آراء
أكرم عثمان: واقع العمل ومآلاته ما بين الشرق والغرب

دردشة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء
جمعتني مقابلة على فنجان قهوة مع أحد الخبراء اللامعين الذين درسوا واستكملوا تعليمهم وعملوا في الغرب وهم الآن يرأسون مواقع قيادية في بلادنا العربية وفي فلسطين تحديداً، دار هذا اللقاء الذي يسلط الضوء على مواطن القوة والضعف في كلا الحالتين ما بين الشرق والغرب من العمل الوظيفي والمهني، حيث ينظر الغرب إلى القيادة على أنها مبنية على الثقة وتفويض الصلاحيات بين المسؤول والمرؤوس، وتُمنح للموظف حرية اتخاذ القرار ضمن نطاق عمله دون تدخل سافر له، بل تعطى له الصلاحيات ويُنظر إليه كشريك لا كسلطة قهرية تقمعه أو تريد أن تمارس سلطتها السلبية عليه. أما في الشرق (وتحديداً في فلسطين) تعتمد الإدارة على الهرمية والمركزية الشديدة، حيث يتدخل المسؤولون في التفاصيل الصغيرة مهما كانت درجة أهميتها أو قلتها، مما يضعف الحرية الإدارية ويثقل النظام الإداري بالتضييق على الموظف والإنشغال غير المبرر لجهود الإدارة ومهامها الوظيفية التي ينبغي أن تقوم به وتؤديه على أكمل وجه.
فعلى سبيل المثال عندما يريد رئيس القسم في أية دائرة أن يتخذ في إعطاء إجازة أو الخروج لمؤتمر أو نشاطات خارج المنظمة، قد تتطلب موافقة من أعلى المستويات، وقد تكون الأمور سلسلة وأن الموظف قد غطى عمله بوجود بديل أو ترتيبات لا يتراكم ولا يتسبب بأية فوضى أو تاخير، مما يولّد البيروقراطية والتوتر بين الموظفين والإحتقان وردود الأفعال السلبية التي قد تسهم في غياب للفرص المتاحة ، وعدم إعطاء مساحة للموظف أن ينمي نفسه ويطورها نحو الأفضل، فيشعر ساعتها بعدم بالراحة والطمأنينة من أن العمل لا يحرص على توفير سبل الراحة وتوظيف القدرات على أكمل وجه وصورة مشرقة إيجابية قد تعود بفائدة نوعية على الموظف والعمل التي يتواجد فيه. ولا ننسى المحاباة الشائعة بين الموظفين، فمن هو قريب من الإدارة العليا يعتبر نفسه محظوظاً ويتم التعامل معه بأريحية وسلاسة يفتقر لها آخرون؛ حيث تُمنح الفرص حسب القرب من صانع القرار، مما يُنتج بيئة غير عادلة تفسد العلاقة الاجتماعية والروح النفسية للموظفين، وتقلل من الأداء والروح الكامنة في النفوس التي تشعر بالظلم والتعامل بوجهين لا يرى لها مبرراً أو سنداً موضوعياً أو قانويناً أو إنسانياً وأخلاقياً.
بلا شك هناك نموذج للقيادة الشاملة والتشاركية ومنها على سبيل المثال لا الحصر مؤسسات مثل "روابي" التي تطبق نموذج "win-win" حيث يكون لصغار الموظفين دور للتفويض واتخاذ القرار، مما يعزز الإبداع والانتماء لدى الموظفين. وتجد المؤسسات في الغرب تُبنى على نظم حديثة ومتأثرة بالتدريب والإدارة الحديثة التي تسهم في إتباع نظريات القيادة المؤثرة الفاعلة في صناعة أجيال قادرة تشعر بالثقة والإنسجام في العمل ولديها حس المسؤولية والاعتماد على الذات ويتم تدريبهاعلى القيادة المستقبلية حتى تصنع الفارق عندما يكتمل بنائها وتطويرها.
ومن الجوانب المهمة تلك الحماية القانونية وحقوق الموظف في الغرب، حيث يحرصون على حماية الموظف بالقانون من الاستغلال أو الضغط بعد ساعات العمل. يمكنه تجاهل الإيميلات في العطلة دون عواقب، والعيش بعد الدوام بحريته الشخصية والعائلية ويعتبرونها ملك شخصي له، لا يتدخلون فيه أو ينزعجونه أثناء نهاية الدوام بمطالب أو اجتماعات الكترونية والسهر المتأخر من الليل، بل يحق للموظف أن يرفع قضية ويستطع أن يكسبها عندما يتعرض للضغوط أو الاستغلال والتعب الجسدي أو النفسي في العمل، وتلجأ المحاكم على تعويضه المادي المجزي بدل ما تعرض له من تهديدات أو تجاوزات بحقه الذي قد يؤثر في صحته ونفسيته.
بالمقابل تعتبر العلاقة بين المدير والموظف في المجتمعات العربية قائمة على "المونة" أو أحيانًا القهر، ويتعدى العمل إلى حياة الموظف الشخصية، تنغيصاً وقهراً وتعباً دون مراعاة لخصوصيته أو نفسيته وظروفه العائلية والاجتماعية أو المادية.
وقد تلمس أن السمات النفسية والاجتماعية للقيادة في الغرب تؤمن بالتوريث المهني وتخريج قادة جدد، وتحفز على الاستقلالية وبناء أجيال قادرة على القيام بالدور والعبء الذي يوضعون به، كفاءاً وعلماً ومهارة وخبرات مستنيرة قائمة على العلم والتجربة والإنفتاح المعرفي وتدفق المعلومات ونقلها بكل أريحية وسهولة. أما في الشرق فالقيادة تخشى المنافسة الداخلية وتعتبرها تهديد لها مستقبلاً، وقد تعمل على كبح الموهوبين خوفًا من منافستها وتجريدها من مكانتها والكرسي التي تجلس عليه. فهناك ضعف في بناء وتنمية الأجيال القيادية الجديدة، واحتكار للمناصب من نفس الأسماء لعقود وسنوات دون تأهيل أو تدريب للقيادات الشابة القادرة على القيام بالدور المنوظ بها.
فغياب فرص القيادة للشباب لا تعطي مكاناً للكفاءات في النمو والتطور، ما لم "تفرض نفسها وتكون مسنودة من دوائر صنع القرار. فهناك إنكار داخلي من النخبة القديمة للاعتراف بالكفاءات الجديدة.، بل تقمعها وتحاربها وتطفشها وتغيبها من خلال هشاشة الدور التي تكلف به، أو يتم إهمالها وعدم تدريبها للوصول إلى مراكز متقدمة في القيادة قادرة على أداء الدور والمهمة.
فالمقارنات في تحمل المسؤولية في الغرب والعالم العربي واضحة وجلية، فالمسؤول في الغرب إذا فشل يعترف به ويتحمل المسؤولية وقد يستقيل ويحل محله شخص كفء وصاحب دراية وخبرة قادرة على إنجاح المؤسسة والمنظمة التي يعمل بها، أما في بلادنا العربية يتم تحميل المسؤولية للآخرين وإسقاطها على الطرف الضعيف لكي يحفاظ المسؤول على المنصب الذي يشغله.
أما الأبعاد العاطفية والاجتماعية، فالعاطفة حاضرة بقوة في المؤسسات العربية، وهناك ترابط اجتماعي، فالروح الاجتماعية التي يعيشها الأفراد والجماعات، وفي ظل الاحتلال والقهر والظلم الذي يحدث ترى المساندة والتعاطف والدعم ، وخصوصاً في الأزمات والطوارىء، إنما غير مدروسة أو ضمن ثقافة مؤسسية، أما في الغرب، العاطفة أقل، لكن القانون والعقلانية يحكمان العلاقات الإدارية، وقد تجد المسؤول عندما يشعر الموظف بالظلم يسنده ويقف في صفه ويدعمه، وكأن الثقافة المؤسساتية تسهم في توفير الدعم والمساندة للموظف كي يؤدي عمله بحرية وراحة وأن له حقوق وعليه واجبات يؤديها ويقوم بها.
خلاصة القول:
الحوار يعكس الفجوة بين الفكر الإداري الغربي والعربي، من حيث المركزية، منح الصلاحيات، العدالة، والمأسسة، ويقدم نقداً صريحاً للواقع العربي الذي يعوق الإبداع ويمنع توليد جيل قيادي جديد، مقابل نموذج غربي يشجع على تمكين الأفراد وتوريث القيادة بثقة ومأسسته.
***
د. أكرم عثمان
مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية
24/5/2025