آراء

محمد هاشم البطاط: موقف يعقوب إسرائيل دي هان من الحركة الصهيونية

مفكرون يهود ضد الصهيونية (3)

يمثل يعقوب إسرائيل دي هان علامة فارقة في سياق النقد الموجّه إلى الحركة الصهيونية، إذ عبّرت تجربته عن إنعطافة مركزية تكشف عن طبيعة الحركة الصهيونية وتوحشها ضد اليهود المعارضين لها، فضلاً عن غيرهم، وقد ولد دي هان في قرية سميلده في هولندا عام 1881م لأسرة يهودية كبيرة وفقيرة أرادت له تعليماً يهودياً، فدرس على الطريقة اليهودية التقليدية، ثم إنضم في عمر الرابعة عشر الى المدرسة الوطنية للمعلمين، وبعد التخرج منها واجه مشاكل في إيجاد عمل له، ولاحقاً حصل الى وظيفة كمعلم، بالاضافة الى أنه سعى لإكمال الدراسة في القانون، فقُقبل في كلية الحقوق عام 1903م؛ وبسبب إهتماماته الأدبية كتب روايته الأولى (Pijpelijntjes) (أنابيب صغيرة) الصادرة عام 1904، والتي تتكلم عن علاقة بين شخصين في سياق مثلي شاذ داخل حي دي بايب الفقير في مدينة أمستردام الهولندية، الأمر الذي أثار ردة فعل كبيرة عليه وقتها، فطرد من عمله، وقاطعه المجتمع المحيط، ولاسيما نحن نتكلم عن مدة كانت فيها الثقافة الأوربية ما تزال متمسكة نسبياً بالقيم الإجتماعية الصحيحة بخصوص مسألة المثلية وإثاراتها السقيمة(1).

وقٌبيل هذه المدة، وخلالها، بدأت الميول اليسارية تتعاظم داخل عقلية دي هان، وكان كلما يقترب من النزعة اليسارية كلما كان يبتعد عن اليهودية وتعاليمها، وبعد عام 1905م عاد يعقوب دي هان إلى الإهتمام بهوديته، بدأ بتعلم اللغة العبرية، وإنضم الى الإتحاد الصهيوني الهولندي بوصفه فرعاً لمنظمة الصهيونية العالمية الساعية إلى البحث عن وطن يجمع اليهود، وفي عام 1914م وظّف قريحته الشعرية في مشروع اليهودية فنشر ديوانه الشعري بعنوان "الأنشودة اليهودية"(2).

أكمل دي هان دراسته في الدكتوراه في تخصص القانون من جامعة أمستردام عام 1916م، وسعى للحصول على وظيفة الاستاذ في الجامعة إلا انه أخفق في ذلك، ومع أحداث الحرب العالمية الأولى، بدأت تتزايد عنده القناعة في أن الحل الوحيد لمشكلة اليهود وشتاتهم في العالم يكمن في وطن واحد يجمعهم، فقرر الهجرة الى فلسطين التي كانت وقتها تخضع لسلطة الانتداب البريطاني، وفي عام 1917م ستمنح هذه السلطة المحتلة للأراضي الفلسطينية وعداً عُرف بوعد بلفور من أجل تحقيق غاية إقامة الوطن اليهودي في أرض ليست لهم!

قدّم دي هان طلباً من أجل السفر الى فلسطين، إلا أن رئيسها حاييم وايزمان (1874-1952م) لم يتحمس لطلبه، خاصة أن الأخير كان يبحث عن الشباب الرياضيين القادرين على القتال،  لكن يسرائيل زانغويل (1864-1926م) الكاتب الإنجليزي الصهيوني، الذي تنسب له مقولة “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” أقنع وايزمان بقبول طلبه، ويُنقل أن دي هان وصل إلى القدس بعد رحلة شاقة بين روما وباريس ولندن ثم القاهرة التي انطلق منها إلى فلسطين، وحين وصل كان الجو ممطرًا مضطربًا، ولم يستقبله اليهود في القدس بشكل جيد، وهو الذي جاء إليهم حالمًا بالأخوة الصهيونية التي كان يتمناها.

في البداية كان دي هان متعاطفاً مع الصهيونية، باعتبارها حركة قومية تقدم للشعب اليهودي فرصة وطنية. لكنه سرعان ما ابتعد عنها، خصوصاً بعد احتكاكه بالمجتمع اليهودي الأرثوذكسي في القدس، إذ تأثر بالحاخام يوسف حاييم سونينفيلد (1848-1932م) الذي أسس حزب أغوادات يسرائيل عام 1921م، كحزب يمثل أفكار الحريديم، يتفرع عن حركة أغوادات يسرائيل اليهودية في أوروبا، والرافضة للصهيونية، واختار أن يكون يعقوب دي هان مسؤولًا عن العلاقات الخارجية للحزب ومتحدثًا باسمه، وهكذا صار يعقوب دي هان عدوًا للصهيونية، بعد أن كان متحمساً لها(4) ، وهناك نص مهم ينقله ليوبولد فايس (1900-1992م) اليهودي الذي أسلم وسمى نفسه (محمد أسد)، في كتابه “الطريق إلى مكة”، والذي كان قريبًا ورفيقًا ليعقوب دي هان وقت وجوده في فلسطين، ينقل أسد قائلاً: (نظر إليّ الدكتور دي هان متسائلًا: أتظن أن التاريخ ليس إلا سلسلة من المصادفات؟ أنا لا أظن ذلك، لم يكن بلا غاية أن جعلنا الله نفقد أرضنا ويبعثرنا؛ لكن الصهاينة لا يريدون أن يعترفوا بهذا، إنهم يعانون من نفس العمى الروحي الذي أدى إلى سقوطنا، وإن ألفي عام من المنفى والتعاسة اليهودية لم تعلّمهم شيئًا. وبدلًا من أن يحاولوا فهم الأسباب العميقة لتعاستنا، تراهم الآن يحاولون تجاوزها، كما لو كان الأمر ممكنًا، ببناء “وطن قومي” على أسس وفرتها سياسات القوى الغربية؛ وفي عملية بناء هذا الوطن القومي يرتكبون جريمة حرمان شعب آخر من وطنه)(5).

إن وجهة نظره هذه أججت داخله قلقاً من الصدام ضد العرب، ورغبته في الحفاظ على الطابع الديني لليهودية بدلاً من تحويلها إلى مشروع قومي سياسي، وأصبح دي هان من أشد معارضي الصهيونية السياسية منتقداً مشروعها القومي باعتباره تهديداً لمستقبل اليهود في فلسطين ولعلاقاتهم مع العرب، وقد كان يكتب مقالات صحفية ناقدة، إذ عمل دي هان في فلسطين مراسلاً لجريدة هولندية تَصدُر في أمستردام، كما عمل أيضاً لجريدة ديلي إكسبريس اللندنية. وكان يلقي محاضرات في كلية القانون التابعة للحكومة في القدس، ويرسل رسائل إلى شخصيات سياسية ودينية، محذراً من الكوارث المقبلة إذا استمر المشروع الصهيوني، وقد سعى الى التنسيق مع الشريف الحسين بن علي (1853-1931م) وابنيه عبد الله (1882-1951م) وفيصل (1883-1933) من أجل إيجاد تسوية عربية- يهودية تتضمن هجرة يهودية غير مشروطة يعيش فيها اليهود ضمن دولة فلسطين مقابل معاداة الصهيونية والعمل على بذل الجهود الدبلوماسية مع الجانب البريطاني بُغية سحب وعد بلفور وإلغائه، وما يترتب على ذلك من سحب البساط من المشروع الصهيوني القائم على إقامة كيان صهيوني في الأراضي الفلسطينية، إذ كان المسارات العمل الرئيسة التي إعتمدها دي هان هو تحويل الممثلية الرسمية لليهود من الحركة الصهيونية ونقلها الى الجانب الحريدي المعبر عنه بحزب أغودات، الأمر الذي جعل منه خصماً خطيراً للحركة الصهيونية الناشئة، فعمدت إلى تشويه سمعته عبر تركيز ماكنتها الإعلامية على روايته ذات الميول المثلية، وتوظيف كل ما من شأنه أن يسهم في تقزيم الدور المحوري الذي ان دي هان يشتغل عليه في مناهضة الحركة الصهيونية ومشروعها.

وفي 30 يونيو 1924 اغتيل دي هان في القدس على يد عناصر من ميليشا الهاغاناه الصهيونية، في وقتٍ كان يسعى خلاله الى السفر الى بريطانيا من أجل تطبيق الاتفاق الذي عقده مع الجانب العربي، فقررت الصهيونية إغتياله بعد أن اعترض طريقه إثنان من رجال الهاغاناه وقتلاه في عملية عُدّت أول عملية اغتيال سياسي صهيوني موجه ضد يهودي معارض، وقد شكلت هذه الحادثة علامة فارقة في تاريخ الصراع الداخلي بين اليهود أنفسهم، وأبرزت هشاشة التعددية داخل المشروع الصهيوني، كما أنها كشفت عن توحش هذا المشروع داخل الفضاء اليهودي، فضلاً عمن هو خارج الفضاء، ولنا أن نربط الأمر بالجرائم غير الإنسانية التي أُرتكبت وتُرتكب في قطاع غزة،  وفي عموم الأراضي الفلسطينية، ضد الابرياء العُزل من شيوخ ونساء وأطفال.

وفي سياق التعرض الى الجانب الفكري في المواقف التي تباناها يعقوب دي هان إتجاه الحركة الصهيونية يمكن إيراد أبرز الانتقادات التي وجهها لها:

1-  ترفض الحريدية، وأبرز ممثليها السياسيين(6) حزب أغودات الجذر الفكري السياسي الذي تقوم عليه الحركة الصهيونية، والقائم على التدخل البشري في العودة الى أرض الميعاد في المعتقد اليهودي، إذ أن مبدأ العودة الى صهيون (أرض إسرائيل) يجب أن لا تتم عبر التدخل البشري السياسي، وإنما يتم ذلك من خلال الارادة الالهية والمشيئة الدينية التي تقرر ذلك بمجيء المسيح المنتظر في المعتقد اليهودي.

2-  نقد الحركة الصهيونية القائمة على تفعيل مشروع إستبدال الدين بقومية سياسية، أي في تحويل المعتقدات الدينية الى اجندة سياسية تفقد هذه العقيدة ركيزتها الروحية بدرجة أساس، إذ أن ما يقوم به الصهاينة هو إستغلال المقولات الدينية وتجييرها من أجل مشروع سياسي.

3-  رفض ونقد السياسة الصهيونية التي تمارسها في فلسطين، وأكاذيبها في المبالغة في أعداد المهاجرين اليهود الى فلسطين، وفي سياستها الصارمة القائمة على معالجة المشكلة اليهودية "المسألة اليهودية" عبر الصِدام مع الفلسطينيين مما ينتج نتائج عكسية لا تخدم الطرفين.

4-  السعي من أجل تحويل التمثيل الدبلوماسي الدولي والشرعية الإجتماعية-السياسية أمام الدول، ولاسيما بريطانيا دولة الإنتداب وقتها في الأراضي الفلسطينية، والمنظمات الدولية الى صالح تيار الحريدية، وإثبات أن الأخير هو الممثل الحقيقي لليهود وعقائدهم وتجمعاتهم.

5-  الدعوة الى أهمية قراءة التأريخ اليهودي عبر الاستفادة من إشكالية العقيدة اليهودية وقضية أرض الميعاد بطريقة أكثر قدرة على التعايش مع الاخرين، بخلاف النظرة الصهيونية الابتسارية القائمة على الفتك والإبادة والإقصاء، كما أنه اعتقد ان من الضروري العمل على الاستفادة من التأمل في التأريخ اليهودي عبر عدم تحويل المأساة الخاصة باليهود الى مأساة متعلقة بشعب آخر، أي الشعب الفلسطيني، من هنا كان دي هان يرى أن معالجة المشكلة/المسألة اليهودية يجب أن لا تتم بتسبيب مشكلة أخرى.

***

د. محمد هاشم البطاط

.....................

المصادر:

(1) The Multiple lives of Jacob Isreal de Haan, Karene Sanchez Summerer and others, 1st  Edition , University of Groningen Press, Netherlands, 2024, p15 and after.

(2)Ibid p22

(3) محمد حسين الشيخ، يعقوب اسرائيل دي هان، اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فإغتاله الصهاينة، على الانترنت: www.noonpost.com

(4) المصدر السابق.

(5)Muhammed Asad, The road to Makkah,Rreprinted Edition, Islamic Book Service, New Delhi 2004, p99.

(6) هناك أكثر من إتجاه داخل التيار الحريدي اليهودي، منها ما يرفض الانخراط بالمطلق في العمل السياسي داخل النظام السياسي للكيان الصهيوني، ومنها ما يقبل بالمشاركة السياسية المشروطة، أي في المجالات التي لا تتعارض مع المرتكزات العقائدية والتعليمات الدينية التي تتبناها الحريدية. اليهودي الذي كاد أن يلغي وعد بلفور فاغتاله الصهاينة

 

في المثقف اليوم