آراء

عبد السلام فاروق: الخدعة الأمريكية الكبرى!

الولايات المتحدة الأمريكية دولة لم يبزغ نجمها إلا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهي لم تقم إلا على سلاسل من الحروب: حرب شعواء على الهنود الحمر أبادوا فيها عشرات الملايين من السكان الأصليين، وحرب على إفريقيا لاستجلاب الرقيق الأسود لبناء الولايات المتحدة الأمريكية على كواهل ملايين الأفارقة الذين مات أكثرهم إما في عمليات نقلهم في أقفاص كالبهائم في سفن شحن، وإما أثناء عملهم كعبيد في مزارع ومصانع الأمريكي الأبيض. ثم ظهرت أمريكا كقطب من أقطاب القوي العسكرية في العالم بعد إسقاط قنبلتي هيروشيما ونجازاكي. أي أنها دولة أقامت دعائمها على الدماء. ثم هي الآن تدعي أنها راعية الديمقراطية والحرية وكأن العالم كله قد نسي كيف أنها دولة أقيمت في الأساس على أشلاء الأبرياء ودمائهم!

 الغريب أن الولايات المتحدة الأمريكية عندما أرادت أن تصنع لنفسها امتداداً تاريخياً تشبثت بالحضارة الإغريقية وادعت أنها ابنتها الشرعية المنحدرة عنها.

ولو سلمنا جدلاً بهذا الامتداد الكاذب. فهل قامت الحضارة الغربية عموماً، والأمريكية خصوصاً على هذه الثقافة القديمة، أم أن الحضارة الإسلامية ومؤلفات علماء المسلمين أمثال البيروني وابن سينا وجابر بن حيان وغيرهم، الأساس الذي قامت عليه الحضارة الغربية بعد أفول نجم حضارة الأندلس ومن بعدها حضارة المشرق؟!

  الحقيقة يعرفونها ونعرفها جميعاً وإن استطاع الغرب إقناعنا أنهم الأذكى والأفضل، وأننا لا نستطيع اللحاق بركب التقدم السريع لسبب فينا نحن! فما السبب الحقيقي لتخلفنا وتقدمهم؟ وما هي الخدعة الغربية الخبيثة التي انطلت علينا فتخلفنا بسببها؟

كاموفلاج هوليودي

 بمجرد خروج الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة من الحرب العالمية الثانية، حلت محل بريطانيا كدولة عظمي. وأدركت من خبرتها العسكرية ضد "جوبلز" وآلته الإعلامية الرهيبة أن الإعلام له الدور الأكبر في غسل أدمغة الشعوب في الحرب والسلم. ولهذا حرص الأمريكيون على تطوير آلة الإعلام تطويراً عظيماً مهما كلفهم الأمر أموالاً طائلة.

 ومن خلال وكالات الإعلام العالمية وأفلام هوليود واسعة الانتشار اقتنعنا أن العلم هو أمريكا وأنها الحرية الخالصة والتكنولوجيا التي لا تُباري والثروة التي لا ينقطع مددها. وأنها قِبلة كل حر وكل عالِم أو باحث عن الثراء. وبالفعل فتحت أمريكا ذراعيها للوافدين إليها، واستقطبت العقول الألمعية في مختلف المجالات من كافة بقاع الأرض، هكذا بُنيت الولايات المتحدة الأمريكية بعرق ودماء آلاف المهاجرين إليها والذين تجنسوا بالجنسية الأمريكية وساهموا في تحقيق الحلم الأمريكي. ثم جاء أصحاب البشرة البيضاء من الأمريكيين ليدَّعوا أنهم وحدهم الأمريكيون الحقيقيون وأن المجد الأمريكي بُني على كواهلهم وحدهم، وأنهم وحدهم أصحاب الحق في الإرث الأمريكي أرضاً وتاريخاً.

 والباحث المتعمق في الواقع الأمريكي سيكتشف أن عباقرة أمريكا وبَنَّاؤوها أغلبهم ليسوا من أصول أوروبية أو أمريكية ولا هم من أصحاب البشرة البيضاء. فالفِرَق الرياضية المتفوقة وأبطال الرياضات المختلفة ومشاهير الممثلين من أبطال هوليود نصفهم على الأقل من الزنوج السود. وكثير من علمائهم وافدون من آسيا وإفريقيا وأستراليا.

 وفى تاريخ العلم الذي يقرأه الشباب في الغرب لن تجد ذكراً لحضارة الإسلام التي قام عليها الغرب في العصر الوسيط. وإنما فقط حضارة الإغريق و اليونان، وكأن علماء الإسلام الذين استولت أوروبا على نفائس مؤلفاتهم الأصلية لم يكن لهم وجود!

ببغاوات المشرق

 العجيب أن كثيراً من أبناء المشرق العربي ممن درسوا في أوروبا أو أمريكا مضوا يرددون سردية الغرب في ادعاءاته الكاذبة أننا لسنا أصل تقدمهم الذي وصلوا إليه. يحدث هذا في الوقت الذي يتحدث فيه علماء وباحثون ومستشرقون غربيون عن دور علماء الإسلام في خدمة تطور الإنسانية والغرب في أوائل عصر النهضة.

 لقد تعمد الغرب خلال فترات طويلة، من خلال إعلامه وأفلامه، ومن خلال تلامذته الذين تعلموا في جامعاته، أن يشيع سرديته المغلوطة التي تصل في منتهاها إلى القدح في ذكائنا أمام ذكائه، وأن أهل الغرب عباقرة، وأهل الشرق أغبياء. رغم أن حضارتهم أقيمت على أكتاف غيرهم!

 كتَب الأمريكي (س. فريدريك ستار) عن ابن سينا والبيروني، وسبقه في الإشارة للدور العظيم الذي قام به علماء المسلمين عبر التاريخ في تقدم الإنسانية عدة علماء ومستشرقون غربيون أمثال: جوستاف لوبون وسيجريد هونكه وغيرهم.

 القادة العسكريون يقولون: " إن التاريخ يكتبه المنتصرون"، فهل معني هذا أن جزءاً كبيراً من تاريخ العالم المسرود هو تاريخ زائف كُتب فوق جثث المنهزمين؟! وإذا كان هذا حقيقياً، فالعالم في حاجة إلى إعادة كتابة التاريخ من جديد. والأهم من هذا أن تَنخرس ألسنة الببغاوات الذين ما زالوا يرددون سرديات الغرب القائلة بأن الغرب أفضل منا، وأننا غير قادرين على تحقيق أي تقدم في أي مجال لعيب فينا كأعراق وأجناس أقل شأنا وأقل ذكاءً. وهي سردية وجدت لنفسها أنصاراً من مدعي العلم والثقافة. ولعل من أهم علمائنا الذين واجهوا تلك السردية وفندوها وتحدثوا عنها: الدكتور أحمد مستجير عالم الوراثة المعروف وعميد كلية الزراعة الأسبق رحمه الله.

السردية الملعونة

 على مدار عشرات السنين ظلت الآلة الإعلامية الغربية تحاول إفقادنا الثقة في أنفسنا نحن أهل المشرق أمام نهضة الغرب. حتى جاء الوقت الذي ظهر فيه زيف اداعاءاتهم بشكل عملي غير قابل للنكران أو الاعتراض. فها هو الشرق ينهض نهضة سريعة في شتي مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد، وها هو التنين الصيني ينهض ليثبت أن الغرب كالشرق، وأن العلم ليس حكراً على أحد.

 تلك هي الخدعة الدائمة في سرديات الغرب: أن شعوب المشرق المتخلفة غير قادرة على التطور في أي مجال، والسبب أنهم متخلفون عرقياً. وأن هناك أجناس بشرية أفضل من أجناس. تلك النعرة العِرقية الأثيمة التي تبناها الألمان سابقاً فقاموا بغزو بلدان عدة تحت شعار "تفوق الجنس الآري الألماني النقي"!

 بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات أعيد إنتاج تلك الفكرة وتوليدها في عدة صور جديدة: كالإنسان السوبرمان، وتفوق الجنس الأبيض. وكلها أفكار عنصرية بغيضة تستهدف التقليل من شأن شعوب وأفراد بعينهم. لقد تحدث الدكتور أحمد مستجير أن أربعة كتب ظهرت خلال السنوات الخمسة الأولي من القرن الواحد والعشرين تتحدث عن فكرة واحدة محورية: هي أن شعوباً أذكي من شعوب، وأن هناك تفوق في جينات بعض الشعوب عن شعوب أخري متخلفة بالوراثة!! والنتيجة التى تصل إليها مثل تلك السردية الماكرة ليست أننا في حاجة لتحسين السلالات البشرية من خلال تقدم علوم الوراثة والهندسة البيوتكنولوجية، بل استنتج أولئك العلماء المزيفون أننا في حاجة للقضاء على السلالات البشرية المتخلفة لصالح السلالات الأكثر تفوقاً. إنها نظرة عنصرية صهيونية سادية تتدثر بدثار العلم!

 وقد وصل تطور هذه النظرة البغيضة الخبيثة إلى الفكرة المتداولة عالمياً همساً بين الأفواه والآذان؛ فكرة "المليار الذهبي"؛ حيث يموت ملايين البشر من خلال الحروب والأوبئة والكوارث، وأن على قادة العالَم أن يحرصوا أن الباقين على ظهر الأرض بعد سلاسل الدمار والموت هم خلاصة الأذكياء والأقوياء فقط، وأن تقدم البشرية يعتمد على تلك الفكرة العنصرية الملتوية!

 تلك هي الخدعة الأمريكية الكبرى التي انطلت علينا على مدي عشرات السنين: أنهم الأقوى والأفضل، وأننا غير قادرين أن نصبح مثلهم وأفضل، وأن بيننا وبينهم عشرات السنوات الضوئية علماً وتطوراً. وألا سبيل لدينا لاستعادة أمجادنا القديمة كمشرق عربي مهما حاولنا. وما هي إلا خدعة علينا أن نصرفها عن ثقافتنا؛ حتى نتمكن من التخلص من عقدة الخواجة التي تأصلت فينا رغماً عنا، وآن الأوان لصرفها لاستدعاء ثقتنا في أنفسنا وفي قدرتنا على صناعة مجد وإقامة حضارة.

***

د. عبد السلام فاروق

في المثقف اليوم