آراء

غريب دوحي الناصر: تموز في الأساطير العراقية القديمة

"صحا من نومه الطيني تحت عرائش العنب

صحا تموز عاد لبابل الخضراء يرعاها "

بدر شاكر السياب

في الميثولوجيا العراقية القديمة يعد تموز رمزاً مقدساً، وقد ارتبط اسمه بالوفرة والإنتاج، فهو إله الخصوبة والربيع، وهو المبدأ الذي ظل لقرون عديدة مرتبطاً بالولادة ثم النمو والاضمحلال والموت والعودة مرة ثانية الى الحياة. ارتبط اسم تموز بحبيبته وزوجته "عشتار" وهي آلهة الحب والجنس لدى سكان بلاد الرافدين وتسمى في السومرية "انانا"، أي سيدة السماوات، أما عشتار فهو الاسم السامي "البابلي" لها وهي كما تقول الاسطورة ثمرة زواج القمر من الشمس فهي تمثل "الزهرة" ذلك الكوكب اللامع في السماء وقد عبدت في بلاد الرافدين ومناطق اخرى كالجزيرة العربية.

تقول الاسطورة: ان عشتار بعد ان عادت من رحلة شاقة جابت خلالها السماوات والارض جلست تحت شجرة في أحد الحقول فغطت في نوم عميق وكان فلاح الحقل يراقبها من بعيد فتسلل اليها كالشبح بين الأشجار وتمكن من مضاجعتها ولما استفاقت من نومها ورأت ما حل بها أمرت الأعاصير المحملة بالغبار ان تقتلع أشجار الحقل انتقاما لنفسها وعندما عادت أدراجها الى بيتها أخبرت أمها بما حدث لها، وبما ان لعشتار عشاقا كثيرين ومنهم "تموز" أو "الراعي"، وهو أحد ألقابه فقد نصحتها والدتها ان تتزوج من تموز إلا انها رفضت في بداية الأمر لأن قلبها كان متعلقاً بحب فلاح من المدينة لكنها في النهاية غيرت رأيها وقبلت الزواج من تموز.

ويبدو أن هذا يعكس الصراع الحضاري في بلاد الرافدين بين البداوة السائدة الغالبة وطبقة الفلاحين المغلوبة حسب تعبير الدكتور علي الوردي، فقد فضلت عشتار اولاً الفلاح ــ الحضارة إلا انها في نهاية المطاف قبلت الزواج من الراعي "تموز" الذي يمثل البداوة كون المرأة تحب قيم الرجولة والبطولة التي تتجسد في البدوي، وهذا ما يماثل اسطورة قابيل وهابيل الواردة في التوراة حيث اهدى هابيل الى الرب التين الذي يرمز الى الزراعة بينما اهدى قابيل الى ربه كبشا من الغنم وهو رمز الرعي والبداوة إلا ان الرب لم يقبل هدية قابيل حيث اغضب ذلك قابيل وقتل أخاه وهي اسطورة تعكس الصراع بين قيم الحضارة والبداوة أيضاً.

وقد اتفق تموز مع عشتار على الزواج ، ويصف المؤرخ الشهير صوموئيل كريمر في كتابه (من ألواح سومر)  وصول تموز الى بيت خطيبته.. وصل تموز الى بيت عشتار والزبد واللبن يقطران من يديه وجوانبه ومعه الهدايا: خبز وعسل وأخذ يلح في الدخول وبعد أن تستشير أمها في الأمر تزين نفسها بالأحجار الكريمة ثم تفتح الباب لعريسها المرتقب.

الزواج المقدس

لم يدر في خلد تموز ان هذا الزواج سيجره الى متاعب كثيرة لأن طموح عشتار لا حدود له فبالرغم من ان أمها كانت سيدة السماء إلا أن طموحها قد امتد الى العالم الأسفل كي تحكمه أيضا ولهذا هبطت الى العالم السفلي الذي سماه البابليون الأرض التي لا رجوع منها والعالم المظلم الذي تملأه الخفافيش ويأكل أهله الطين ويشربون الماء العكر وتذكر الرقم الطينية السومرية والبابلية ان هذا العالم عبارة عن عالم مخيف له سبعة أبواب ويحظر على سكان العالم العلوي النزول اليه إلا بعد الموت والذي يدخل اليه ينبغي أن يمر عبر بواباته السبع وانه لا يستطيع الخروج إلا بعد أن يقدم بديلا عنه وهذا جزء من نواميس العالم السفلي. وكانت هذه البوابات يحرس كل باب منها شيطان، وحين نزلت عشتار اعترضها حارس الباب الاول وعندما اخبرته بأنها عشتار وان اختها هي إلهة العالم الاسفل رحب بها لكنه انتزع عنها تاجها وحين اعترضت قال لها: انها نواميس العالم الأسفل وفي الباب الثاني جردها الحارس من قرطيها وفي الباب الثالث تم تجريدها من قلادة في عنقها وفي الباب الرابع جردها الشيطان من زينة في صدرها وفي الباب الخامس ازيل من خصرها نطاقها وفي السادس من اساورها وفي الباب السابع جردت من كل شيء فأصبحت عارية، غير ان حارس البوابة السابعة اعترض على دخولها لكنه لما رأى جسمها عاريا يتلألأ وأذهلته هندسة تكوين نهديها انحنى لها معتذرا سامحا لها بالدخول فدخلت عشتار وواجهت اختها حيث كانت جالسة على عرشها يحيط بها عدد من الملائكة الشداد فصرخت اختها صرخة مدوية جعلت موتى العالم الأسفل يستيقظون من سباتهم قائلة لها: من الذي سمح لك بالدخول ثم القت عليها نظرة الموت فحولتها الى جثة هامدة .

تدخل الهة السماء

لكن آلهة السماء تدخلت فعادت عشتار الى الحياة وطلبت من اختها ان تغادر فورا على أن تقدم بديلا عنها فعادت عشتار الى العالم العلوي مع الشياطين السبعة وعندما وصلت الى مدينتها رأت زوجها تموز وقد ارتدى أجمل ثيابه جالسا غير مكترث بما حل بها فأمرت الشياطين السبعة أن يأخذوه بديلا عنها فتم القاء القبض عليه وانزل الى العالم الأسفل وتستطرد الاسطورة قائلة ان قلب عشتار قد رقّ لزوجها فتوسطت لدى أختها أن يكون نزوله مؤقتا حيث يعيش ستة اشهر في العالم الأسفل وستة اشهر اخرى في العالم العلوي لأن تموز لا يمكن ان يموت، ومن هنا بدأت مأساة تموز وما جاء في الأسطورة ما هي إلا رموز ودلالات على تعاقب فصول السنة .

مرحى لتموز وهو يجدد شبابه في كل عام بذكرى ثورة 14 تموز المجيدة وقائدها التموزي الخالد عبد الكريم قاسم .

***

غريب دوحي الناصر

في المثقف اليوم