آراء

غانم المحبوبي: الشعوب أبناء عصرهم

كان لي من العمر أربع سنين عندما اندفعتُ بكل فضول مع السائرين من أطفال وكبار، متجهين الى حيث ينتهي بنا السوق الكبير بالشارع العام الذي يؤدي من النجف الى الحلة وبغداد بعد عبوره نهر الفرات في الكوفة. رأيت حشدا كبيرا من الناس على جانبي الطريق، كنت محشورا بينهم ولكني لم أكن لأعلم لصغر عمري لماذا يحتشد هؤلاء الناس في ذلك المكان. وبعد قليل بدأ الهتاف والتصفيق الحاد يتصاعد عندما مرت امامنا بعض السيارات الفخمة والناصعة قادمة من بغداد ومتجهة نحو النجف بعد عبورها الجسر القريب منا. كان ذلك يوم افتتاح جسر الكوفة الجديد من قبل رئيس وزراء المملكة العراقية السيد "نوري باشا السعيد" في ١٩٥٦.٧.٤، والذي قامت بإنشائه شركة "فيليب هولزمان" الألمانية كأحد انجازات "مجلس الإعمار" الشهير. وفي ذلك المكان أيضا وقرب ذلك الجسر الرائع وعلى كورنيش نهر الكوفة، كانت حكومة المملكة قد أنشأت احدى كبريات مستشفيات العراق في ذلك الوقت "مستشفى الفرات الأوسط"، يُفهم من خلال تسميتها بان تغطي خدماتها الوية (محافظات) الفرات الأوسط الثلاث (الحلة وكربلاء والديوانية). وكشهادة للتاريخ عن مستوى القدرات الطبية المتطورة في عراق ذلك الوقت من العهد الملكي، اتذكر اجراء عملية جراحية في تلك المستشفى لاستئصال احدى كِلى اخي الكبير بنجاح كامل حيث عاش بعدها اخي بكِلية واحدة طيلة حياته حتى وفاته في عمر الشيخوخة رحمه الله. نعم، هذا بعض ما اتذكره من ذلك الازدهار النسبي وانا طفل يعيش في ناحية الكوفة أيام العهد الملكي، فما بالك فيما يدور في ذاكرة أطفال الذوات والمنعمين في العاصمة بغداد؟

وبعد سنتين من ذلك الحدث، قامت ثورة ١٤ تموز سنة ١٩٥٨ وبها قيام الجمهورية العراقية بعد الإطاحة بذلك النظام الملكي وقتل ملكه الشاب "فيصل الثاني" رحمه الله. كذلك ولصغر سني لم أكن لادرك ان كان ذلك التغيير الثوري صحيحا ام لا او مبررا له ام لا، لكني أتذكر عندما كانت جدتي رحمها الله تُخرج من درجها بين الحينة والأخرى صورة الملك "فيصل الثاني" لتقبلها وهي تبكي وتتساءل؛ لماذا قتلوا هذا الشاب البريء السيد ابن رسول الله؟ (باعتباره من سلالة بني هاشم). اما بالنسبة لي، فكانت تلك السنة سعيدة جدا فهي بداية تعليمي الابتدائي كأول دفعة طلابية في العهد الجمهوري، ومما يذكرني بتلك الأيام هو وضع علامة "الضرب" الحسابية او "كروس" فوق صورة الملك والتي سبق وان طبعت على الصفحة الأولى من الدفاتر التي كانت تُعطى لنا مجانا من قبل وزارة التربية، بالإضافة الى جميع الكتب المقررة والاحتياجات القرطاسية كالأقلام والمساطر والماسحات و"المقطات". كذلك كنا نتمتع مجانا بشرب الحليب الحار وبقطع الكعك في الصباحات الباردة وكبسولات دهن السمك وحقن اللقاحات الضرورية. وفي الصف كنا نغني فرحين بأناشيد مثل (عبد الكريم كل القلوب تهواك ... عبد الكريم رب العباد يرعاك ...) وغيرها. يظهر ان العراق كان مستمرا في طريق التمدن عبر إنجازات كثيرة ومنها الكثير من مشاريع ذلك "مجلس الاعمار" الخالد، كذلك كان يسير في طريق التحضر أيضا في مجال التعليم والبحث العلمي والعدالة الاجتماعية والاهم من ذلك التحرر من الاستغلال الاقطاعي والتجاري والاطماع الاستعمارية. بالرغم من الشعبية العالية والرضى الواسع من قبل اغلبية الشعب العراقي لنظام الحكم آنذاك، لم تكن الخمس سنين الأولى من العهد الجمهوري هي الفترة المثالية والمرجُوة بالمقياس العام المعاصر، من غير ان يستتب فيها او يبدأ منها حكم ديموقراطي في العراق تتناقل فيه السلطة بشكل سلمي متحضر.

وبعد تلك الفترة المزدهرة جاءت سلسلة من عواصف التراب النتنة مبتدئة في رمضان ١٩٦٣، لتنتهي في نيسان ٢٠٠٣ مرورا ١٩٦٨ وتموز ١٩٧٩، لتغطي ربوع العراق المتنوعة والوانها القزحية البهيجة بلون رمادي وحيد وكئيب ويسقط العراق بمجده المتراكم عبر الازمان من فوق حصانه لتدوسه حوافر الحمير ومخالب الثعالب.

وبعد تلك المآسي الإنسانية العنيفة والاضطرابات النفسية التي عاشها العراقيون، وبدلا من ان يستنبطو الدروس الصحيحة والعبر المفيدة، يظهر انهم اضاعوا البوصلة وتاهوا حتى وصل بهم الامر وكعادتهم ان يرموا بأخطائهم على الغير، وما يشغلهم الآن من شاغل على سبيل المثال سوى الطعن بمصداقية ثورة تموز ١٩٥٨ والحنين الى ما كان قبلها من الفترة الملكية، وفي حالات شاذة هناك من يحن الى سنين السبعينات من القرن الماضي.

وفي هذه المناسبة دعنا نلقي بعض الضوء لنقارن بين بعض الحقائق والميزات في عهدين من تاريخ العراق الحديث، بين ما قبل وبعد ثورة تموز ١٩٥٨:

- قامت بريطانيا المستعمرة للعراق بوضع أسس نظام الحكم في ١٩٢١، بتنصيب ملكا اجنبيا لعرش العراق "فيصل الأول" بعد استيراده من الخارج، وتعيين "عبد الرحمن النقيب"، المعارض لثورة العراق الشعبية في ١٩٢٠ بل المطالب ببقاء النفوذ البريطاني في العراق، من قبل ذلك الملك كأول رئيس للوزراء، واختيار وزراء ليس لهم أي دور في الثورة العراقية التي أدت الى استقلال العراق.

- قرر الضباط الاحرار في ١٩٥٨ وبدون أي املاءات خارجية بتشكيل مجلس السيادة من عراقيين مدنين وعسكريين، واختيار "عبد الكريم قاسم" باعتباره ذي اعلى رتبة عسكرية وقائدا لثورة تموز رئيسا لأول حكومة في جمهورية العراق في ١٩٥٨.

- قرر المحتل الأمريكي في ٢٠٠٣ بتشكيل مجلس الحكم من شخصيات عراقية تمثل التنوع المجتمعي العراقي، ليتم تعين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء من قبل البرلمان العراقي المنتخب بعد ممارسة ديموقراطية شعبية عامة.

- لم يكن هناك باس لو حاولت السلطات في عهد الديموقراطية البريطانية في أيام العهد الملكي تحسين معيشة الأغلبية الساحقة من المواطنين المحتاجين الى التعليم والصحة والخدمات العامة والعمل الكريم والابتعاد عن الهيمنة الاستعمارية، ثم نقل السيادة وقرار الحكم تدريجيا الى الشعب والتركيز على مصالح الدولة المستقبلية. ولما كانت اغلبية الحكومة والسلطة الملكية من عسكريين عثمانيين غارقين في تبعيتهم وولائهم للمستعمرين، فلم يحدث مثل ذلك مع الأسف الشديد، بل كان الاضطهاد والاستبداد قائما وطيلة ٣٧ سنة من الحكم مما تسبب في ثمان (٨) محاولات انقلابية عسكرية وما قد يبرر عملية الإطاحة الأخيرة الناجحة بالنظام الملكي وإقامة الجمهورية.

- كذلك، وبالرغم من إنجازاتها الشعبية الرائعة، تمنينا لو اسرعت حكومة ثورة تموز ١٩٥٨، بتأسيس بوادر النظام الديموقراطي الدستوري، وهو ما اظن ما كان مقرر له، لما سنحت الفرصة لانقلاب شباط ١٩٦٣ الدموي الفاشي.

- اما النظام الديموقراطي الحالي فلا اظن فيه عيبا جوهريا لنرمي عليه اخطائنا، بل قد يكون اصلح وسيلة انتقالية من الاستبداد السابق المفرط الى النظام الديموقراطي المدني المتحضر. ولكن، لطبيعة العقلية العراقية الحالية وتعقيداتها التاريخية والعقائدية والاثنية، لم يحاول العراقيون ان يطوروا وينقوا نظامهم الديموقراطي من شوائبه العالقة، بل كان جل اهتمامهم على كسب المصالح الذاتية والشخصية الفئوية والفساد حتى هملوا العراق وإدارة الدولة المدنية المعاصرة واوصلوه الى ما هو عليه الان.

ومع ذلك، ان اهم وأفضل ما جناه الشعب العراقي بعد تغيير ٢٠٠٣، هو ممارسة التجربة الديموقراطية الحالية بشكل متحضر ونقل السلطة بناءً على النتائج الانتخابية. وبالرغم من كل الشوائب والسلبيات، فلا بديل للأمن والسلام والبناء والتحضر الا بالمحافظة على النظام الديموقراطي والزمن أفضل كفيل في تنقيته وتطويره.

وأخيرا، اقولها وبشكل واضح ومختصر؛ من يعيش في الماضي يمنع نفسه من الوصول الى المستقبل. فالأوطان كالأشخاص قد تمرض وتصاب بجروح وكسور وما يضمن العيش الكريم لهم هو معرفة الأسباب والعلاج الصحيح، وما هو مطلوب للعراق هو لملمة شمل الشعب والاعتماد على قدراته المعنوية وموارد الوطن الطبيعية في البناء والتحضر. فصناعة المستقبل تعتمد على معطيات الحاضر (لا الماضي) من مفاهيم وقيم وعوامل متعددة كالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد والسياسة، وما من حدث او مفهوم او معتقد كان يوما في التاريخ الا وفيه القليل او الكثير من الخطأ او النقص في ميزان الحاضر. لم تكن الثورة الفرنسية في ١٧٨٩ ولا البلشفية في ١٩١٧ ولا الصينية في ١٩٤٩ ثورات نزيهة بيضاء، لكن أصبحت وتبقى بعدها فرنسا وروسيا والصين تتصدر قمة الدول في هذا الكوكب، لقد جاء الجمهوريون بإيجابياتهم وقضوا على سلبيات الملكيين، وكان للملكيين ايجابياتهم التي طمسها الجمهوريون، ومن العبث ان نمجد او نسخف ايً منهم فهم صناعة عصرهم ونحن أبناء عصرنا. لقد نال العراقيون استقلال بلادهم في العهد الملكي، واقاموا جمهوريتهم بعد ثورة تموز ١٩٥٨، ومارسوا الديموقراطية بعد نيسان ٢٠٠٣، وما عليهم الان الا العمل الجاد وبإخلاص نحو التحضر والتقدم.

***

الدكتور غانم المحبوبي

أكاديمي، ملبورن، استراليا

في المثقف اليوم