قضايا
عبد العزيز قريش: النقد الذاتي ودوره في عملية التدريس
"ومضة من أجل وعي الذات والتجدد"
ـ النقد الذاتي للعملية التعليمية التعلمية حياة:
للنقد الذاتي دور رئيس وأساسي في عملية التدريس من حيث يرتكز على التفكير بشكل نقدي في اشتغال المدرس وأدائه المهني ومعرفته وكفاياته ومهاراته وقدراته المتنوعة، التي تشكل المدخل الفعلي للعملية التعليمية التعلمية. فالعملية التدريسية التي لا ترتكز على النقد الذاتي عملية ميتة محنطة في العادة والتقليد، لا تعرف للتطور أي معنى، ولا للجديد حضورا. وهي عملية تهاب المجهول وتخاف من المخاطرة، وبذلك هي جسد بلا روح.
والنقد الذاتي بكل بساطة عملية تقويم الذات والحكم عليها، أو على تصرفاتها، أو على أفكارها، أو على سلوكياتها، أو أدائها. إنها عملية تفكر في الذات بموضوعية قصد الوقوف على الإيجابيات والسلبيات؛ لاستثمار الأولى وتوظيفها استجلابا للنجاح والإنجاز العملي الأجود. ولتجاوز الثانية بتحويلها إلى فرص قابلة للاستثمار الإيجابي، فضلا عن فهم الذات والوعي بها ودفعها إلى مناطق التقدير والاحترام والفعل، وإلى تحسينها وتطويرها وتنميتها على مختلف المستويات والمناحي النفسية والاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والمهنية ... فالنقد الذاتي يؤدي إلى تفكير صادق وموضوعي عن أخطاء المدرس ونقاط ضعفه وأوجه قصوره وعيوبه وتحديات اشتغاله كأداء مهني. لا؛ كذات إنسانية. ومعرفة الأسباب والدوافع وغيرها. وفي المقابل يمكن النقد الذاتي المدرس من التركيز على إيجابيات ونجاحات وإنجازات فعله التعليمي والتدريسي، من أجل فهم واستيعاب مجمل العوامل والأسباب والشروط والمتطلبات، التي ساهمت في تلك النجاحات وساعدت في تحصيلها ونتائجها عند المتعلم أو الفعل ذاته، واستثمارها مستقبلا بشكل جيد ومتطور.
والنقد الذاتي عملية يمكن ورودها في سياقات مختلفة، وفي سيرورة زمنية ومكانية متنوعة وفق الهدف منها، فهي ترد في الحياة الشخصية أو المهنية أو الفنية أو الفكرية أو الأخلاقية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو التعليمية ... فهي أداة قوية بطبيعتها إن تمت بشكل موضوعي وعقلاني، وبطريقة متوازنة للتنمية الشخصية على مختلف المناحي واحترامها وتقديرها. كما هي وسيلة فعالة لتحسين الكفايات والقدرات والمهارات والمعرفة مقابل حل المشكلات، واتخاذ القرارات الواضحة والناجحة والمسؤولة. لكن النقد الذاتي غير الموضوعي والعقلاني وغير المتوازن والعاطفي السلبي يدمر المدرس، ويخفض احترام الذات وتقديرها والثقة فيها.
ـ بعضا من مصوغات النقد الذاتي في عملية التدريس:
ومن مصوغات ضرورة حضور النقد الذاتي في عملية التدريس نجد مثالا لا حصرا:
- تحسين الأداء التعليمي: يمنح النقد الذاتي للمدرس فرصة تقويم نفسه وأدائه بموضوعية بتحديد المجالات التي يمكنه تجويدها وتطويرها وتحسينها، بما فيها كيفية تقديم المواد الدراسية والمتن التعليمي، وإدارة جماعة القسم على مستوى الممارسة الصفية فعلا تدريسيا، وفعلا تواصليا، وفعلا اجتماعيا وثقافيا وفكريا، وتقويم أداء هذه الجماعة على مستوى جمعي وفردي تعلما ... وغير ذلك من المحطات المنهجية أو المعرفية أو الأدائية أو السلوكية. والوقوف على إيجابيات أدائه التعليمي وسلبياته بجانب الوقوف على نقاط الضعف والسلب لدى أفراد جماعة القسم حيث يمكنه العمل والاشتغال على هذه النواحي لينمي كفاءاتهم وكفاياتهم وتجويدها من أجل أن تصير أكثر فعالية ومردودية.
- التساوق مع حاجات واحتياجات أفراد جماعة القسم: يساعد النقد الذاتي المدرس على التساوق مع مطالب وحاجات واحتياجات أفراد جماعة القسم كل على حدة، على مستوى صيغتين منهجيتين؛ الأولى تضمين الدرس والأنشطة التعليمية التعلمية المشترك منها، وتفريد الأخرى في مرحلة قادمة أو الاشتغال من البداية بالبيداغوجيا الفارقية في الثانية. فالاشتغال على هذه التفردات والخصوصيات يمنح المتعلم/ة التعلم وفق سيرورة ذاتية تتوافق مع معطياته الذاتية المعرفية والمنهجية والأدائية والنفسية والاجتماعية ... وتمنح المدرس فحص أساليب التدريس الخاصة به والمنهجيات التي يوظفها في تدريسه، ومدى فعاليتها ونجاعتها وتلاؤمها مع المتعلم/ة، وقياس ردود أفعال هذا الأخير. ويمكنه تعديل ذلك من أجل تلبية مطالب وحاجات واحتياجات كل واحد منهم ضمانا لانخراطه في العملية التعليمية التعلمية بكل حافزية وحرية وفاعلية. وبذلك تنمو شخصية المتعلم/ة على مختلف الأصعدة والمستويات والجوانب حسب وتيرة التعلم لديه وكفاءته وكفاياته؛ فيكون من هنا النقد الذاتي مدخلا لتطوير الفعل التدريسي بجانب تطوير تجربة وممارسة المدرس والمتعلم معا.
- التطوير المهني الدائم للممارسة الصفية: حضور النقد الذاتي في الممارسة الصفية يطورها على ثلاث مستويات على الأقل؛ فهو على المستوى المعرفي يديم مجموعة علامات الاستفهام مفتوحة في وجه الحقول المعرفية المدرسة، بمعنى يسائل دائما المتن التعليمي والأنشطة التعليمية التعلمية والموارد من حيث جدتها ومسايرتها للتطورات الحاصلة في هذه الحقول المعرفية، ليناسبها مع أهداف وغايات الممارسة الصفية ومع معطيات المتعلم/ة المتنوعة ومع منتظراته، ومع المعطيات والمطالب المنهجية وغيرها ... وبذلك تجد المحتوى التعليمي ومضامينه مستجدة ومتطورة ـ وإن كان معطى المناهج الدراسية قارا ومستقرا وثابتا بحكم رسميته، ووروده في سياق السياسة التعليمية للدولة وتشريعاتها وقوانينها ـ فالمستجد يطوله من باب المدرس الباحث عن الجديد عبر النقد الذاتي لهذا المستوى. وأما على مستوى التعليمية " الديداكتيك " فالممارسة الصفية بالنقد الذاتي تقف على معرفة المنهجيات المناسبة لتدريس مختلف الموارد التعليمية بجانب معرفة العديد من التقنيات والاستراتيجيات التي تناسب المتعلمات والمتعلمين، وتحقق الأهداف التعليمية. بل، تطور بعضها وتبتكر البعض الآخر من خلال معرفة التجربة التي تكتسبها داخل حجرة الدرس والممارسة العملية مع المتعلم/ة. كما أن تتعرف على العديد من الاستراتيجيات الماوراء معرفية التي يسلكها المتعلمون والمتعلمات في تعلمهم، واشتغالهم المعرفي فضلا عن تجريب جديدها معهم. ما يمكنهم من معرفة مسالك تفكيرية عديدة تطور استراتيجياتهم الذهنية، وتفتح أمام آفاق التفكير بمختلف انواعه. كما يضبطون الخطوات المنهجية في أدائهم المدرسي، وتتكون لديهم عادة النظام والتنظيم في اشتغالهم العام وسلوكهم ... فهم يكتسبون التفكير المنهجي في حياتهم الخاصة والعامة. وأما على مستوى الأدوات والمعينات البيداغوجية وتكنولوجيا التعليم؛ فالنقد الذاتي يمكن المدرس من معرفة العديد منها التي تناسب متعلماته ومتعلميه، بجانب معرفة كيفية تشغيلها واشتغالها، مما يكون لديه معرفة تقنية وفنية بهذه الأدوات والمعينات والوسائل والتكنولوجيات؛ خاصة في هذا العصر الذي يعتمد عليها أساسا في كل شيء، حيث غزت التكنولوجيا ومنتوجاتها كل مجالات الحياة. فالمدرس الذي لا يمتلك ثقافة تكنولوجية ورقمية، هو نصف مدرس لم يكتمل بعد نصفه الآخر مهنيا، وعليه أن يلتمس التكوين الذاتي أو غيره في تكوين هذا النصف المفقود. فهذا المستوى الثالث له دور مهم في الحافزية واستقطاب المتعلم/ة للدراسة والتعلم ... ومنه يعد النقد الذاتي عنصرا أساسيا في التطوير المهني المستمر والدائم للمدرس عبر وقوفه على ماهية ممارسته الصفية في منحيها الإيجابي والسلبي، من خلال تحسين وتطوير الأداء الصفي ومداخله النظرية، وإبقائه على اطلاع مستمر على مستجدات التدريس، وتحبير تقدمه في مجالات تخصصه المعرفي، وفي مجاله المهني، وتشكيل أفضل الممارسات الصفية.
- تملك التعلم المستقل والمسؤول: يمكن النقد الذاتي المدرس من مساءلة ممارسته الصفية من أجل التعلم المستقل والمسؤول، الذي يتأسس على التكوين الذاتي حين يتعرف المدرس نقاط إيجابياته ونقاط سلبياتها ويعمل على استثمارها ومعالجتها، فيصير مستقلا في تكوين ذاته حسب متطلباته وخصوصياته ومعطياته الواقعية التي اكتشفها بنفسه. فيكتسب المدرس المعرفة والكفايات والمهارات والكفاءة من دون الحاجة إلى أستاذ يدرس مباشرة. ففيه يكون المدرس الناقد لذاته مستقلا، آخذا بمداخل تعلمه وتكوينه، وبمحطاته ومراحل تنظيمه وإدارته؛ فيكون بهذا التكوين قدوة وأسوة حسنة في التعلم الذاتي المستقل والمسؤول، يمكن نقل تجربته إلى متعلماته ومتعلميه ليتعلموا منها ويجربونها في ممارستهم التعلمية بتوظيف النقد الذاتي في تقويم أدائهم التعلمي، واشتغالهم المعرفي قصد تحسينه وتطويره وتجديده، فهو يمنح المدرس والمتعلم معا:
* الاستقلالية: من حيث مسؤولية المدرس والمتعلم/ة عن تعيين أهدافهما التعليمية التعلمية، واختيار مضمون ومحتوى ومصادر العملية التعليمية التعلمية واستراتيجياته وتعليميته ومعيناته البيداغوجية وأدواته، وهندسة وتخطيط هذه العملية نظريا وعمليا وإجرائيا مع تحديد زمنها ومكانها ...
* التحفيز الذاتي: في التعليم المستقل والمسؤول يكون المدرس والمتعلم/ة لديهما حوافز ودوافع جوهرية ورئيسة في التعلم والتكوين، وفي تطوير مهاراتهما وكفاياتهما وقدراتهما ومعارفهما.
* المرونة: يمكن التعلم المستقل والمسؤول المدرس والمتعلم/ة معا من التكوين والتعلم وفق المعطيات الذاتية، وفي أي مكان وزمان يريدانها. وفي أية بيئة تكوينية وتعليمية يحددانها سواء رسمية كانت أو غير ذلك. فالتعلم المستقل والمسؤول يمنح المدرس والمتعلم/ة على السواء مرونة في هندسة التكوين والتعلم وتنفيذه وتحصيل أهدافه.
* استخدام الموارد المتنوعة: يمنح التعلم المستقل والمسؤول المدرس والمتعلم/ة مساحة واسعة لاستخدام مجموعة متنوعة من الموارد الداخلية والخارجية في التكوين والتعلم، من قبيل التجربة والخبرات والأحداث، والكتب والدورات التدريبية عبر الإنترنت، ومقاطع الفيديو، والبرامج التعليمية والتكوينية، ومنتديات المناقشة، والذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك من الموارد، لاكتساب المعرفة والمعرفة المهنية وكيفيات الاشتغال وطرق الأداء.
* التكيف: يتيح التعلم المستقل والمسؤول للمدرس والمتعلم/ة فرصة تكييف وتيرة التكوين والتعلم مع حاجاتهما واحتياجاتهما الشخصية ومتطلباتهما. مما يؤدي إلى التكوين والتعلم وفق وتيرة الشخص وقدراته ومهاراته وكفاياته، وفي المجالات التي تشكل حاجة له، ومطلب رئيس لاستكمل سحنته الشخصية. وفي هذا التكيف تتحقق البيداغوجيا الفارقية؛ ما يحدث تكوين وتعلم أسرع عند البعض دون البعض الآخر في مجال معرفي أو مهني معين، وبدرجات متنوعة في ذلك.
* التقويم الذاتي: في التعليم المستقل والمسؤول يمكن للمدرس والمتعلم/ة تقويم أنفسهم واشتغالهم ذاتيا بطرق موضوعية وعلمية؛ تعلن عن درجة ونوع فهمهم واستيعابهم واكتسابهم للموارد المرصودة والمستهدفة، ومدى تقدمهم في بناء كفاياتهم الشخصية، من أجل تحقيق أهداف التكوين والتعلم الخاصة بهم.
ومنه؛ فالنقد الذاتي يمنح المدرس ومتعلماته ومتعلميه هذه الخصائص والمميزات مقابل تمكينهم من الحكم على اشتغالهم المدرسي على مستويات متنوعة بدء من المعرفة وانتهاء بالأداء التعلمي، استجلابا لجودة الأداء التعليمي التعلمي.
ـ الوقاية من الركود: مع النقد الذاتي توجد الحياة ويتدفق التجديد والتطور في الممارسة الصفية تعليما وتعلما، ذلك أنه يمنع المدرس من الركون إلى العادة والروتين والتقليد والركود في مداخل العملية التعليمية التعلمية المتنوعة هندسة وتخطيطا وتنفيذا، فهو دائم التساؤل عن ممارسته الصفية؛ ما يمنحها فرص التجدد والتطور، وبذلك تنأى عن الركون والسكون. فالسكون والركون للعادة والمعتاد والروتين يقتل الفعل التعليمي التعلمي لأنه يمنع عنه الجديد من معرفة واستراتيجيات تعليمية وأساليب وطرق ومنهجيات ونظريات مستجدة في الحقول والمجالات المعرفية المدرسة. ويقتل الطموح عند المدرس والمتعلم/ة معا ... فالنقد الذاتي يدفع المدرس والمتعلم/ة معا إلى التشكيك في ممارساتهما، وإلى تجريب استراتيجيات وطرق ومنهجيات وأساليب جديدة في التكوين والتعلم، ما يبقي على شغف التكوين والتعلم عندهما مهنيا وتربويا وبيداغوجيا.
ـ التقويم الموضوعي والأداتي: يتيح النقد الذاتي للمدرس والمتعلم/ة معا تقويم أدائهما أداتيا وذاتيا، مبنيا على معايير ومؤشرات موضوعية وعلمية قابلة للقياس وإعادة الإجراء؛ مما يحصلان على نتائج وأحكام أكثر موضوعية لمنتوجهما المتنوع. فالتقويم الموضوعي والأداتي يجنبهما الذاتية والاستغراق في العواطف والتحيزات الشخصية والقرارات الخاطئة المبنية على البيانات والحقائق المغلوطة عن الذات وأدائها. ويتيح لهما فرصة التحقق من معطياتهما عمليا وبأدوات قياسية مؤشرة، وموضوعية لا تنحاز ولا تميل إلى مجاملة الفرد. وإنما تعري عليه كذات وفعل وسلوك. لذا فالتقويم الذاتي غالبا لا يغالط الشخص مهما كانت منزلته أو دوره.
ـ نحو الختم:
يعتبر النقد الذاتي جزءا أساسيا من التطوير المهني للمدرس، ولجودة التعليم والتعلم. فهو يساعد كل من المدرس والمتعلم/ة على التحسن والتطور والتجدد الدائم والمستمر، ويعمل على تكييفهما مع حاجاتهما واحتياجاتهما، وإبقائهما متحفزين ومنخرطين في التدريس التعلم بتعزيز بيئة التدريس والتعلم بتوفير المتطلبات والشروط والظروف المناسبة لفعلي التدريس والتعلم، وتشجيعهما على التفكير في مهامتيهما، والسعي باستمرار وعلى الدوام إلى تطويرها وتحسينها وتجديدها بالمستجد العلمي والمهني والتكنولوجي والتقني فضلا عن المستجد في العلاقات البينية والبعد الإنساني والأخلاقي. فذلك يعزز تطوير التوجيه الذاتي، وحل المشكلات، ومهارات التعلم مدى الحياة التي أصبحت مهمة جدا في عالم دائم التغير والتبدل والتجدد بوتيرة متسارعة؛ عالم التعلم الإلكتروني والدراسة الذاتية والذكاء الاصطناعي.
***
عبد العزيز قريش