آراء
علي فضيل العربي: أمريكا وأخواتها والمسلمون ومأساة غزة
أخشى – ما أخشاه - أن يستيقظ العالم بعد فوات الأوان فيجد أهل غزّة، إمّا في القبور أو في الشتات أو في العراء أو جرحى في انتظار الموت السريع أو البطيء. وما جدوى البكاء والتنديد والاستنكار وصراخ الجماهير في الشوارع بعد إتمام فصول المذبحة في غزّة؟ إنّ البكاء على غزة بدعة العاجزين. فإنّ دماء الغزّاويين ودموعهم ستجرف عروش الخائنين والصامتين والمدبرين والمطبّعين والمستسلمين وأشباههم كلّهم.
ماذا جنى أطفال غزّة وصبيانها ونساءها وشيوخها حتى تسلّط عليهم الصهيونيّة والغرب معا كلّ هذه الألوان من العذاب المادي والمعنوي؟ لماذا عجز الضمير الإنسانيّ عن وقف الآلة الحربيّة الصهيونيّة عن ارتكاب هذا الكمّ الفظيع من الجرائم في غزّة؟ ماذا ينتظر العالم (الحرّ، المتحضّر) كي يوقف الجنون الصهيوني الأرعن، لم يشهد العالم مثيلا له في هذا العصر الحريص على حقوق الإنسان والحيوان؟ هل فقد العالم (الافلاطوني، الديمقراطي) البصر والبصيرة والسمع والفؤاد والحياء أمام مشاهد الدمار والإبادة؟ أم أنّ أهل غزّة والضفة كائنات خارج المنظومة البشريّة؟
إذا لم تُصنّف جرائم الصهاينة في غزّة في خانة الإبادة الجماعيّة والسلوك الهولوكوستي الشنيع، ففي أيّ خانة تُصنّف؟ الإبادة الممنهجة متواصلة على قدم وساق. والضحايا من كلّ مكوّنات المجتمع الفلسطيني يرتقون في كلّ دقيقة إلى ربّهم، والعالم مازال يمارس طقوس اللامبالاة والتجاهل والتماطل ولسياسة العمياء والتغاضي. إنّهم يمنحون مزيدا من الوقت للكيان الصهيوني من أجل رفع فاتورة الانتقام، ومزيدا من القبور لأطفال غزّة ونسائها وساكنتها عامة. لقد فهم الأحرار، لماذا فقدت أمريكا وأعوانها وأذنابها العقل والضمير الإنساني؟ إنّهم، جميعا، يريدون أن يحوّلوا غزة إلى مقبرة جماعيّة، تكون شاهدا على قوّة الغرب حين يغضب، ودرسا قاسيّا للشرق حين يتجرّأ على معاداة الغرب. وللأسف مازال القتلة للفلسطينيين في غزّة والضفة والقدس وفي المنافي وفي مخيّمات اللجوء، يسخرون من العالم، ويخاطبون العالم بلغة عاريّة من الحقيقة، متخمة بالكذب والادّعاء. يصفون جيشهم البربري بأنّه جيش دفاع وهو يهاجم الأبرياء، وأنّه جيش أخلاقيّ، ويعدم الأبرياء معصوبي الأعين، وقيّدي الأيدي وراء ظهورهم، يهدم آلاف الأطنان من الأسمنت على رؤوس الأطفال والنساء زاعما أنّه يحارب الإرهاب. وهل أصيب الساسة الغربيّون الداعمون بالعمى والصمم والبكم أمام تلك المشاهد المروّعة التي فاقت فظاعتها الخيال وتعدّت الجنون؟
إنّه لأمر يُحيّر الألباب، ويُشيِّب الولدان، أن يرتكب الصهاينة هذا الكمّ الفظيع من جرائم الإبادة الجماعيّة في غزّة، والأمم التي تدّعي الدفاع عن الديمقراطيّة والحريّة وحقوق الإنسان لا تحرّك ساكنا، وكأنّ الذين يُقتلون بالأسلحة الغربيّة في غزّة ليسوا من سلالة البشر. هل اقتنع الساسة الغربيّون أن الكيان الصهيوني لا يقاتل في غزّة بشرا، بل حيوانات ووحوشا كما قال وزير دفاع العدو الصهيوني. إنّهم يمارسون الحرب من أجل الحرب، او كما قال توماس دو كوانسي: " الحرب صارت من الفنون الجميلة ". والصواب، أنّها صارت من الفنون القذرة. إنّ جيش الاحتلال الصهيوني الذي اقتحم غزّة بعد السابع أكتوبر، لم تكن مهمّته تحرير الرهائن لدى الفصائل الفلسطينيّة، بل كانت مهمّته القتل والتخريب،" ما أشبهه بذلك الضابط الذي يتحدّث عنه روبير ميرل في روايته " مهنتي هي القتل "، وهي شبيهة بفكرة شانغارينيي، لأنها تكشف عن الرغبة المسيطرة على نفوس العسكريين، وهي نيل المجد، وإخضاع البلاد. إنّها الحرب، أو التغنّي الرومنسي بالتقتيل " (1)
و قد كتب القبطان كلير: " إنّ الحرب التي نقوم بها اليوم في الجزائر حرب استثنائية.. فلا تُتّبع فيها القواعد المقررة في الحروب الكبرى والصغرى، والانضباط بين الجنود قليل، والتكوين العسكري يكاد يكون مفقودا، وكل ضابط يتصرّف كما يريد.. " (2)
لقد اقتحم مشاة الموت والطوابير الجهنّميّة لصهيونيّة غزّة من أجل ممارسة حرفة القتل والإبادة الجماعيّة المعتادة، منذ النكبة الأولى.
الزائر أو العائد اليوم إلى غزّة من معبر رفح، أو أيّ زاوية أخرى، سيكتشف عالما آخر من الخراب والدمار. لم تنج من آليات العدو الجارفة، ودبّاباته البيوت والمحلاّت والطرقات والأشجار. منظر يفوق منظر المدن الساحلية التي ضربها التسونامي ذات يوم. مشهد دراميّ يفوق ما آلت إليه هيروشيما ونكازاكي إثر إلقاء القنبلتين النوويتين عليهما في الحرب العالمية الثانية. يتساءل الشاهد والألم يعصر قلبه: هل، حقّا، مرّ من هنا بشر؟ هل يمكن يصدّق المرء العاقل مقولة، من هنا مرّ جيش الدفاع الصهيوني، بل عصابات جيش الهجوم الصهيوني؟ لا، يمكن أن نصدّق أنّ بشرا مرّوا عبر شوارع مدن وقرى غزّة. بشرا لهم عيون وقلوب ومشاعر وعقول. إنّ الشاهد، ليتعجّب، كيف يصدر هذا السلوك الهمجي التتاري من آدميّ يدّعي الانتماء إلى العرق السامي زورا وبهتانا؟
لقد وصف المؤرخ روسي العمل الإجرامي الذي أقدم عليه الكولونيل بيليسيي سنة 1845 م في منطقة الظهرة بغرب الجزائر حين أحرق عرش أولاد رياح في إحدى المغارات التي فرّوا إليها ولجأوا فيها قائلا: " كان الحريق قد وصل إلى أمتعة اللاجئين. وفي الليل خُيّل للجنود أنّهم يسمعون ضجة لا تكاد تبين، وصيحات خافتة، ثم ساد صمت عميق. وفي وقت مبكر من الصباح استطاع بعض الرجال أن يخرجوا من المغارات فسقطوا مخنوقي الأنفاس أمام الحرس، وكان الدخان الذي انتشر في المغارات كثيفا مؤذيا إلى حدّ أنّ الجنود لم يتمكنوا في بداية الأمر من الدخول. على أنّنا كنّا بين الحين والآخر نرى مخلوقات بشريّة مشوّهة تخرج من المغارات زحفا على البطون، فيحاول آخرون ممن بقي متمسّكا بمبادئه إلى آخر رمق أن يمنعوهم من الخروج. وحينما تمكنّا في آخر الأمر من زيارة ذلك الجحيم بعد أن خمدت فيه النيران، عددنا أكثر من خمسمائة من الضحايا، ما بين رجال ونساء وأطفال. وقد أصيب جميع الحاضرين بوجوم شديد لهول الفاجعة " والحقيقة أنّ قوله " أكثر من خمسمائة من الضحايا " يعني ما يزيد على الألف. (3)
أمّا المسلمون؛ بعربهم وعجمهم، بجامعتهم الأعرابيّة ومنظمتهم الإسلامويّة، فينطبق عليهم المثل العربي السائر: أحشفا وسوء كيلة. فقد اجتمت فيهم خصلتين؛ الصمت والعجز. لقد خذلوا أهل فلسطين في غزّة ولم ينصروهم، واعتقدوا أنّ القضية قضيّة خبز وطحين وكفن لدفن الشهداء. ونسوا أنّ غزّة والأقصى وفلسطين كلّها ثارت من أجل الحريّة والعزّة والكرامة. لقد خدع المسلمون فلسطين منذ النكبة الأولى 1948 م، وادّعوا أنهم منتصرون لها ومدافعون عنها ومجنّدون للشهادة أو النصر من أجلها. اجتمعت ألسنتهم وتفرّقت قلوبهم، بينا الكيان الصهيوني يتباكى بكاء التماسيح إلى أن استعطف الغرب واستماله وانتفع من مساعداته.
و انخدع الفلسطينيّون، وظنّوا أنّ أبناء العمومة وإخوان العقيدة، سيعيدون لهم أرضهم المغتصبة. ونسيّ الفلسطينيّون أنّ الحريّة لا تؤخذ بالوكالة، وأنّ الثورات التحرّرية قادتها ومجاهدوها وشهداؤها أبناء الوطن. وليتهم استلهموا ذلك من ثورة نوفمبر الجزائريّة، وكفاح جنوب إفريقيا والثورات التحرريّة في إفريقا وآسيا وأمريكا اللاتينيّة. لقد صدّق الفلسطينيّون أبناء العمومة وإخوان الملّة، بينا الكيان الصهيوني يكبر يوما بعد يوم، ويُعدّ العدّة والعدد في السرّ والعلن. إلى أن أمسى غولا يهابه أبناء العمومة، ويسعون للتطبيع معه سياسيا وثقافيّا واقتصاديّا وعسكريّا. إنّها الطامة الكبرى أيّها السادة.
لقد مارست ألمانيا الإبادة الجماعية في ناميبيا من عام 1904 إلى عام 1908، ومارست فرنسا الاستعمارية الإبادة الجماعيّة من 1830 إلى 1962 م، ومارس المهاجرون الأروبيّون الإبادة الجماعيّة في العالم الجديد) القارة الأمريكيّة، جنوبها وشمالها) وفي أستراليا، ومارس قبلهم النصارى القشتالبيّن بقيادة إيزابيلا وفرديناند الإبادة الجماعية بُعيد سقوط الأندلس ومارست إيطاليا الإبادة الجماعيّة في ليبيا،ى ومارست الولايات المتحدة الأمريكيّة، التي تعتقل تمثال الحريّة الإبادة الجماعيّة في هيروشيما ونكازاكي وفي الفيتنام والعراق وأفغانستان ومارس الصرب العنصريّون الإبادة الجماعيّة في سيبرينيتشا البوسنيّة. إذن، الإبادة الجماعيّة فلسفة غربيّة استعماريّة ممنهجة ومقصودة، هدفها القضاء على الآخر قضاء مبرما. والصهاينة هم تلاميذ الغرب، وهم خريجو المدرسة الغربيّة الاستعماريّة الإرهابيّة. إنّ ظاهرة الإرهاب، التي أرّقت العالم، وبثّت الرعب في الشعوب، وشغلت المنابر السياسيّة، هي صناعة غربيّة مخابراتيّة خالصة، سواء بأيد غربيّة خالصة، أو بأيدي مرتزقة وعملاء من الشرق والغرب. هدفها السيطرة على مقدّرات الشعوب المستضعفة. ظاهرة الإرهاب نابعة من فلسفة غربيّة استعماريّة، آلياتها قائمة على إلغاء الآخر والسيطرة عليه. أصولها لاهوتيّة ثيوقراطيّة ÷دفها الأساسي محاربة الإسلام وكل ما هو مظهره دينيّ. لا عجب، ونحن نشاهد يوميّا إبادة جماعيّة ممنهجة في قطاع غزة والضفة وكامل فلسطين تقودها عصابات إرهابيّة صهيونيّة لا تمتّ لليهوديّة والإبراهميّة بصلة، بل هي خطر داهم على اليهود الذين لم ينخرطوا في التيار الصهيوني، ويبدون للعلم، علنا، معارضتهم للإيديولوجيّة الصهيونيّة القائمة على القتل الفردي والجماعي، بقيادة رهط من الصهاينة في فلسطين والغرب عموما. لنكن، واضحين وعادلين، وموضوعيين ونسال الغرب المتصهين – ونحن نتوقع نوع الإجابة سلفا: من هو الإرهابي الحقيقي؟ هل الذي يدافع عن أرضه وعرضه وماله ومقدّساته وحريّته إرهابيّ، أم المغتصب الظالم، القادم من الشتات، المقتحم لبيوت الامنين؟ إنّ الإجابة واضحة، لا لبس فيها. والعجيب في هذا العالم المكشوف العورة، أن نسمع زعماء الإرهاب الصهاينة في فلسطين المحتلة وفي الغرب، يزعمون بأنّ حربهم على أطفال غزّة ورضّعها وخدّجها ونسائها ومرضاها، هي حرب على الإرهاب. هكذا انقلبت موازين القيّم الإنسانيّة في الغرب المتصهين، وهو انقلاب قديم. فقد قامت الثورة الفرنسيّة بإسقاط الملكيّة والاستبداد في النصف الثاني من القرن السابع عشر، ورفعت شعارها المزيّف (الحريّة، الأخوة، المساواة) و، وفي النصف الأول من القرن الثامن عشر، كانت سفنها الحربيّة تنزل الغزاة على شاطيء سيدي فرج غرب الجزائر العاصمة. وأعدمت، بل وأبادت فرنسا الاستعماريّة أكثر من خمسة ملايين جزائري. لقد خاضت فرنسا الاستعماريّة حربا صليبيّة في ربوع الجزائر من أجل القضاء على الإسلام واللغة العربيّة والسيطرة على الثروات ونهبها. وهذا بشهادة عساكرها وضباطها المجرمين. كتب الكولونيل فوري في سنة 1843 م عن غزو الجزائر: " انطلقت من مليانة وشرشال سبعة طوابير بهدف التخريب واختطاف أكبر عدد ممكن من قطعان الغنم، وعلى الأخص اختطاف النساء والأطفال، لأنّ الوالي العام (وهو بيجو) كان يريد بإرسالهم إلى فرنسا، أن يلقي الفزع في قلوب السكان " (4) وأضاف: " اختطفنا في هذه الحملة ثلاثة آلاف من رؤوس الغنم، وأشعلنا النار في ما يزيد على عشرة من القرى الكبرى، وقطعنا أو أحرقنا أكثر من عشرة آلاف من أشجار الزيتون والتين وغيرها " (5). أمّا أبناء الجزائر، المقاومون، الشجعان، الأحرار، فقد استشهدوا وسالت دماءهم الطاهرة فداء للحريّة والكرامة. استعملت فرنسا وسائل الإرهاب كلّها من أجل إخضاع الأمّة الجزائريّة لإرادتها، استعملت أساليب الإبادة الجماعيّة (تدمير القرى والمداشر والدواوير) وتفقير الشعب وتجويعه، والتعذيب والنفي والإعدام بالمقصلة وبالرصاص والحصار بالاسلاك الشائكة المكهربة (خطا شال وموريس) واستعملت أفرادا جزائريين في تجاربها النوويّة بالصحراء (منطقة عين إن إيكر ووادي الناموس) وأقامت المحتشدات. كان الإرهاب الفرنسي فظيعا لا يقل فظاعة عمّا يقوم به الصهاينة في غزّة اليوم. وارتكبت الفاشية الموسولينيّة الإيطاليّة أفظع جرائم الإبادة الجماعيّة في ليبيا في النصف الأول من القرن العشرين.
إنّه لمن المؤسف – حقّا – أن تتصدّر الولايات المتحدة الأمريكيّة الدول الكبرى الداعمة للإبادة الجماعيّة في غزّة – وهي جريمة إرهابيّة شنيعة -. أليست هي الدولة التي ينتصب على أرضها تمثال الحريّة وتضم مكاتب الهيئات الدوليّة المعتمدة؛ مجلس الأمن والجمعية العموميّة للأمم المتحدة وغيرها؟ أليس من التناقض العجيب أن تستغّل الولايات المتحدة الأمريكيّة حق الفيتو لمنع وقف إطلاق النار وتعطيل السلام في الشرق الأوسط؟
***
بقلم: علي فضيل العربي – ناقد وروائي جزائري
...............................
هامش: 1، 2، 3، 4، 5 – مصطفى الأشرف – الجزائر الأمّة والمجتمع – ترجمة د. حنفي بن عيسى – المؤسسة الوطنية للكتاب – الجزائر – 1983.