آراء
عبد السلام فاروق: أوروبا خائفة من شيء ما!
ما يفعله ترامب الآن أثار دهشة البعض، وأثار مخاوف كثيرين.. تلك الحكومة التي تتشكل وعلى رأسها إيلون ماسك وزيراً لوزراة غير موجودة إلا في عقل ترامب! تلك الحكومة ليس فيها واحد محسوب لا على الديمقراطيين ولا على الجمهوريين. وهي حكومة مرسومة على مقاس إسرائيل! فهل تَسرَّع ترامب عندما أعلن هذا الأمر مبكراً، رغم أن حكماً ينتظره في السادس والعشرين من هذا الشهر قد يقلب عليه الطاولة أو يحرجه ويضطره لتغيير كل خططه..
ترامب صريح، وهو لا يخفي ما سيفعله في أوروبا أو الشرق الأوسط، والجولات المكوكية بين إسرائيل وبين منزل ترامب مستمرة، وهناك قنوات اتصال بينه وبين بوتين. ويبدو أن أوروبا هي أكثر الخائفين مما ينتظرها في العام القادم.
2025. عام القلق
أقل من شهرين على مجيء ترامب رئيساً وعودته للبيت الأبيض. تلك العودة التي ستضع في يديه كل شيء: الكونجرس ومجلس الشيوخ والحكومة، وسوف يكون بمقدوره أن ينفذ وعده، فيحاكم بايدن الذي حاكمه سابقاً ووضع الحديد في يديه!
المدهش أن ساكن البيت الأبيض الآن، ورغم أنه لم يترك السلطة بعد، يبدو أضعف وأقل نفوذاً من ترامب الذي لم يجلس على كرسي الرئاسة لكنه يدير الأمور بقوة، والوفود تأتي إليه هو، من الداخل والخارج، يريدون أن يعرفوا كيف يفكر وماذا ينوي؟! ولا شك أن في جعبته الكثير، لاسيما وقد علم الجميع كيف أنه يفاجئ الآخرين دائماً بقرارات ومواقف وأعمال غير متوقعة. هو ليس سياسياً مقروءاً، بل هو أقرب للاعب قمار مجازف يحب أن يفاجئ خصومه دائماً بخطوات لا يتوقعون حدوثها. ولهذا تقف أوروبا موقف الخائف منه، المترقب لما ينوي فعله.
لقد بدأت حرب أوكرانيا في عهد بايدن. ذلك الرئيس السياسي القديم المخضرم، والذي لن يجازف بخسران علاقته القوية مع حلفائه الأوربيين تحت أي ظرف. بينما ترامب البزنس مان، لا يهمه إن خسر حليفه الأوروبي في مقابل أن يكسب محبة شعبه؛ فكيف يلقي بملياراته في جوف زيلينسكي بينما الشعب الأمريكي يعاني البطالة والتشرد ويشكو من غلاء الأسعار؟
لقد أكد ترامب أن الحرب الأوكرانية الروسية سوف تتوقف بعد يوم من حلف اليمين. ولا توجد طريقة لفعل هذا إلا أن يرفع يد أمريكا من تمويل الحرب، وأن يغادر ساحة القتال ويتركها لباقي دول الناتو الأوروبية تدير معركتها بنفسها. وهذا معناه أن تسيطر روسيا على مقاليد الأمور. حتى لو حدث ما يخطط له ترامب: أن يتم التفاوض على أساس وقف القتال، ووضع قوات دولية محايدة على آخر حدود بين الطرفين المتنازعين، وأن يتم تأجيل انضمام أوكرانيا لحلف الناتو لأجل غير مسمي ترضيةً لروسيا. حتى لو حدث هذا فإن أوروبا ستظل في حالة استنفار مستمرة أمام الدب الروسي الذي سيجدها فرصة لاستعادة قوته، والاحتشاد ضد الناتو، ولن تنام أوروبا ملء جفنيها كما كان سابقاً، بل ستنام كالقطط، بعين مغلقة وأخرى تترقب الحدود الروسية..
ثمة أشياء كثيرة في العالم ستتغير في العام القادم. ترامب سيكون أحد أيقونات هذا التغيير. الوضع في أوكرانيا سيتغير، ومعه ستتغير أوروبا. والحرب في غزة ولبنان لن تبقي كما هي الآن. الأدهى أن أمريكا نفسها ستلحق بقطار التغيير. وسوف تذوق طعم القلق!
أمريكا الجديدة!
الشعار الذي يتشبث به ترامب طوال الوقت: "أن تعود أمريكا عظيمة من جديد". إنه يريد أن يُحدث بها تغييراً حقيقياً يستمر أثره بعد رحيله. وها هي الفرصة قد جاءت له سانحة، أن يفعل ما يشاء. خصوصاً وأن خسارة الحزب الديمقراطي الفادحة، جعلت الساحة كلها مرتعاً لترامب وللحزب الجمهوري، وربما يصبح من الصعب على الديمقراطيين أن يضمنوا استعادة مقعد الرئاسة لسنوات كثيرة قادمة. ما يعني أن نجاح ترامب الكاسح هذه المرة قد يضمن بقاء الحزب الجمهوري لسنوات طويلة، وربما لعقود! تلك مخاوف ناقشتها الصحف الأمريكية بعد الخسارة الفادحة التي مني به الديمقراطيين أمام ترامب. غير أني أري الأمر من زاوية مختلفة..
فالحق أن الحزب الجمهوري نفسه قلق من تصرفات ترامب، لأنه لم يشكل منهم حكومته كما كان متوقعاً، ثم إنه تصرَّف بانتهازية مع الجالية المسلمة، الجالية التي منحته أصواتها في الوقت الذي تخلي عنه اليهود، فإذا هو يأتي بحكومة صهيونية الهوى بالكامل! لقد جعل ترامب الجميع في حالة تحفز، وسوف تستمر حالة الانقسام المجتمعي في الداخل الأمريكي مع استمرار تلك الموجة الترامبية الشعبوية، التي لا تري في الديمقراطيين والجمهوريين إلا جسراً لتمرير خطط ترامب الغامضة، هي خطط تريد أن تبني الاقتصاد لكن على حساب السياسة وعلى حساب الاستقرار المجتمعي.
ستظل الولايات المتحدة الأمريكية في ظل حكم ترامب على الحافة. وسوف يستغل خلو الساحة أمامه ليزيد نفوذه على حساب الديمقراطيين. وهناك مؤسسات أمنية كبري سوف تتأثر بهذا التغيير الذي سيحرص ترامب على إحداثه من أجل ترسيخ أقدام الحزب الجمهوري بعد انقضاء الأعوام الأربعة التي سيقضيها في الحكم. والخوف أن تأتي ردود الأفعال ضد محاولات ترامب لفرض سيطرته بنتائج عكسية تزيد من الانقسامات الحادثة في الداخل الأمريكي. في الوقت الذي ستواجه فيه أمريكا قضايا خارجية كبري: كصعود الصين، وابتعاد الحليف الأوروبي، وحرب البريكس على الدولار، وهجمات الحوثيين، والتهديد الوجودي القائم ضد إسرائيل.
إن ترامب يري أن أمريكا يجب عليها أن تنصرف للتفكير في ذاتها وفى تقوية اقتصادها، ولهذا لا يري حرباً ينبغي خوضها إلا حربه الاقتصادية ضد الصين، وهو لن يكسب هذه الحرب.
نهاية الغرب
هذا عنوان مقال في مجلة "دير شبيجل" الألمانية منذ نحو أسبوع مضي. بقلم "ديرك كوربجويت" يري فيه الكاتب أننا مقبلون على عصر جديد، وتغييرات حادة قادمة لمجرد أن ترامب عاد لتولي السلطة! فمم يخاف الألمان، وما الذي تخشاه أوروبا؟!
الكاتب ينظر حوله فيري كيف أن اليمين يصعد في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، ثم أتي ترامب ليغلق الدائرة. في الوقت الذي ينهار فيه النموذجان: الليبرالي والديمقراطي بمفهومهما الكلاسيكي المعهود وهو ما سيؤدى في النهاية لتفكك الأحلاف، كنتيجة لغياب المشتركات بين هذه القوي. وبالتالي سيزداد الانقسام بين قوي الغرب. وسيكون مجيء ترامب بمثابة العامل السحري الذي سيسرِّع من حدوث الانقسام والتفكك. وبهذا يفقد الغرب قوته القيادية.
يقول الكاتب:(بعد عصر الأيديولوجيات الشمولية، التي كانت بمثابة "أديان سياسية" جاء عصر العقلانية المرتكزة على المعرفة العلمية. كانت السياسة تدار بجدية كبيرة؛ حيث كان الهدف هو منع عودة الفاشية والتصدي للاتحاد السوفيتي. اقتربت الدول من بعضها البعض تحت مظلة الناتو، وزالت الحدود بين دول الغرب، الأهمية الكبرى كانت للتحالفات. كان هذا عصر العولمة والمواطنة العالمية. كان عصراً جيداً رغم عيوبه. ولكنه انتهي للأسف!!).
إن الكاتب يري عدة متغيرات تحدث أمامه: دول تنسحب من الناتو، وهجرة متزايدة أدت لتغيرات ديموجرافية هائلة، ويمين يصعد في أكبر دول أوروبا، وبوتين ينتظر عودة ترامب ليضع يده على الحدود الأوروبية ويعلن انتصاره ولو جزئياً. وترامب سوف يأتي ليكمل المشهد ويغلق الستار، وبهذا ينتهي عهد قديم ويأتي عهد جديد بمفاهيم مختلفة، ونظم سياسية مغايرة. لن يكون فيها ما يسمي بالاتحاد الأوروبي، لأن الناتو نفسه مهدد بالتفكك على يد أمريكا التي صنعته! وربما ينجح البريكس في مسعاه، ويُسقط الدولار من عرشه، فتتغير المفاهيم الاقتصادية تزامناً مع التغيرات السياسية الحادة القادمة حتماً!
في نهاية مقاله ينصح الكاتب بالعودة للإنسانية كمفهوم مشترك إذا أراد الغرب أن يظل قوياً كما كان، إنه ينادي بمفهوم أهدرته الحروب والانقاسامات. وبالتالي فإن الغرب نفسه مهدد بالسقوط والتداعي. وسوف تظل أوروبا في السنوات القادمة خائفة تترقب. وخوفها الأكبر من حلفائها أن يتركوها، ومن اتحادها أن يتفكك.
***
د. عبد السلام فاروق