قضايا
التاريخ والانسانوية الجديدة
ان الوعي التاريخي وما يصاحبه من معرفة الذات يبيّن الوضع الذي اصبح فيه الانسان، وما صنع لنفسه، ليس من خلال أعماله وانما ايضا وما هو أهم، من خلال التأمل بما كان عليه. هذه الملامح مجتمعة تشكل اساس الانسانوية الجديدة، تشجعنا للالتفات رجوعا والى الداخل بدلا من الى الامام والخارج في البحث عن الحقيقة، الواقع، والمعنى، وتدعونا اخيرا لمواجهة أنفسنا.
1
لا شيء يستمر الى الأبد. هذه الملاحظة السطحية، تلخص الفلسفة الحديثة للتاريخ. بالنسبة لطريقة الفهم الحديثة للاشياء، كل شيء – الطبيعة، الكون، الانسانية ذاتها – هو عابر وفي بعض النواحي سريع الزوال.
الكائن البشري يبدأ يموت من اللحظة التي يولد فيها. هم ليسوا اناس من بين أشياء خالدة. الأمر كان مختلفا بالنسبة لليونانيين. الفكرة اليونانية القديمة أكدت على الديمومة، كان اللامتغير والأبدي هو الذي أسر وشحذ الخيال اليوناني. بالنسبة لليونانيين الكون يتغير داخليا ضمن ذاته، يجسد الدورات اللامتناهية للعود الأبدي. السكون وليس الحركة هو المثال اليوناني. اليونانيون قيّموا الطبيعة اكثر من تقييمهم للتاريخ، لأن الطبيعة كانت دائما وستبقى كائنة. الطبيعة كانت أبدية. انها لم تأت للوجود ولن تموت. لم يخلقها الناس ولا الآلهة . على الأغلب، آلهة الاولمب سيطروا على الطبيعة وحوّلوها لأهدافهم. بالمقابل، الموت ميّز الوجود الانساني – خلافا للكون الدائري، حياة الانسان كانت خطّية، تتحرك بلا هوادة من الميلاد الى الموت. فعل الانسان عكّر هدوء الطبيعة والكون، وأزعج هدوء الوجود الأبدي.هذه الاضطرابات كانت موضوع التاريخ. بعض الافعال والأحداث، مع انها، غير تامة ومتناهية، لكنها كانت استثنائية ولهذا استحقت التذكر. هذه المآثر الجديرة بالملاحظة انجزت بالتالي نوعا من الخلود الفاني. في التواريخ، اوضح هيرودوتس ان الهدف من تحقيقاته كان "لمنع ان تُمحى آثار الأحداث الانسانية بمرور الزمن ،ولتُحفظ شهرة الانجازات الهامة المنتجة من قبل اليونانيين وغير اليونانيين". (1) بدون هذا التذكّر،سوف تتلاشى كلمات وأعمال الكائن البشري دون ان تترك اثرا. الطبيعة حققت الدوام بواسطة الطبيعة، الناس كان عليهم الصراع والمعاناة لتحقيق الديمومة، لو انهم تمنّوا، حتى للحظة عابرة ورغم فنائهم ، ليكونوا مستحقين للوجود – ذوي قيمة في كونهم ولدوا أصلا. المهمة الرئيسية للمؤرخ كما يعترف هيرودوتس كانت تسجيل هذه الافعال (تسجيل كان في ذاته فبركة من صنع الانسان) لكي تستمر في الذاكرة.
المفارقة الرئيسية في الفكر اليوناني وأصل سمته المأساوية، هي ان العظمة تتطلب ديمومة بينما كل أفعال الانسان، لايهم كم هي استثنائية، تحدث وتختفي في زمن. أعمال الانسان اليدوية سريعة الزوال وبالنهاية هي غير مجدية. لهذا فان الأعمال البطولية والكلمات العميقة من النوع الذي يضفي شهرة خالدة لا يمكن ان تكون طموحا انسانيا هاما او انجازا. بدلا من ذلك، وطبقا للفكر اليوناني بعد افلاطون، ان الحياة الجيدة هي الحياة التأملية. عالم الفعل هو في مرتبة أدنى من عالم الذهن. اثناء القرن التاسع عشر، سعى المؤرخون لتكون الموضوعية هي المساوي لما وجده اليونانيون في الديمومة. الموضوعية أنتجت حقيقة ثابتة لا تقبل الشك لذا زعم المؤرخون مثل ليبولد فون رانك انهم يمكنهم كتابة التاريخ "كما حدث بالفعل". وخلافا للعديد من أتباعه اللاحقين الأقل ذكاءً، لم يقصد رانك ان يقوم المؤرخون بتجميع عدد هائل من الحقائق تمكّنهم من إنتاج نسخة طبق الأصل من الماضي، تاريخ موضوعي كما تمنى لورد اكتون ان يمنحه كل فرد موافقة عالمية. حسب رؤية رانك ان هذا المشروع كان غير مرغوب فيه او مستحيلا. "هؤلاء المؤرخون خاطئون"، هو كتب،"اللذين ينظرون للتاريخ ببساطة كتراكم هائل لحقائق معينة،تُلزم المرء الاحتفاظ بها في الذاكرة"(2). التقييم النقدي والمنهجي للوثائق الأصلية هو وحده مكّن المؤرخين من تنظيم الحقائق بطرق هادفة ذات معنى، وتجسيد الوحدة في الاحداث المتباينة ودعم الحقيقة بالدليل. اتجاه رانك الإبداعي شجع دراسة الماضي بظروفه الخاصة وليس فقط عرض سردي للسلطة المؤسسة، مبدأ اورثودكسي او نظام دوغمائي، سواء كان أدبي، سياسي، ثيولوجي، او فلسفي. وبعيدا عن جعل التاريخ اكثر علمية وموضوعية، كان تصميم رانك لإعادة بناء ما حدث فعلا في الماضي قد فصل دراسة التاريخ عن دعائمه الفكرية وتركه حساسا لمختلف المصالح السياسية المتنافسة. تلميذ رانك للقرن العشرين فردريك مينيك، حدد الضعف الابستيمولوجي الذي أصاب تفكير رانك والذي استمر يُثقل المؤرخين. اعترف مينيك، ان دراسة التاريخ، مالت لجعل كل القيم غير دائمة ونسبية وحتى عشوائية. وطالما لا عقيدة يمكن ان تكون مطلقة وعالمية ولازمنية،فان اولئك الذين يميلون للقيام بهذا يمكن ان يستعملوا الماضي لتبرير وتعزيز قضيتهم. الجهد لتحويل التاريخ الى علم محايد وموضوعي برز جزئيا من الرغبة المفيدة لعزل دراسة الماضي عن الخلافات الايديولوجية للقرن التاسع عشر. في ذلك الجو المشحون سياسيا، حتى المؤرخين الموهوبين لا يستطيعون دائما مقاومة إغواء الإنغماس في النشاط الحزبي او وضع العلمائية التاريخية في خدمة العقيدة السياسية.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأ غالبية المؤرخين بربط التاريخ بالعلوم الطبيعية. العقيدة بان دراسة الماضي تقارب الان دراسة الطبيعة كانت منتشرة جدا لدرجة ان بروفيسور التاريخ الحديث في كامبردج وفي كلمة افتتاحية له ألقاها عام 1902 قائلا ان J.B.Bury زعم ان "التاريخ كان حقا متوجا وممتازا بين العلوم، لكن الطبيعة الخاصة لتأثيره، وارتباطه العريق بالادب،والظروف الاخرى، عملت كنوع من الغيوم حجبت جزئيا عن عيون الناس موقعه الجديد في السماوات" (3). وتحت تأثير الوضعية، كان المؤرخ هنري توماس بوكل يطمح لتمييز نماذج موحدة غير متغيرة للوجود الانساني، تماما كما يزعم العلماء سبر أغوار تصميم الطبيعة وتكوين الكون. المؤرخ هنري توماس بكل (1821-1862) أصر على ان المؤرخين ليس فقط لم يجعلوا الماضي مفهوما وانما ايضا لم يجعلوا امكانية للتنبؤ بأحداث المستقبل ، وهو يمكن ان يتحقق لو فهموا المخطط الذي قدمه الماضي. خمولهم وعدم كفائتهم حال كثيرا دون خلق علم حقيقي للتاريخ.
بالنسبة لبكل وأشباهه من المؤرخين، لا توجد مشكلة فوق الحل. لا أسرار قاهرة حول أساطير اربكت الذهن العقلاني. الكون كان شفافا. افكار حول الواقع كانت يمكن التفكير بها موضوعيا وحازت على يقين الرياضيات. لا شيء كان غامضا. الذات والموضوع كانا منفصلين راديكاليا ومتميزين،كما في حالة الروح والجسد، الذهن والمادة. الاستنتاج الكمي حرر العقل من الخطأ والخرافة، جاعلا الكائنات البشرية، كما استنتج ديكارت قبل قرنين، "هم السادة ومالكو الطبيعة"(4). علوم القرن العشرين ذاتها حطمت ضمانات الموضوعية ودقة خصائص الفكر التاريخي والعلمي المبكر. وبعيدا عن تأكيد عمليات الكون طبقا لعدد من قوانين الطبيعة والمبادئ الرياضية، فان الفيزياء التي ساهمت بنظرية الكوانتم هدمت افكار الموضوعية العلمية، والثبات، واليقين. لاحظ ويرنر هيزنبيرج بان:
"النتيجة الجديدة الأعظم أهمية للفيزياء النووية كانت الإعتراف بإمكانية تطبيق انواع مختلفة جدا من قوانين الطبيعة، بدون تناقضات، على نفس الحدث الفيزيائي. هذا يعود الى حقيقة انه ضمن نظام من القوانين التي ترتكز على افكار اساسية معينة فان طرق محددة جدا في طرح الاسئلة هي فقط منْ يجعل هناك معنى، وهكذا،ان مثل هكذا نظام هو منفصل عن الأنظمة الاخرى التي تسمح بطرح مختلف الأسئلة. (5)".
العلوم، على العكس، بدلا من تقديمها وصفا موضوعيا للواقع، كانت ذاتها نتاجا للذهن الانساني والخيال. أغلب العلماء الأصليين اعترفوا بهذه الحقيقة. في (الفيزياء والفلسفة)، أكد هيزنبيرج ان "العلوم الطبيعية لا تصف وتوضح فقط الطبيعة، انها جزء من التفاعل بين الطبيعة وأنفسنا، ما نلاحظ هو ليس الطبيعة ذاتها، وانما الطبيعة منكشفة لطريقتنا بالسؤال". نظيره الدانيماركي نيل بوهر حذر بنفس الطريقة بانه "من الخطأ الاعتقاد ان مهمة الفيزياء هي اكتشاف كيفية عمل الطبيعة. الفيزياء تهتم بما نستطيع قوله حول الطبيعة"(6) . الفيزيائيون النظريون مثل هيرزنبيرج وبوهر أهملا التعاريف الضيقة مفضّلين الإحتمالية والتدفق والتحوّل. هما استبدلا العلاقات بما هو مطلق، راضون بالنسبية، اللاتقريرية، ودرجات الحقيقة.
فيما اذا كان خطأ الموضوعية في العلم او في التاريخ، كان ان نتوقع الأجوبة بدون اسئلة، وفي الحقيقة، بدون سائل. الأجوبة التي يعطيها العلم والتاريخ هي ليست الاّ إجابات لأسئلة يسألها العلماء والمؤرخون. الحقائق لا تتحدث ابدا عن نفسها، او على الاقل هي لا تعطي معنى بدون ان يكون هناك جهد للانسان لتنظيمها والتأمل فيها وتفسيرها. لو ان فيزياء الكوانتم تقدم مرشدا، فان دراسة التاريخ، كما في دراسة الطبيعة والكون، هي فعل خلاّق للخيال،رغم انه يسعى لتوسيع وتعزيز فهم الواقع. "هو ليس انا من يتحدث " حسب قول فوستل دي كولانغ لطلابه، "وانما هو التاريخ الذي يتحدث من خلالي. اذا برزت فلسفة معينة من هذا التاريخ العلمي، هي يجب ان يُسمح لها لتنشأ طبيعيا، من تلقاء نفسها، دائما ولكن بشكل مستقل عن رغبة المؤرخ"(7).
في خطابه الافتتاحي كرئيس للمؤسسة التاريخية الامريكية عام 1931،اعترض كارل بيكر. مهما كان المؤرخ مجتهدا ودقيقا في إعادة تأكيد حقائق التجربة الانسانية بدون ان يقوم بنفس الوقت بتفسيرها سوف ينتج قائمة او كتالوك لتحقيب تاريخي جيد للأحداث وسوف ينجح فقط في حرمان التاريخ من أي اهمية."الأمل بالعثور على شيء بدون البحث عنه"، اشتكى بيكر،"يتوقع الحصول على أجوبة نهائية لألغاز الحياة عبر الرفض الحازم لطرح اسئلة – انه (علم تاريخ موضوعي) كان اكثر انواع الواقعية رومانسية اختُرع حتى الآن، اكثر شذوذا من أي محاولة في أي وقت مضى للحصول على شيء لأجل لاشيء"(8).
الموضوعية تنطوي على الحيادية، عدم المقدرة او عدم الرغبة لعمل أحكام، او منح الشكر او اللوم، او لطرح استنتاجات. انها تقدم رتابة الأحجار، وليس التغيير في الانسان. انها ترقى في النهاية الى انقراض الذات.
2
الوعي التاريخي لا ذاتي ولا موضوعي وانما هو حسب صياغة جون لوكاس "شخصي ومشارك". ان الانقسام بين الذاتي والموضوعي، سوء الفهم بان المعرفة التاريخية والحقائق توجد، او يمكن ان توجد، خارج الذهن، يقود الى نوع من الحتمية هو بالحقيقة مستند عليها: ضمان ان المؤرخين من مختلف انواع التعليم والأمزجة والقوميات والثقافات والرؤى سوف يصلون الى استنتاجات متشابهة حول الماضي. الأحكام التاريخية ليست ذاتية. الكائن البشري ليس معزولا، المخلوقات المنعزلة لايمكن الوصول الى افكارهم . هم يعيشون في علاقة مع ناس آخرين. كذلك، معرفة الانسان بشكل مجزّأ، اختياري، وغير دقيق، مهما كانت، هي لن تكون عامة ابدا، مجردة وغير دموية. اثناء العصر الحديث ربما اصبحت معرفة الانسان بالانسان اكثر ذاتية ولكن في نفس الوقت اصبحت اكثر تاريخية.
ان مفهوم التاريخ الموضوعي مفيد فقط لو كان التأريخ يمكن التأمل به ككل، بداية، ونهاية، ومعناه معروف سلفا. نحن لانزال نميل للخلط بين "الحيادية" الميل لفحص كلا جانبي القضية والاعتراف بانجاز اليونان والبرابرة على حد سواء كما فعل هيرودوتس، و"الموضوعية".
ربما "الثنائية" duality هي افضل كلمة تدل على القدرة على افتراض وجهات نظر متعددة كي نرى الحياة والعالم من زوايا مختلفة . لكن هذه التعددية في الرؤى تنطوي على تعددية في الحقيقة. انها تتطلب من الكائن البشري ان يفهم اولئك الذين يختلف معهم ويتعلم النظر الى نفس العالم من زوايا نظر مختلفة. هناك بعض المهمات الشاقة والمؤلمة خاصة في عصر التحزب الذي يعتبر التنوع ذاته غير مقبول.
ان مشكلة الموضوعية والثنائية في التفكير التاريخي لم تنشأ بالطبع في الكراهية الحزبية لزماننا. انها نشأت من ثلاث تطورات تجذرت في تاريخ الحضارة الغربية:
1- ظهور المسيحية جعل من المستحيل قبول الرؤى والحقائق المتعددة. رغم ان الصراعات الدينية التي مزقت اوربا خلال القرنين 16 و17، لكن المسيحيين في كل مكان قبلوا بان الحقيقة الدينية كانت واحدة وجسدت كلمة الله .
2- ان سيادة المصلحة الذاتية في الفلسفة السياسية الحديثة كانت تعني ان الاستعداد للاشتراك برؤى متعددة في وقت واحد قد لا يشكل ابدا اساسا للنظام السياسي. الأنانية اصبحت فضيلة سياسية سامية.
3 – واخيرا، ان الثورة في الوعي التاريخي تزامنت مع ثورة في العلوم الطبيعية تحققت من صلاحية الملاحظة. الافتراض السائد للعلم الحديث كان ان المظهر خادع والتصور غير موثوق به.
وفي القرن السابع عشر، اصبحت الرياضيات هي اللغة الجديدة للواقع. التجربة العادية لم تكن اكثر من مصدر للخطأ والوهم. لا الطبيعة ولا العالم يمكن تقييمهما بواسطة الذهن او الحواس. كل من العقل والتصور كانا غير كافيين لتوضيح الواقع او لإكتشاف الحقيقة. في النهاية،الارض، هي حقا تدور حول الشمس.
التعبير الأكثر قوة لهذه النتائج كان شك ديكارت الثوري. على عكس انسانيو النهضة الايطالية، ديكارت لم يثق بقدرات الانسان. الشك والشكوكية بقيا مسألة كبرياء فكري حتى القرن العشرين عندما حوّلتهما فيزياء الكوانتم الى سبب للقلق والخوف. الفيزياء جعلت الكون غير مفهوم ان لم يكن عصيا على الفهم. الحقيقة كانت تتجاوز الى ما وراء التصور العقلاني وكانت بنفس المقدار لا يمكن ادراكها بالحواس. التجربة اصبحت بلا معنى. ومع بدايات القرن الثامن عشر، وقبل وقت طويل من فيزياء الكوانتم، خمّن المؤرخ النابولي جيامبا تيستافيكو وحاول حل هذا المأزق. هو اعترف ان الكائن البشري لا يستطيع اختراق ألغاز الطبيعة والكون لأن الانسان لم يخلقهما. لكنه يمكنه فهم عمل ذهن الانسان ويديه. وبما ان التاريخ كان فقط نتاج ونتيجة للفعل الانساني، فان الكائن البشري كما اعتقد جيامبا يستطيع تمحيص الحقيقة التاريخية.
جيامبا،بالطبع،لم يتنبأ بالقوة التكنلوجية التي وضعها العلم بشكل عام والفيزياء خصوصا أمام الانسانية – قوة مكّنت الانسان من التدخل في الطبيعة بطرق غير مسبوقة. منذ منتصف القرن العشرين رسخ الانسان القدرة على إطلاق العنان للعمليات الطبيعية التي ما كانت لتوجد ابدا لو انه لم يتدخل بالطبيعة او يغير فيها منذ البدء. هم يستطيعون الان ان يقوموا في العالم الطبيعي بأفعال يصفها فيسو بالتاريخية. كمثال واضح، الانتشار النووي هو نظام مختلف عن استعمال الرياح او الماء او حتى تطبيق البخار والبترول لمساعدة عضلات الانسان. التصنيع كان تدميريا كما كان للتقاليد الاجتماعية والثقافية والسياسية والعلاقات الاقتصادية، ولايزال يحتاج الى اناس لخلقه عبر استعمال المواد التي وفرتها الطبيعة. العمليات الصناعية ايضا لها بداية واضحة ونهاية متنبأ بها. لا يوجد هناك منتج نهائي تولده عمليات مثل الانتشار النوي. بدلا من ذلك هناك فقط العملية ذاتها، سلسلة لا متناهية من الأحداث لايستطيع المخترعون الانسانيون معرفة محصلتها بالكامل او السيطرة عليها. وعلى الرغم من عدم التنبؤية هذه، في اللحظة التي بدأ بها الانسان العمليات الطبيعية، مثل فصل الذرة، فهو زاد من سيطرته على الطبيعة. وهو الموقف الذي قاد الى الهيمنة وربما تدمير الارض.
ورغم ان هذه الافعال سُجلت كتقدم، لكنها وُلدت على الاقل جزئيا من اليأس. "خطأ العقيدة القديمة في التقدم" كما أعلن الفيلسوف الاسباني جوس اورتيغاغاس،"يكمن في التأكيد المسبق بان الانسان يتقدم نحو الأفضل. وان شيئا ما يمكن فقط ان يتقرر لاحقا بسبب تاريخي ملموس"(9).
في سعيه الازلي واليائس لمعرفة الحقيقة او فهم الواقع من خلال التأمل وحده، بدأ الانسان الحديث بممارسة طاقته للفعل، مع كراهية الأخطار المتأصلة بهكذا مسار. هو لم يقم فقط بهذه المخاطر الحمقاء واطلاقه العنان لنواقص الانسان وتقلّبه حول العالم، وانما ايضا أراد من فعله ان يلغي كل قدرات الانسان الاخرى مثل قابلية التساؤل والتفكير. نحن نحتفل بانسان الفعل رغم ان القابلية على الفعل هي بلاشك من اكثر صفات الانسان المحفوفة بالمخاطر، مثلما تتجلى امامنا التهديدات الوجودية التي هي من صنع الانسان.
التأكيد على الفعل يكشف رفض القبول بمحدوديات الانسان. الكائن البشري في وعيه الحاد في كفاحه لتجاوز القيود المفروضة عليه، اغوي مرات ومرات ليرفع نفسه فوق مكانه الملائم. اغتصاب دور الله، يشوه طبيعة الوجود. الشيطان وعد :"انت يجب ان تكون كالله" .
القدرات الانسانية على اختلافها تكشف ضعف الانسان. الخيال المتألق، قوة الذهن، تبقى غير كافية لكشف كل أسرار الوجود. لا أحد من البشر يمكنه امتلاك فهم تام ودقيق وكامل او حتى معرفة بالذات وبالعالم وبالكون وبالماضي او بأي شخص آخر. هذه المحددات هي تحدّيات للانسان.
الوعي العميق بالتاريخ سوف لن يمكّننا من المراوغة وتسلّق ظروف الانسان. العكس تماما هو الصحيح. الوعي التاريخي لا يمكن فصله عن الواقعي جدا، وهكذا يأتي الكثير من الإقرار بالفشل في فهم طبيعة الانسان والعالم. مثل هذا الفهم القائم على استذكار الماضي، الذي وصفه المؤرخ الهولندي جوان هيزنبرج بـ "الإحساس التاريخي"، يربط وبشكل متباين البشر بالواقع الذي يبرز من تجاربهم ووعيهم (10). وعلى الرغم من معرفتنا غير التامة بالماضي والعالم وأنفسنا – المعرفة التي لا نستطيع تجاوزها – لكننا مع ذلك نعرف اننا نعرف. "الفكر يشكل عظمة الانسان"، حسب باسكال. "اذا كان الكون سحق الانسان،فهو لايزال اكثر نبلا من ذلك الذي قتله، لأن الانسان يعرف انه يموت وللكون ميزة التفوق عليه، الكون لايعرف شيئا من هذا (11). ان تقييم وعينا جعلنا واعين باننا نرى الواقع من منظورنا الخاص، والذي هو دائما محدود، جزئي، مشروط وغير كامل. هذا الاعتراف بمحدوديتنا ربما له تأثير مفيد في انتاج تواضع فكري. تاريخية الفكر ايضا تخون غياب او على الأقل عدم ادراك الحقيقة الأبدية. الحقيقة صعبة الفهم لكنها ليست وهمية او سريعة الزوال، بل هي تنشأ وتتغير خلال الزمن. كتب اورتيغا، "ان شيئا غير صحيح في كل الاوقات" "لا يعني انه ليس له لحظة من الحقيقة"(12). هذا الاعتراف يؤسس الشكل العام لوجود الانسان، لأنه يكشف ان الكائن البشري يقف مرة اخرى في مركز الخلق، وهو ما لايوجد ولا يمكن ان يوجد بعيدا عن الذهن. الحياة لها معنى نحن نخلقه وننسبه لها. الموضوعية،اذاً، ليست معيارا للحقيقة اكثر مما ان الانسان متشابك بلا أمل في شبكة من الذاتية. كل فرد هو متفرد وقادر بتفرد على ايصال رؤاه الشخصية للحقيقة. البُعد الشخصي للمعرفة يكشف ليس النسبية وانما تاريخية الفكر والمعرفة والتعبير. وسط رفض الموقف المألوف والعقائد العرفية، وتشظي المعرفة وما رافقها من اضطراب وخوف ، ادّى الوعي التدريجي بالسمة التاريخية للوجود الانساني الى تعميق الوعي الذاتي الذي يؤشر الطريق للخروج من المأزق. تحدّي سقراط في "إعرف نفسك" اصبح يعني في زماننا إعرف ماضيك، إعرف تاريخك. طبقا لاورتيغو "الانسان،باختصار، ليس له طبيعة، ما لديه هو تاريخ .. هو يجد انه ليس لديه طبيعة عدى ما يقوم به بنفسه"(13).
الوعي التاريخي والمعرفة الذاتية المصاحبة له يبيّنان ما اصبح عليه الانسان، وما عمل لنفسه، ليس فقط من خلال أعماله وانما ايضا وهو الأكثر أهمية من خلال التأمل بما كان فيه. هذه الرؤى مجتمعة تشكل أساس الإنسانوية الجديدة، تشجعنا للالتفات الى الوراء والى الداخل بدلا من النظر الى الأمام والى الخارج في البحث عن الحقيقة والواقع والمعنى، انها تدعونا اخيرا لمواجهة أنفسنا.
***
حاتم حميد محسن
..............
History and The New Humanism, March 6th 2023, The Imaginative conservative.
الهوامش
(1) هيرودوتس، التواريخ، ترجمة روبن ويكفيلد (نيويورك، 1998) ص3.
(2) ليبولد فون رانك، "جزء من ثلاثينيات القرن التاسع عشر"،في المؤرخ الامريكي فرتز ستيرن (أصناف من التاريخ من فولتير حتى الحاضر،نيويورك،1973،ص59).
(3) جون باجنل بيري،"علم التاريخ"،في المرجع السابق،ص211 و219.
(4) نورمان كيمب سمث، كتابات ديكارت الفلسفية، نيويورك،1958،ص131.
(5) ويرنر هيزنبيرج،المشاكل الفلسفية للعلوم النووية (نيويورك،1952) ص24.
(6) ويرنر هيزنبيرج، الفيزياء والفلسفة: الثورة في العلم الحديث،(نيويورك،1962) ص81
(7) مقتبس من J.W.Swain"ماهو التاريخ؟" مجلة الفلسفة، عدد 21،رقم 13.
(8) كارل بيكر، "كل انسان هو مؤرخه الخاص به" (المؤسسة التاريخية الامريكية،2009)،ص17.
(9) جوس اورتيغا غاسيت، التاريخ كنظام ومقالات اخرى نحو فلسفة التاريخ، ترجمة هيلين وي،(نيويورك،1961، بالأصل نُشرت عام 1941) ص218.
(10) جوهان هوزنك، "مهمة التاريخ الثقافي"، في رجال وافكار، ترجمة جيمس هولمس وهانس فان مارل (نيويورك،1959) ص53.
(11) بليز باسكال، الافكار، ترجمة W.F.Trotter(نيويورك،1958) ص346،347،97
(12) مقتبس من هارولد رالي، جوس اورتيغا: فيلسوف الوحدة الاوربية (Tuscaloosa,Al,1971) ص21.
(13) اورتيغا كاسيت، التاريخ كنظام،ص217.