آراء

عبد الأمير الركابي: علم الثورات اللاارضوية الكبرى (2)

لنتخيل لو ان قوات الامبراطورية الفارسيه في العراق قد تمكنت من قوة الفتح الجزيرية واستطاعت ان تهزمها، مع مايترتب على حدث كهذا من انقلابيه تاريخيه كيانيه ووجودية لاتخص المنطقة الشرق متوسطية فقط، بل فارس ذاتها ومايمكن ان  يتمخض عنه حضورهاالذاتي والامبراطوري ذاتيا داخليا وعلى مستوى امتداداتها، لنقف امام جانب غاية في الحساسية والخطورة يتعلق بدعوة النبي الجزيري العربي عربيا شرق متوسطيا من ناحية، وفارسيا وشرقيا، مع مايقف خلفها من توقع مذهل وتقدير للحظة الانقلابيه  الشامله، لها طابع الكونية المجتمعية، ففارس الامبراطورية المنصبه على منطقة الازدواج ببنيتها الاحادية، كانت وقتها على مشارف الانقلاب الى "الازدواج" كجزء من نضج صيرورتها الطبيعية المضمرة في الكينونه المجتمعية ككل، مايعني توفر الاشتراطات حينه للانقلاب اللاارضوي الازدواجي بصيغته التعبيرية الابراهيمه الختامية وتوقيته الدقيق في اللحظة المناسبه.

  فهل كان النبي الامي لحظتها على علم وادراك من هذا القبيل، وهل كان على معرفه بان ساعة الانطلاق اللاارضوي الختامي قد حلت اليوم بالذات، وانها سوف تتحقق باسرع مايمكن تصوره، بحيث لايتعدى مسار الذهاب الى الصين والهند، العشرين عاما بلا معوقات جدية، ولا عقبات يمكن الوقوف عندها، فلقد كانت الساعه ساعة  انتهاء صلاحية الارضوية بصيغتها الاولى الفارسية، ومتبقيات الرومانيه، التي ظلت  تشغل منطقة ساحل الشام من الاناضول،  وقد غدت منطقة مواجهه استدعت تجمعا للمقاتلين الجزيريين لدرجة اتاحت في وقت لاحق لمعاوية ان يقيم "امبراطوريته" العابره، باعثا سلطة القبيله  والملك العضوض الوراثي، بالضد من العقيدة  التي ظلت غالبه ابان عهد النبي والخلفاء الراشدين،  وفي ارض ليست لها من المقومات البنيويه مايتيح تحويلها الى مركز امبراطوري، لولا  دفع عملية الفتح الكبرى، والتركز آنف الذكرلمقاتلي الجزيرة في المكان، علما بان متبقيات الامبراطورية الرومانيه لم تكن لتمنع عمليه الفتح غربا من ان تستمر.

  كان  النبي محمد بالاحرى يطلق تحققا مجتمعيا نضجت اسبابه التاريخيه، هو مرحله في التاريخ المجتمعي بدا بالاصل مع السيد المسيح  الذي قلب كينونه المجال المجتمعي الاوربي الارضوي الطبقي الازدواج، من ضمن تفاعليه كونية محكومة بقانون الانصبابات والاختراق المضاد، فالمجتمعات الشرقية والغربيه تنشا وتتشكل في المراحل الاولى من كينونتها، احادية ارضوية، متخذه شكل الامبراطوريات الارضوية التسلطيه على الاخر، فتنصب في موضع اللاارضوية والازدواج المجتمعي، لتدخل من حينه عمليه استكمال التشكل المجتمعي بالانتقال من الاحادية الارضوية الى "الازدواج"، بعكس ماظلت تعتقد المنظورات القصورية الارضوية للتاريخ  ب " حضارويتها" الاحادية" وعجزها عن رؤية الديناميات المتعدية للاحادية اليدوية الارضوية ومترتباتها، وماتتمخض عنه، وهذا مايميز الاعزل المصلوب، مخترق الموت كقاعده، عن جيوش  روما وبنيتها، بناء للاصطراعيه بين نمطيتين ونوعين من المجتمعية، تلك التي تظل تعبيرية نبوية في ارضها، تضم العشرات من الانبياء تعبيرا عن رؤية نابعه من حقيقة مجتمعية، العقل الارضوي الاحادي قاصر عن تبينها ومعرفه فعلها، وحين تكون الابراهيميه الاولى حالة نضج  وتبلور للبدئية التشكلية اللاارضوية، في الموضع الانسب لتفاعليتها، فان مايقابلها من فلسفة الاغريق وارسطو، وان ظل يعتبر تعبيرا اسمى ووحيد في بابه، هو في الحقيقة مجرد تعبيرية ارضوية فئوية معزولة داخل صنفها، لاتتعدى حضورا النطاق  الذهني المحدود كلازمه ضرورية لاكتمال بنيه الارضوية.

  وعليه فان النظر الى الجيش الفارسي مقابل مجموعه المقاتلين الجزيرين على انهما جهتان من نفس الصنف والنوع، هو امر دال على القصور الاحادي، وغلبة الارضوية ومنظورها اليدوي الجسدي، فمجموعة الفتح هي كينونه اخرى، وهي  ممثلة حقيقة اللحظة، "الفارسية"نفسها، والتي هي اليوم بامس الحاجه الى حضور"عدوها"، ومايحمله بين تضاعيفه من نوع مفقود ولازم، والا فان استمرارها لم يعد ممكنا ولامبررا وقد فقد صلاحيته، ووصل نهاية قدرته على الاستمرار، مايعني كون الاسلام قوة انقلاب نوعي مجتمعي حتمي، وشرط لاستمرار العملية المجتمعية على مدى مكمل للحالة الاوربية الغربيه، شرقا باتجاه الصين والهند، حيث تكتسب المجتمعات ماهي بحاجة اليه  وصار لازما، كينونه وبنية، معها تؤرخ البدئية الثانيه للمجتمعات المشار اليها، بعد بدئيتها الاولى الارضوية.

  تنشا الظاهرة المجتمعية وتتبلور في ارض سومر جنوب مابين النهرين "لاارضوية"، لتدخل عملية اصطراع مع "الارضوية" الهابطة نحوها من جهاتها الثلاث العليا، لتتحول الى كيانيه اصطراعية بؤرة، محكومه لقانون الدورات والانقطاعات، في حين تغلب الصيغة الارضوية الاحادية  من المجتمعية على مستوى المعمورة، بفعل وسيلة الانتاج الغالبه اليدوية واشتراطاتها، رغم ان كينونتها، وطبيعه خليتها البشرية هي ازدواج، والديناميات التي تحكم سيرورتها لاارضوية عقلية، تظل قائمه وفقا لنوعها وطبيعتها المتعدية لاشتراطات الكيانيه والمكان، والمنظور الارضي المرتكز، ذاهبة الى الافق الاخر السماوي، الموافق للحقيقة وللمنتهى المقرر للمجتمعات الذهاب اليه.

  وقد يكون من باب تاكيد القانون المجتمعي التحولي الناظم للعملية التاريخيه تذكر ظاهرة حديثة حصلت مع الاله ومارافقها ونتج عنها في العصر الحديث من اعتقادات توهمية، ومنها الماركسية التي ترهن التاريخ البشري ل "الاصطراع الطبقي"، مخضعة العملية المجتمعية لقانون وحتمية تاريخيه" مادية"  متوهمه، ذاهبه الى اللاطبقية، والى الشيوعيه، وكانها عملية  تمرين اوليه لاتخلو من الايحائية بما خص الاكتشاف المتاخر مع القرن التاسع عشرللعنصر الرئيسي "الصراع الطبقي"، ومايتصل به من قانون مفترض، ماكان ليقارب ادراكا من قبل، مايضع العقل البشري مجتمعيا، امام حال قصورية ممتدة على طول فترة الانتاجية اليدوية، علما بان ماقد ظل غائبا عن الادراك مع الماركسية والمادية التاريخيه، والذي اليه تعود الخاصيات والقانون الناظم للتاريخ المجتمعي،  هي "الاصطراعية المجتمعية" لا الناحية الجزئية " الطبقية" من التكوين المجتمعي، والتي هي من نتاج الطور اليدوي  وتفاعليته، ماان تظهر الاله وتدخل التفاعلية المجتمعية مغيرة كينونتها البنيوية، حتى تبدا بالزوال لصالح تعزيز عمل الاصطراعية المجتمعية، وتزايد احتمالات حضور اللااارضوية.

   وهنا كان العقل البشري ينتظر الانقلاب الاعظم، وعملية الانتقال من العقل "الانسايواني" الباقي مهيمنا سواء بدون، اومع اكتشاف الصراع الطبقيي، الى عقل "الانسان" وحكم الاصطراعية المجتمعية التاريخيه ومسارها، ومآلها النهائي.

  ـ يتبع ـ

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم