســعْ فيهــا لعاشــقِهــــا الدَّربُ
أُريـــدُ بهـــا شــربـاً وأَكوابُــهـــا دمٌ** وأَبغيْ بهـــا أَمْنـاً وأَحـلامُهـــــا رعبُ
وأَنسَى لهــا ســمّاً وإنّــيْ صريعُـــه** وأَهوَى لها وصــــلاً وما بيننــا حربُ
صُلبتُ بهــا أَلْفــاً ومــازالَ في دمي** حنيــنٌ لعينيهـــا يَطيـبُ بــــه الصَّلبُ
حبيبـــةُ قلبــي لا حبيبـــةَ بَعــدَهــــا** فِدَى حَبّةٍ من رملِها الشَّـرقُ والغـربُ"
كما أنّني أعلنت في شعري قبولي بدفع الثمن الباهظ مقابل ذلك الإرتباط وذلك الإلتزام كقولي:
"تعالَ وخذْ ياجـوعُ قمحَــك من دمي ** ودعني أمتْ وحدي على رمح آلامي
وخلِّ عــراقَ الحـزن يَبتـلَّ رملُــــه ** وتخضرَّ باليــــوم المذهَّب أحــــلامي
أنا المغــرم الهيمــان شـعبي حبيـبتي** وأنفاســـه لحني وعينــــاه إلهـــــامي"
أو قولي لصاحبي:
"تعـالَ، إذن، نفتـحْ شـبابيـــــكَ من دمٍ ** تُنـــــوِّر بيـتــاً فيـــــه يختبئ الغـيــبُ
إذا أنا لــم أُحــرَقْ ومثليَ صــاحبــي** فمن ذا يضئ الدربَ إنْ أظلم الدربُ؟
لقــد ملّني صبــري. أُريــــدُ جنـــازةً** لحبّيَ أو شـمسـاً يُغـنّي لهــا الشعـبُ"
أو قولي:
"إنّني أخرج من غمد السكوتْ.
إنّني أحمل قدّام الغيومْ.
لافتات المطرِ،
ومرايا الشجرِ.
فاقتلوني واقفا كالنخل في وجه الرياحْ.
واقفاً إنّي أموتْ. "
وسأترك الحديث عن الجانب الاقتصاديّ لأهله، وأقصر حديثي على ثالوث التخلّف العراقيّ أي السياسيّ والإجتماعيّ والدينيّ الذي تتناقض صوره فيما بينها حزبيّاً وعشائريّاً وطائفيّاً إلى درجة دمويّة بحيث يخرج بها الإنســـان من صفته الحضاريـّـــة التي تميِّــزه عن وحوش الغاب إلى صفته البدائيّـة الهمجيّــة. فالحاكم السياسيّ يقتل المعارض السياسيّ باسم الخيانة الوطنّية، والرجل العشائريّ يقتل المرأة المتمرّدة على قيوده باسم الشرف والأخلاق، والمؤمن الدينيّ يقتل أخاه المؤمن الدينيّ باسم الإيمان والدفاع عن المذهب. وقد انتقدت بشعري العقـل الجمعيّ لذلك العنف السلوكيّ في الصراع الداخليّ. ومنه هذه الأبيات:
"أعقاربٌ مسمومــــةٌ أم نــاسُ ** أم إنها الآثــام والأرجـــــــاسُ؟
لم يشربوا غير الدمـاء ولـم تقـمْ** إلا على جثثٍ لهـم أعــــــراسُ
متوحّشون فلاتغرّك بـسـمـــــةٌ ** إنسيّةٌ أو يخدعنْــك لبـــــــــاسُ
سُحقاٌ لقـوم كالذئــــاب وهالـــكٌ** من ليس بينهـمُ لــه أضــــراسُ
فكأنَّ سمَّ الموت وسط كلامهـمْ ** يجري وبين حروفــه الأرماسُ
إنّي لأكفرُ بالإخوَّة زهـرهـــــــا** نابٌ يعضُّ وعرقهـا دسـّــــاسُ
ألقَى بيَ الرحمن وسط بهائــــمٍ ** جرباءَ لا طابتْ لهـا أنفـــــاسُ
وقد ابتــلاني بالمصائـــب غدوةً** وأجلُّ كـلِّ مصائبي الإحسـاسُ
عشـرون ماتمّتْ فأذبلني الأسى**زهراً، وأوشك أنْ يشيب الراسُ"
غير أنّ هذه الصور المتناقضة مع بعضها إلى حدّ سفك الدمـــاء أحياناً؛ تتّفق كلّهــــا ضدّ التفكير العلميّ والوعي الوطنيّ. ولاتتورّع، حين تعجز عن مناقشة المفكّــر التنويري أوالمناضـــل الإجتمـــاعي، من أن تتّهمه بمختلف الإتهامات الجاهزة، ومن أن تجوّعه أو تشرّده أو تقتله دون أن تبـالي بأهميّة عقله النظريّ وفعله العمليّ في تطوير البـــلاد وتقدّمهــا. ومن تلميحي إلى المعاناة العامّــة للمثقفين التنويريين في العراق قولي:
"أدري وتدرين يابغــــداد كـــــم نغــمٍ**حلوٍ تلعثـــم بين البــوم والحجـــــــرِ
أدري وتدرين كـم قيثــــــارةٍ صُلبتْ** أوتارها السُمـر في هــمٍّ وفي كــــدرِ
أدري وتدرين كم شمسٍ وكم شهبٍ** مذبوحــة الضـوء قد راحت لمنحـــدرِ
هاتي المرايــــا أَرينا كيف أوجهنــا** أضحت صحارَى دمـوعٍ ذلـّةٍ خَـورِ؟
وكيــف ألقـتْ منــاراتٌ أشـــعّتهـــا** إلى الرماد، ودبّ الصمت في الشررِ؟
خلّي الحكايــة ســــكّينــاً تَجـزّ بنــا ** وزغــردي فغـداً لابــدّ مـن مطــــرِ"
ومن تلميحي إلى معاناتي الخاصّة قولي:
"أجرمتُ من فرط إِحساسي ومن فِكَري** وغـربـتـــي بين قــــــومٍ لــيـس كالبـــشـــــــــــــرِ
وتهمتي أَنّهـــــمْ نامُــــــوا وأَقلقَهـــــمْ **ضوئي، وأَزعجهمْ من أَجلِهم سهَـــري
وتهمتي أَنَّ كلَّ الأَرضِ قـــد لبِســـتْ ** صخراً، ومازال مُخضرَّاً لهم شجـري
وتهـمـتي أَنّني أَجــريــتُ مـن قــلقـي** نهـــــراً، لأُنقذَهــمْ من قبضةِ الحجـَــرِ
وتهمتي أَنّني أَدعـــــــو الريــــاحَ إلَى** رمـادِهـم، وأَصبُّ الزيـتَ في الشَّـــرر
إِذا يقولونَ:"مجنـونٌ" فقـد صــدقــــوا** فيما يقولونَ عن رعدي وعن مطري"
وأحسب أنّ سلطة الدولة في العراق هي أوّل المسؤولين عن كلّ ذلك التخلّف المتداخـل نــسيجـــه سياسيّاً واجتماعيّاً ودينيّاً، لأنّ زمام التشريع والتنفيذ بيدهــا. ولو كانت سلطـــةً وطنيّــــــةً حقّاً؛ لأصلحت الواقع المتخلّف، وحسّنته لإسعاد الإنســـان العراقيّ؛ لكنّها سـلطة فساد واســتبــداد. . غايتها تناقض غاية الشعب فضلاً عن انّها تابعة للأجنبيّ على الرغــم من الاستقــلال الشكليّ. وعلى الشاعر العراقيّ في مثل هذه الحال أن يختار موقفاً من موقفين. إمّا أن يكون دميـــةً بيـد الحاكم الفاسد والمستبد، ويشاركه في فساده واستبداده ضدّ شعبه وسيادة وطنه، وإمّا أن يكون إنسـاناً وطنياًّ صادقاً يقــاوم ظالــم شعبه وخائن بلاده. ولكم كنت صريحاً باختيــــار الموقــف الإنسـانيّ والوطنيّ من خلال شعري المناهض للحكّام العراقيين، كقولي:
"بيننا والقادةِ (الغُرِّ) ســيــاجُ ** لهم النفط وللشعب العجــــاجُ
كلّهــم صاروا ديوكــــاً معنـا ** ومع الديك الحقيقيّ دجـــــاجُ
نرجـسيّـــون طفيليّـــون. لــــم** ينضجوا. حُمقٌ مخانيثُ سِماجُ
ليس تعنيهـم ضحايــــا وطـنٍ** ونزيفٌ له في الكون ارتجـاجُ
همّهم أنْ يقسمـــوا الحبّ ولا** يتبقّى بيـن قلبيــن امتــــــزاجُ
وادّعوا الدين ولا دينَ لهــــم**مالهم في جوهر الدين احتيـاجُ
كلّهـــم جانٍ فإنْ غـــاب فمي** فلشعبي لم يغب فيه احتجــاجُ
وطني عرشي وفخـري أنّــه** فوق رأسي أينما سافرت تاجُ"
أو قولي:
"أصـاروا الله متجــرةً بســــوقٍ** وخيرَ الأنبيـاء ذوي ارتـــزاقِ
لقد باعـوا العــراق، وهـانَ حتّى**لأخجـلُ أنْ أقــول أنـا عــراقي
رأيـت الشـــعــب مختلفـاً ولكـنْ** على كرهٍ لهــــم هو في وفـاقِ
لصــوصٌ إنَّ أنظفـهــــــم لقـذْرٌ** وأحلاهـــــــم لمـرٌّ كـالزُعــاقِ
ستكنسهــــم يــد التاريــخ حتماً ** ولايبقَى لهم في الأرض باقي"
أو قولي في أعوان الحكّام:
"يُحاربون يزيـدَ الأمس في خُطبٍ** وإنّهـــم ليزيـد اليــــوم خــدّامُ
إنّ الشعـوب إذا أخبتْ مشاعلهــا ** قامت عليها من الأشباح حكّامُ"
ولاشكَّ في أنّ من يختارالإنسانيّة والوطنيّة صادقاً في ظلّ هذا التخلّف الشامل، سيشعر بالإغتراب بين أهله في وطنه الذي لم يعد وطناً إلا بالاسم، بل صار قبراً يضمّ مواطنيه الأحرار بين أطباقه وهم مايزالون أحياء. ومهما تكن الغربة خارج الوطن، تكن أهون من الإغتـراب داخلـه. وقـد عبّرت عن هـذا الشعـور المريــر في أغلب قصائــدي. ومن شعوري أنّي في مقبرة لا في وطن قولي:
" تبّاًّ لحاليَ نسراً ليس يُنجدُني ** جنحي علَيّ من الأشراك أكوامُ
قد صرت أبحث عن طهري بمقبرة** لكثر ماحاط بالأحياء آثـامُ"
وكقولي:
"إنّي سـأرحــل عن أرضي وجنّتهــا**كرهاً، وأَبعدُ عن نخلي وأنهـاري
قد طال صبـري خفيضاً رهن مقبـرةٍ** فما انتظاريَ نسراً بين أحجـارِ"
ومن شعوري بالإغتراب بين قومي داخل الوطن قولي:
"وليت همّي كهمّ النـاسِ مأدبةٌ** وكنـزُ مالٍ وكرسيٌ وأربــــاحُ
يذوب بينهـــمُ قلبي وقد جـلدوا** كما يذوب بعمق الليل مصباح
أكاد أبكي عليهم كلّما ضحكوا** أكاد أضحك منهم كلّما ناحـوا"
وكقولي:
"أنا الظمأ المهمـوم ألهث حامـــلاً ** على ظهريَ المسبيِّ تابوتَ أحلامي
فـلا فـرسـي يعـدو فانقــذَ رايـــتـي** ولاحربتي تُردي ولاساعـــدي رامي
وهـا أنـا يـابغـــــــداد جئتــــك ميّتاً** قفي واخلطي الحنّاء بالمدمع الهـامي
هبيـني رصيفــاً تــستـكنّ حقائـبـي** عليه فقد ماتت من السيـــر أقــــدامي
فمـا مَنحتْـني غيــر حزنٍ مدينـتي ** وغيــر انكســـاراتٍ وذلٍّ وأوهــــــامِ
أنا القمح والنخـل العـــراقيّ أنحني** جفافاً وأهوي جانب الشاطئ الطامي
أنا القريـة الخضــراء قحطٌ أذلّــني** فأطفـأتُ فانـوسي وأخفيتُ إكــرامي"
وأحسب أنّ أساس كلّ هذا الخراب الذي ذكرت، بصوره السياسيّة والإجتماعيّة والدينيّة في العــراق، يكمن في وضع المرأة فيه، لأهميّة دورها في العطاء الإجتماعيّ. وبدلاً من أن تحتفي السلطة الذكوريّة في العراق بهذه الإنوثة الخلاّقة المعطاء، وتساعدها علي نيل حريّتها واستقلالها؛ نراها ترهقها بقــيود العبوديـّـة والتبعيـّـة وتستهين بكرامتها وقيمتها الإجتماعيّة. ولعمري لا أكاد أرى إستهانة في الحيــاة أقسى من الإستهانة بالإمومة التي هي رمز الخصب والتجديد في المجتمع. ولقد أعظمت معنى الإمومة بشعري وأشدتُ به. ومن قولي في ذلك المعنى:
"ياعالم السحـر ياجمـــــالاً** يصيح. حُسنٌ يَشدّ حُسنا
ياأنتِ معنى الوجـود لولا **كِ لــم يكن فيـه أيّ معنى
ثوري نحطّمْ معاً قيـــوداً **غاصت عميقاً بنا وسجنا"
أو قولي في مخاطبة الأمّ:
"من نفح روحكِ هذا الطيب في طيني** كالله أنت وقــد أحسـنتِ تكويــني
سبحان نوركِ. روحي بعض خمرتــــه** وبعض أكؤســه شــكلي وتزييني
إليّ صــدركِ يـا ظـــلاً ألـــــوذ بــــــه** حبّاً ليُنسيَني حقدَ الســـكاكيــــــنِ
هيّآ لنهـــرب من سجنٍ نمــوت بـــــــه** ذلاً، ونخلص من حكم السلاطينِ"
وما إسراف أكثر الرجال بظلم نسائهم إلا دليل على عجزهم عن مواجهة سلطة الأقوى، وعلى رضوخهم لحكمه وطغيانه. ومهما يكن من شيء، فإنّ وضع المرأة في العراق وخصوصاً المسلمة هو مخالف لحقوقها المدنيّة، ومخالف لحقوقها الشرعية أيضاً.
وكيف لايخالف وضعُها حقوقها المدنيّة وقد ميّزتها االسلطة الذكوريّة عن الرجل على أساس الجنس، ولم تقرّ المساواة بينهما في الحريّة الشخصيّة الكاملة التي أصبحت تخصّه هو وحده ولاتخصّها هي؟ولكم دعوتها في شعري للثورة على ذلك التمييز لكي تتحرّر من قيود العبوديّة والتبعيّة،. وممّا يدلّ على تثويري إيّاها في هذا الميدان قولي:
"ثوري على القيدِ في اللَّيلِ.
ثوري أُقبّـلْـكِ. ثوري أُعانقْـكِ. ثوري أَرينيْ
جماحَ الخيولِ بعينيكِ. لستُ أُحبُّـك تابعةً كالكلابْ.
ولستُ أُحبُّكِ عصفورةً مُفزَعهْ
تلوذُ بريشِ انحناءْ.
أُحبُّـكِ عُريانةً في المساءْ.
تَشعِّينَ كالنَّجمةِ النائيهْ.
أَأَنتِ الإلهْ؟
يُميتُ، ويَبعثْ
سأُعلنُ رغم ذكوريّةِ الأنبياءْ،
سأُعلنُ:إِنَّ الإلهَ مؤنّثْ.
وإنّكِ كلِّي.
وفيكِ اندمجتُ، وفيَّ اندمجتِ
أَأَنتِ أَنا أَمْ أَنا هو أَنتِ؟
كلانا هو الله وحدَه. ما مِن إلهٍ سواهْ"
وممايدلّ على إصراري على مساواتها قولي:
"ولتكوني شريكتي** بصعودٍ إلى الذرى
أنا طيـــر ولم أزل** فيك أرجو تحرّرا"
أو قولي:
وأَحبّيـــني عميـــقـــاً إفعــلي **تجدي ردّي لفعــــلٍ أعمقا
وليَقــلْ عنـــك وعنّي جاهـــلٌ** خالفا العرفَ وساءا خُلُقا"
وكيف لايخالف وضعها حقوقها الشرعيّة أيضاً، وقد اتهمتها السلطــة الذكوريـّـة بنقصان العقل والدين خلافاً لنصوص التنزيــل والحديـث التي ساوت بينها والرجـل عقليّاً ودينيّاً؟ولكـم أكّدت بشعري آنّ المرأة ليست جسدا منفصلاً لهدف بيولوجي وحسب، وانّما هي النصف البشــــــريّ والرجل هو النصف الآخر. والنصفان يلتقيان في وحدة الإنسان العقليّة والنفسيّة والجسديّة. ولقد عبّرت عن مثل هذا المعنى بقولي:
"أخرجيــني من جنــــانٍ أغلقتْ** كوّةَ الضــوءِ على كـــلّ فطيـــنِ
وإلى صـدري هلمّي شــجـــــراً** وإلى صـدرك عصفـــوراً خذيني
خـوّفــــوك الأهـــل منّي، وأنـــا ** منك باســم الدين أهلي خوّفــوني
فتعـالي نتعــــانـــــقْ قبــــلمـــــا** يتلاشى العمر في صمت المنونِ"
وبناءً على نقصانها العقليّ والدينيّ المزعومين ركّزت السلطة الذكوريّة على حجابها الشكلىّ الذي لــيس هو من الفرائض الشرعيّة بشئ. ولم تلتفت تلك السلطة كثيراً إلى حجابها الجوهريّ الكامن في علمها وفي عملهــــا المؤكّدين في التنزيل والحديث؛ وهي تظن (أي السلطة الذكورية) أنّها بذلك الحجاب الشكليّ تحمي المرأة من السوء. وكيفما يكن الحجاب الخارجي، فإنه لايقي نفس المرأة إذا أمرت بالسوء حتّى لو كان من حديد. إنّ الذي يقيها من السوء هو وعيها وعلمها وتربيتها. وقد أشرت في أبيات لي إلى هذا التناقض بين صورة الداخل الحقيقيّة وصورة الخارج غير الحقيقيّة بإزاء نقد الشكليّة في الحجاب؛ إذ قلت:
"أريني غير همّــك بالحجــــابِ** فما أهوَى القشور بلا لبـــابِ
أتخفيــن الهــوَى عبثــاً بثــوبٍ ** وهل يُخفَى حريقٌ بالثيـــابِ؟
وتُبدين الوقــارَ بخفـض صوتٍ** وفي عينيك زلزال الشــبـابِ
أتخشيــن الحســـاب وأيَّ شيء**جنيتِ لكي تُساقي للحســـابِ؟
فـلاتثــقي بمــا قــــالــــت رواةٌ** بهم من غابـةٍ طبـع الذئـــابِ
فمـا في الحبِّ تخريــــبٌ ولكن** رأيت بحقدنا كـلّ الخـــــرابِ
فكــم من زوجــــة زُفّت بعقـدٍ ** وكان زواجها شبـه اغتصابِ
أفكّـــر ضدّ مملكـتي وعـرشي** على حكم الذكورة بانقـــلابِ"
وأخيراً إنّني أنادي بحريّة المرأة العراقيّة، لسببين. الأؤل هو أنّها هي أسـاس البناء الإجتماعيّ في العـــراق الذي لايمكن أن يكون قويّاً صحيحاً مالم تتحرّر المرأة فيه من هيمنة ثالـوث سلطات التخلّف التي ذكرتها آنفاً. والآخـر هو آنّ حريّتي الشخصيّة لا يكتمـل معناهــا من دون معنى حريّتهـا هي.. كيف يمكن لي أن أكـون حرّاً في وطني وأمّي أو أختي أو بنتي أو حبيـبتي، مثلاً، تعيـش فيــه غيـر حرّة؟. كــيف؟إنّ حريتهنّ هي جزء لايتجزّأ من حريّتي الشخصيــّـة التي هي جوهـــر حيـاتي، ومعنى وجـــودي. وما كان لكائن بشريّ أن يكون إنساناً ذا قيمة من دون حريّته وحريّة الآخرين الذي يعـيشــون معه. هذا وشكراً لكم جميعاً.
***
عبدالإله الياسريّ
.........................
* هذه محاضرة. ألقيتها مساء الأحد المصادف 12 أيّار/ماي 2024م استجابةً لدعوة الجمعيّة الكنديّة العراقيّة في مدينة أوتاوا بكندا، واحتفاءً بمهرجانها الثقافيّ. وهي على الرابط الآتي:
https://www. com/Ottawaicso/videos/1343407859866021