قضايا
طه جزّاع: مع الأسف
بين آونة وأخرى، تتناقل الصحافة ووسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أخباراً عن قيام بلديات بعض المدن التركية بحملات لإزالة اللافتات المكتوبة باللغة العربية من واجهات المطاعم والمحال التجارية ومكاتب الترجمة القانونية المُجازة التي قد يمتلكها أو يديرها العرب، وهم في الغالبية العظمى من السوريين، أو أنها تستخدم اللغة العربية في المدن التي يسكنها الآلاف من العرب لأسباب شتى بين لاجئين ومتوطنين ومقيمين وسُيَّاحاً عابرين، وعادة ما تثير مثل هذه الحملات الكثير من التساؤلات عن دوافعها وأسبابها، فهناك من يعدها أمراً طبيعياً ينسجم مع قانون البلديات التركي الذي يحظر رفع اللافتات المكتوبة بلغات أخرى غير التركية، بما في ذلك العربية والإنكليزية، وهناك من يحملها وزر العنصرية القومية وخصوصاً في المدن التي يهيمن العلمانيون على بلدياتها، بل ويدرجها ضمن اعمال هستيريا الإسلاموفوبيا التي تجتاح العالم الغربي، وتعبر عن نفسها بمظاهر شتى من التطرف العنصري والعدوانية والكراهية المقيتة.
والحقيقة أن قضية اللغة العربية في تركيا تكتسب أهمية خاصة، ذلك لأنها ترتبط بالهوية الإسلامية لهذا البلد المتأرجح بين العلمانية التي أرسى قواعدها مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، وبين صحوة إسلامية شعبية جارفة أوصلت منذ ستينيات القرن الماضي عدنان مندريس رئيس الحزب الديمقراطي إلى سدة الحكم مدعوماً من الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان المقارع البارز للعلمانية، غير أن هذه التجربة تعرضت إلى انتكاسة خطيرة بعد الانقلاب العسكري الذي أجَّل إلى حين حلم الإسلاميين بوصولهم أو وصول الأحزاب القريبة من توجهاتهم إلى تولي زمام الأمور في تركيا وتعزيز هويتها الإسلامية. لقد خرج مندريس من معطف أتاتورك وخليفته عصمت إينونو، لكنه اتخذ اتجاهاً مخالفاً لاسيما في التعامل مع الهوية الإسلامية لتركيا، إذ قرر إعادة رفع الأذان باللغة العربية، واعادة افتتاح المساجد، وسمح بتعلم العربية وتشجيع مدارس تحفيظ القرآن ومعاهد تخريج الخطباء والوعاظ، وكانت مثل هذه الخطوات كفيلة بانقلاب الجيش عليه يوم السابع والعشرين من أيار 1960 وتقديمه للمحاكمة بتهمة العمل على تغيير الهوية العلمانية لتركيا، والحكم عليه بالإعدام شنقاً حيث تم تنفيذ الحكم في أواسط أيلول 1961. لكن وبعد أقل من ثلاثة عقود تم رد الاعتبار الى مندريس ورفاقه تزامناً مع الذكرى التاسعة والعشرين لإعدامهم وتم نقل جثمانه مع جثامين وزيريه فطين رشدي وزير الخارجية، وحسين بولاتكان وزير المالية من مثواهم في جزيرة ياسي أظه إلى ضريح أقامته بلدية إسطنبول في منطقة توب كابي، مع صدور قانون رد الاعتبار لهم في عهد الرئيس توركت أوزال، والاقرار بأن التهم التي وجهت اليهم كانت ظالمة. وأصبح هذا الضريح من الأماكن التي يزورها كبار المسؤولين في المناسبات الوطنية للترحم على مندريس ورفاقه الذين علّقهم العسكر على مشانق العلمانية، وهو مشهد ربما كان سيتكرر ثانية في تاريخ تركيا، لو قُدِر للانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا في 15 تموز قبل تسع سنوات أن ينجح، ولولا التصدي الشعبي الواسع للانقلابيين في شوارع إسطنبول، وأولها شارع وطن بالقرب من ضريح مندريس، دفاعاً عن الديمقراطية.
يظن الكثير من الأتراك والمؤرخين والباحثين في التاريخ السياسي التركي أن عدنان مندريس قد دفع ثمن توجهاته الإسلامية التي جسدها في عدة إجراءات اعادت إلى اللغة العربية اعتبارها، وهذا أيضاً ما دأبت عليه الحكومة التركية منذ العام 2002 بصعود حزب العدالة والتنمية مُمثلاً بالرئيس رجب الطيب أردوغان السائر على طريق مندريس وأربكان، والذي عبّر في أكثر من مناسبة عن اعتزازه بلغة القرآن، واتخذت حكومته على مر السنوات الماضية خطوات مهمة لتعزيز مكانتها، والتشجيع على تعلمها، وافتتاح المزيد من المدارس الدينية ومعاهد ودورات حفظ القرآن الكريم. لذلك فإن المرء ليصاب بالحَيرة من تلك الحملات المتكررة لإزالة اللوحات التجارية المكتوبة باللغة العربية. علماً أن اللغة التركية، تحتوي على 6463 كلمة عربية كما احصاها المعجم التركي، وتزيدها مصادر أخرى إلى أرقام أعلى من ذلك. وفي دراسة حديثة أنجزها الباحث آية نصر محمد ما يؤكد:» أن تأثير اللغة العربية في اللغة التركية كبير، وذلك يعود إلى وحدة الدين. فاعتناق الأتراك للإسلام جعلهم يتأثرون بالثقافة الإسلامية، إذ نرى أن تمسك الأتراك باللغة العربية، لغة القرآن والأذان والصلاة، جزءاً من التكوين الثقافي للمجتمع التركي». كما يشير الباحث إلى أن اللغة التركية اقترضت من اللغة العربية كلمات كثيرة سواء استخدمت باللفظ والمعنى نفسه، أو أنها اختلفت في المعنى، أو أضيفت لها معانٍ جديدة في اللغتين العثمانية القديمة أو التركية الحديثة.
ومع ذلك، فإن إزالة لافتات مكتوبة باللغة العربية مثير للشجن، والأمر لن يكون هكذا بالطبع لو أزيلت لافتات باللغات الإنكليزية أو الفرنسية أو الألمانية، أو غيرها من اللغات، لأن ذلك لا يمس المشاعر الدينية ولا يتحدى الهوية الإجتماعية، ولن يكون مؤشراً على علمانية الدولة أو إسلاميتها، كما أنه لا يجعل التركي المؤيد لذلك متناقضاً مع هويته وهو محاط بالحروف العربية على واجهات القصور والمساجد والأضرحة والحمامات والأسواق التراثية العثمانية وأروقتها واقواسها وعلى شواهد القبور في كل مكان، فهل عليه أن يقتلع كل تلك الآثار النفيسة الشاخصة لأنها تحمل حروفاً عربية ؟.
لا يملك المواطن التركي المتصالح مع نفسه وتاريخه وهويته وثقافته، إلّا أن يقول وهو يشاهد مثل هذه الأعمال : Maalesef، وترجمتها إلى اللغة العربية : مع الأسف!.
***
د. طه جزّاع