قضايا
هكذا فهمت الرسول محمد في القران (3)
تطرقنا في الحلقة السابقة كيف كانت الشخصية المحمدية تمتلك قابليات فطرية وأخلاقية كبيرة ساهمت في أختيار القدرة الألهية له كنبي مرسل للبشرية كافة (وما أرسلناك الا كافة للناس)(سبأ:28)، ولكن هذه القابلية لم تكتفي القدرة الألهية بها لأتمام المهمة الرسالية، فالبيئة الأجتماعية والظرف التاريخي الذي عاش فيه الرسول يضفي بظلاله، ويترك بصماتهِ عليه، وهذه مسألة بديهية لايفلت منها احد من البشر، لذا لم تتركه عين الله في رعايته له، والتوجيه بأعداده (وأصبر لحكم ربك فأنك بأعيننا وسبح بحمد برك حين تقوم)(الطور:48) . فكما هو معلوم أن سياقات التربية والتعليم تتضمن التوجية، والتنبيه، والتحذير، وأحياناً التقريع والتهديد، ولو ننظر في القرآن لوجدنا هذه المفردات لها حضور في توجيه الله له، فمثلاً نجد تحذير الله واضح لنبيه في هذه الآية (ولئن اتبعت أَهواءهم بعدما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واقٍ)(الرعد:37)، كما أن توجيهات النهي له من الله في أكثر من آيه (ولاتطع المكذبين....ولاتطع كل حلاف مهين)(القلم:8،10) و (ولاتصل على أحد منهم مات أَبداً ولاتقم على قبره.....)(التوبة:84) كذلك (ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون)(النمل:70)، كما نجد نداءات التنبيه له من الله كثيرة، وتأتي على هيئة ياء النداء، مثل (يا أيها النبي اتقِ الله ولا تطع الكافرين والمنافقين) (الأحزاب:1) و (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أَزواجكوالله غفور رحيم)(التحريم:1) و (يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال)(الأنفال:65) (ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك..ز(المائدة:67) (ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم...)(التوبة:73)، كما نلاحظ صيغ التنبيه للنبي من الله بصيغ فعل الأمر، وارده بأكثر من مكان في آيات القرآن، ومنها (فأعرض عنهم....)(النساء:73)
فأصدع بما تؤمر...)(الحج:94)
(وأصبر على مايقولون وأهجرهم هجراً جميلاً)(الزمل:1)
(خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين)(الأعراف:199)
(قم وجهك للدين حنيفاً ولاتكونن من المشركين(يونس:105) حيث في هذه الآية تجمع الأمر والنهي معاً، يتضح من هذه الآيات، وهذا الأسلوب من الأمر والنهي بصيغ ذات بُعد تعليمي، حيث نلاحظ هناك جدلية من الفاعلية الألهية والمفعولية الرسولية المحمدية .
كما يمكننا بعد ذلك الأنتقال الى صيغة قرآنية تبدأ جملتها بقل، وهذه الصيغة تكشف عن بعدين، البعد الأول هو التوجيه والأرشاد الألهي للرسول، وبدوره يبلغ الناس بها، وهذه هي مهمة الرسول في وظيفة التبليغ والتبشير، كما ان هذه الصيغة تكشف لنا أن الله هو القائل وليس الرسول، والرسول ليس عليه الا البلاغ المبين، وهناك عدة آيات تبدأ بكلمة قل، الذي يكون فيها القائل الله، والمخاطب اليه الرسول، الذي بدوره يمررها الى الناس الموجه لهم الخطاب، ومنها الأتي:
قل لا أَقول لكم عندي خزائن الله (الأنعام:50)
قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً الا ماشاء الله (الأعراف:188)
قل انما أنا بشر مثلكم يوحى الي (فصلت:6)
قل اني أُمرت أن أكون أول من أسلم (الأنعام:14)
قل أنما أمرت أَن أعبد الله ولا أشرك به (الرعد:37)
وكما قلنا أن الرسول خضع للأعداد الألهي بكل الطرق والأساليب التي تطرقنا لبعضها من صيغ الأمر، والنهي، كذلك لم تخلو من التنبيه الشديد، الذي يقترب من لغة التهديد، والآية القرآنية التالية واضحة في ذلك ( ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك ثم لاتجد لك به علينا وكيلاً)(الأسراء:86) هذه الآية وغيرها من الآيات كما الذي جاء في آية ( ياأيها النبي بلغ ما أُنزل أليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته) لتدل دلالة واضحة، تضع حد لقول البعض بأن القرآن من وحي محمد (ص)، وأنه منتوج ثقافته بل نجد في آية قرآنية ترد به على هذا الأفتراء الذي ينسب فيه النص القرآني الى محمد ( قل ان افتريته فلا تملكون لي من الله شيئاً)(الأحقاف:8) . كما هناك أحداث وقعت تدل دلالة واضحة على بشرية الرسول، وما قد يتعرض له من حالات تلامس ما مألوف من طبائع ذلك المجتمع عند التفاعل معهم في مسائل أستدراجهم للدين الجديد، فنراه وقد كاد أن يستجيب لطلب ثقيف، حين طلبوا منه أن يؤجلهم سنة لكي يتمتعوا باللات وأن لا يأخذ عشور الأموال، ولايسجدوا في صلاتهم ولايكسوار اللات عند رأس الحول ... وقالوا له أذا سألك العرب، فقل لهم أن الله أمرني بذلك، وكاد الرسول أن يقبل بعرضهم هذا أملاً بأستدراجهم الى الأسلام في العام القادم، وأن المسألة مسألة وقت، ولعل هو أبن هذا المجتمع وأرتأى بأن هذا الأسلوب يُلين به قلوبهم، ولكن الله لما عَلم ما في نفس الرسول، أنزل عليه آية ( وان كادوا ليفتنوك عن الذي أوحينا اليك لتفتري علينا غيره ...)(الأسراء:73)، فهنا أُلغِت الأراده المحمدية أمام أرادة الله، وصَرف الرسول ما في نيته، وما هم به، وفُرضت أرادة الله بأعتباره هو الآمر، ومحمد هو المأمور، ولا أرادة فوق أرادة الله، وكما أسلفنا أعلاه بأن عين الله هي الراعية، وأرادته هي الطاغية وهي من تسير الرسول، وقد وضحتها الآية الكريمة ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن اليهم)(الأسراء:74)، وقد نقل الواحدي هذه الرواية عن ابن عباس، والذي ذكرها الطبري في جامع البيان في تأويل القرآن ج17، ص508، ويُذكر أن النبي قال بعد نزول هذه الآية (اللهم لاتكلني الى نفسي طرفة عين)(جامع البيان في تفسير القرآن:ج15،ص69-71، من هذا لايبقى شك في رعاية الله وحماية الرسول في المسيرة التي خطها الله له في تبليغ رسالته، وأن رعاية الله له كالغمامة تسير فوق رأسه، تحميه من أحتمالات الزلل .
فالقرآن الكريم يرسم بوضوح تام مهمة الرسول (ص) ويحدد وظيفته في النقل والتبليغ، ولا مصدر للأجابة الا الله، حيث الناس تسأل والله يُجيب على لسان النبي ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج )(البقرة:189) و (يسألونك ماذا ينفقون...)(البقرة:215) و (يسألونك عن الخمر والميسر...(البقرة:219 ) و(يسألونك عن المحيض....)(البقرة:222 ) و(يسألونك ماذا أحل لهم ..)(المائدة:4 )، وهناك آيات تأتي بصيغة الأستفتاء مثل (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم ....)(النساء:127) فنلاحظ أن هناك سائل وهو الناس، وهناك مجيب وهو الله، وأن الرسول واسطة في هذه العلاقة (ان أتبع الا مايوحى اليَّ)(الأنعام:50)..يتبع
***
أياد الزهيري