آراء
قاسم حسين صالح: الفقر في الوطن غربة.. الأغتراب والأنتخاب!
(الفقر في الوطن غربة).. مقولة سبق بها الأمام علي الفلاسفة وعلماء النفس والأجتماع بأكثرمن ألف سنة!. ومقولته البليغة هذه تثير تساؤلين:
الأول: عادي جدا ان يصاب الأنسان، لاسيما المثقف، بالاغتراب اذا كان النظام دكتاتوريا، وغريب جدا ان يعيشه اذا كان النظام ديمقراطيا.. لكن هذا الغريب موجود فعلا في النظام الديمقراطي بالعراق من عشرين سنة!.. فلماذا؟
والثاني: هل للأغتراب علاقة بالأنتخابات؟.. اعني كيف سيكون موقف المصاب باغتراب منها؟
بدءا نعيد القول ان مفردة (الأغتراب) تبدو لكثيرمن العراقيين، حتى المثقفين كأي مفردة أخرى!.. مع انها شغلت اهتمام الفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع وكتبوا عن (الأغتراب) مؤلفات، نوجز خمسة مفاهيم لمفكرين كبار يختلفون ايديولوجيا:
* الأغتراب هو انفصال او تنافر ينشأ بين الفرد والبيئة الأجتماعية (هيجل).
* هو تلك الحالة التي لا يشعر فيها الانسان بأنه المالك الحقيقي لثرواته وطاقاته، وخضوعه لقوى خارجية لا تمت له بصلة (اريك فروم)
* الأغتراب عن الذات أمر ناجم عن ظروف الحياة المعاشة في عالم يتسم بالعبثية واللامعنى (سارتر)
* الحضارة هي مصدر الأغتراب مع ان الانسان هو الذي اسسها دفاعا عن ذاته ازاء عدوان الطبيعة فجاءت على نحو يتعارض وتحقيق أهدافه ورغباته (فرويد)
* الأغتراب ناجم عن انفصال الأنسان عن الطبيعة عن طريق العمل والأنتاج، ومع ازدياد قدرته في السيطرة عليها فأنه يواجه نفسه كشخص غريب محاطا باشياء هي من نتاج عمله ومع ذلك تتخطي حدود سيطرته وتكتسب قوة متزايدة (ماركس).
وكان روسو اول من استخدم تعبير (الغربة) حين رأى بعض النواب لا يمثلون الشعب، فوصف الهيأة النيابية بأنها أداة حكم وليس أداة للتعبير عن الأرادة العامة، وأن مجلس النواب (لا يمثلون الشعب ولا يمكن أن يمثلوه، وأن السيادة لا تمارس بالأنابة). وفي مؤلفاته (اللامنتمي، ما بعد اللامنتمي، سقوط الحضارة) توصل ممثل الوجودية الجديدة، كولن ولسن، من تحليله لأعمال كتّاب وفنانيين معروفين (ويلز، كامو، سارتر، فان كوخ، دستيوفسكي..) الى ان حالة الغربة التي عاشوها كانت بسبب وقوفهم ضد المجتمع ومن اجله.
من جانبنا نرى ان الاغتراب هو حصيلة تفاعل ستة اسباب نلتقط منها اثنتين هما:
العجز: ويعني احساس الفرد بأنه لا يستطيع السيطرة على مصيره، لأنه يتقرر بعوامل خارجية اهمها انظمة المؤسسات الاجتماعية.
فقدان الهدفية، او فقدان المعنى: ويعني الاحساس العام بفقدان الهدف في الحياة.
ما يعني ان المغترب يدرك أمرين، أن مصيره تقرره قوة خارجية (سلطة، حزب.. .)، وانه عاجز عن الوقوف بوجهها، فيوصله ادراكه لواقعه هذا الى ان حياته لا معنى لها .. وسؤال قاس يوجهه لنفسه: (ما دام حياتي ما بيها كل معنى.. ليش عايش؟)!
ولأن العراق هو بلد المثقفين فان متابعتنا لحالهم تكشف ان النخبة منهم (مفكرون، أصحاب رأي، أدباء، صحافيون..) يشعرون بالتهميش، وان الدولة في الزمن الديمقراطي ما عادت تهتم بهم ولا ترعى منجزاتهم الابداعية، فيما الأقل منهم شأنا يحتلون مراكز متقدمة بمؤسساتها ويحظون بالامتيازات.
بسببهم.. (13) مليون فقير!
كتب الأمام علي الى عثمان بن حنيف عامله على البصرة وقد بلغه انه دعي الى وليمة قوم من اهلها فمضى اليها جاء فيه: (اما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني ان رجلا من فتية اهل البصرة دعاك الى مأدبة فاسرعت اليها تستطاب لك الالوان وتنقل اليك الاجفان "الصحون"، وما ظننت انك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفو " اي مواطنهم فقير". الا وان لكل مأموم اماما يقتدي به ويستضيء بنور علمه. الا وان امامكم قد اكتفى من دنياه بطمرية "الرداء العتيق"، ومن طعمه بقرصيه (رغيف) . الا وانكم لا تقدرون على ذلك ولكن اعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد، فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا(ذهبا)، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا اعددت لبالي ثوبا طمرا).
وما حدث ان وزارة التخطيط اعلنت ان هناك 13 مليون فقيرا دون مستوى خط الفقر في بلد يعدّ هو الأغنى في المنطقة وأحد اغنى عشرة بلدان في العالم، وأن الذين افقروهم يتصدرهم من يدعون انهم احفاد الأمام وأخلص شيعته الذين خاطبناهم قبل عشر سنوات بالقول: (تأملوا انفسكم فانتم والله بالضد تماما من امامكم.. لبستم الذهب، وجلستم على كراسي الأبهة والفخامة المطلية بلون الذهب، وفعلتم هذا وهو القائل (الفقر في الوطن غربة).. وافقرتم 13 مليون عراقيا!
الأغتراب.. والأنتخاب
ذكرت وكالات انباء وصحف ووسائل اعلام ان نسبة المقاطعين عن المشاركة في الأنتخابات التشريعية السابقة كانت بحدود (80%).. وقد عزا المحللون السياسيون اسباب ذلك الى فشل العملية السياسية في العراق.. وهو تشخيص عادي يعرفه الجميع، فيما تشخيصنا نحن السيكولوجيين نعزوه الى (الأغتراب).. نعم، لأن الأغتراب يوصل صاحبه الى حالة اليأس من اصلاح الحال، وفقدانه المعنى من وجوده في الحياة سواء شارك في الأنتخابات أم لم يشارك.
في ضوء هذا التحليل السيكولوجي فان نتائج انتخابات كانون الثاني الجاري سيحددها وعي العراقيين النفسي بالاغتراب، فان جاءت كما يتمنون فهذا يعني انهم تعافوا من الأغتراب، وان كانت بعكسها فهذا يعني انهم وصلوا مرحلة الأدمان على الأغتراب.. وصعب منه يتعافون!
***
أ.د. قاسم حسين صالح
مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية