آراء
صبحة بغورة: مظـاهر نجـاح الثـورات بين السيطرة العسكرية و الفعالية الدبلوماسية
قد لا أضيف جديدا إذا أكدت على أنه عادة ما تصاحب كل ثورة تقع في أي بلد اختلالات كثيرة تصيب الأداء الإداري الروتيني في عمل أجهزة الدولة وسير مؤسساتها الدستورية بمظاهر التقصير والتسيب، كما تصيب مراكز اتخاذ القرار في الأوساط الاقتصادية والمؤسسات المنتجة للثروة بالتناقض والتضارب وغالبا ما يمتد أثر هذا إلى اهتزاز التماسك الاجتماعي الداخلي وإلى ضحالة الانتاج الثقافي وتسطيح النشاط الفكري، ويعجز الوعي المجتمعي عن متابعة وفهم ما يحدث ليقف متسائلا ما الذي يحدث بالضبط،ويمكن أن يستغرق هذا الوضع وقتا قصيرا، أو قد يدوم زمنا طويلا على حسب مستوى الثقافة السياسية السائدة وطبيعة المفاهيم الاجتماعية القائمة وحجم الوعي الوطني ومدى انتشاره،ومثل هذه الاختلالات ستكون إلى حد ما نتيجة طبيعية لحدث غير طبيعي، وتعد الصدمة الناشئة عن عامل المفاجأة بمثابة عنصر محدد لحجم الفوضى المؤقتة الناتجة،فالمفاجأة والسرعة في بسط الهيمنة لا تتيحان للنظام القائم هامشا كافيا لبلورة رد الفعل المضاد بينما العكس يمكن أن يسمح بذلك وبالقدر الذي يضمن الاحتواء الناجح ثم العودة بالوضع المضطرب بثقة متزايدة إلى سابق عهدها.
تشير سيناريوهات الأحداث إلى أن الثورات التي عرفتها بعض الدول العربية قد أسفرت عن نتيجتين :
ــ الأولى، اشتداد قبضة القوة بين النظام الحاكم وأطراف المعارضة المطالبة بتغيير النظام السياسي والذي يتحول بشكل تدريجي وغير مفاجئ إلى صراع مسلح شامل ومدمر لكل مظاهر الحياة، لا خاسر فيه ولا منتصر، وبطول أمده تتعرض سيادة الدولة لخطر التدخل الخارجي سياسيا وعسكريا على خط الأزمة، ومنها تنبت بذور الفتنة العرقية والطائفية والعقائدية.. التي مهدت الطريق لاحقا لبروز دعوات التقسيم الترابي للوطن الواحد في إطار رسم معالم وضع إقليمي جديد،إنه سيناريو متوقع وتكرر في أكثر من بلد مما يؤكد على حقيقة طابعه المؤامراتي.
ــ الثانية، تأجج ثورة شعبية عارمة يضع اتساعها الفعاليات المؤثرة في العمل الوطني والحياة السياسية أمام انسداد حقيقي،ثم يعطل طابعها الشمولي العمل بالهيئات الدستورية، وتعجز قوات الأمن والجيش عن قمعها وعن احتواء انتشارها السلمي والمتسارع، لذلك تتعامل مصالح الأمن أولا بحكمة ورشادة مع اضطرابات الشارع مكتفية بحماية المرافق الأساسية ومنع محاولات التخريب، ثم تتجه إلى الحياد وصولا إلى حسم الأمر والانتصار لإرادة الشعب المعبر عنها من خلال ثورته التي تنجح في تحقيق مطالبها بتغيير النظام.
يبدو القاسم المشترك بين الحالتين في تقارب المطالب المتعلقة أساسا بتغيير النظام السياسي، وفي تلقائية الحدث وعدم وجود زعامة حقيقية أو قيادة معلنة تتحكم في سير وتوجيه الأحداث، أما الفارق بينهما فيكمن في اختلاف الوعي بما يحيط الاضطرابات الشعبية من تحديات خطيرة تهدد واقع حياة الأمة ومستقبلها وفي تباين شعور الجانبين بالمسؤولية السياسية في الحفاظ على وحدة البلاد وسلامة أراضيها .
يتأكد تمام نجاح الثورة من خلال عدة مظاهر تتعلق أساسا بالطابع السيادي للدولة، وهي متى توفرت كان ذلك مؤشرا على انفراج الأوضاع والاتجاه نحو تطبيع الحياة العامة وعودة الاستقرار والشعور النسبي بالأمن والسلام، ومن أهم هذه المظاهر :
ــ النجاح العسكري،يمثل طبيعة الجانب الأمني في الموضوع، ويبدو من خلال:
* توسيع عمليات استعادة الأمن لتشمل جهود التغطية الأمنية معظم مناطق البلاد، وتنفيذ خطط الانتشار المدروس الذي يضمن سرعة التحرك بالفعالية المطلوبة للوصول إلى منطقة التوتر، وإظهار ما يؤكد هيبة الدولة وتحكمها في الوضع .
* مواصلة استكمال البناء الهيكلي لإدارات ومصالح الجيش وضبط المسؤوليات،وهو مظهر تماسك المؤسسة العسكرية ومؤشر على درجة الوعي بحجم الواجبات الدستورية ودليل على استعداد الجيش وجاهزيته لبعث الثقة في نفوس المواطنين، ولتعزيز مشاعر الفخر والاعتزاز .
* إنشاء القيادات الجديدة للعمليات العسكرية،وهو مظهر من مظاهر التمكين للقوات المسلحة على الأرض، والمقصود إنشاء المزيد من الوحدات القتالية التي يخضع تسليحها لتقديرات جهود التحديث والتجديد واعتبارات المستوى التكنولوجي المأمول في التطبيقات العسكرية .
ــ النجاح الدبلوماسي، يعكس أهمية البعد الدولي للمسألة، ويبدو من خلال:
* عرض القضية في المحافل الدولية،هو جهد قد تتكفل به الدبلوماسية الرسمية أو الدبلوماسية البرلمانية لإظهار طبيعة الأحداث إن كانت مجرد شغب محدود لأغراض التنديد بقرارات محلية مرفوضة شعبيا أو انتفاضة احتجاجية على سياسات وزارية جائرة ترهن واقع ومستقبل قطاعات معينة أو تمردا وعصيانا مدنيا ضد السلطة الحاكمة، أو إن كانت فعلا ثورة تغيير حقيقية .
* تكثيف النشاط الإعلامي للتعريف بالثورة،ذلك على فرض أن ما يجري هو ثورة كاملة الأركان تقتضي الضرورة تمتعها بالسند الدولي للاعتراف بها ودعم مطالبها وإكسابها الشرعية من خلال عمل إعلامي ناضج ومسؤول موجه بمختلف اللغات عبر كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية ومواقع التواصل الاجتماعي لتشكيل رأي عام مؤيد وتكوين جبهة دولية ضاغطة من أجل فرض احترام إرادة الشعب
* فضح السياسات التخريبية وإثارة الرأي العام ضدها، وهي نقلة نوعيه في المواجهة مع الخصوم تفترض أنهم معلومون بدقة بناء على جهد سياسي واستخباراتي كبير، وأن طبيعة سياساتهم التخريبية هي إجرامية بالأساس تستند إلى نوايا شديدة العداء تستهدف إضعاف الشعوب وقهر الأمم وتحطيم حضارات، وتتطلب هذه النقلة تعميق المواجهة بكشف طبيعة وأطراف التحالفات التي تستغل من أجل تحقيق أهدافها مجموعات الشر المسلحة.
إذا كان النجاح العسكري يعطي ضمانة حقيقية لتأمين ثورة التغيير من أي ارتدادات عكسية غير حميدة فإن ما يكسبه التقدير هو ما يبديه من حياد في الموقف وما يظهره من تشدد لا يلين بالحفاظ على المؤسسات والمرافق الحيوية للدولة وإعلان عزمه بمواصلة الالتزام بمهامه الدستورية بدوام حمايته للشعب، أما النجاح الدبلوماسي فيتجسد في مهمة تأكيد استمرار الدولة على مكانتها الدولية كدولة محترمة ملتزمة بالعهود والمواثيق الدولية وبالاتفاقيات الموقعة،وكل ذلك من شأنه أن يكسب الدولة في ظل ثورتها الجديدة نفسا جديدا وروح متجددة للبقاء كدولة فاعلة تسهم في بناء الحضارة الإنسانية .
يبقى أثناء الأزمات السياسية أن حجم الجهد العسكري ــ برغم بعض التحفظات ــ هو المحدد بشكل كبير لدرجة الاستقرار الداخلي في الكثير من الدول خاصة تلك التي لا تتمتع نخبها الثقافية بمستوى كبير من الثقافة السياسية ولا تتمتع برصيد تاريخي كبير من الممارسة الديمقراطية أو عديمة الخبرات والتجارب من العمل الحكومي في مواجهة التعددية الحزبية والنقابية والإعلامية حيث تثور الخلافات العميقة لأبسط الاختلافات، ومعها تتعاظم سيناريوهات المؤامرات الهدامة سريعا، ولكن بالحضور الأمني المتعدد الكفاءات والاختصاصات في يوميات ومفردات العمل الوطني سيتقلص كثيرا هامش التهديدات مهما كان نوعها ومصدرها، ولكنها إذا وقعت سيكون ورائها أطراف داخلية متخصصة في "صناعة الخوف " وسيكون أثرها أكثر ازعاجا وأشد تأثيرا حيث تتخفى وراء نشر الخوف وتسريب إشاعات،وخلق أجواء الشك ووضع الشأن العام تحت الضغط بدعوى وجود خطر على البلاد ومصلحة الوطن، إنها ثقافة الخوف التي تبثها ذات الأطراف ثم تزعم أنها تنبري للتصدى له، ولكنها في الحقيقة أعطت بذلك للأمن حق التدخل عمدا في السياسة طالما أن الأمر قد امتد إلى تهديد الأمن الوطني فتكون بصدد تشكيل الظروف المتشنجة التي تهيئ بسهولة المبررات التي ستبدو حينها موضوعية لوقوع المواجهات العنيفة التي تهدف في الحقيقة منذ البداية إلى تسويق القضية دوليا بعد تصوير الوضع الداخلي على أنه يتعلق بأزمة سياسية بين نظام الحكم وبين أقلية في حالة خطر،لذلك يمكن إذا استمرت الأزمة أن تحمل تطوراتها مؤشرات البداية على رحيل النظام القائم، وغالبا ما ستكون الظروف السياسية مهيأة في حقيقتها لاستحضار قيم احتضنتها المعارضة السياسية زمنا وستكون المناسبة إذا استمرت فرصة لنفض الغبار عن ما يكتنفه واقعهم من حقيقة تاريخية تعرضت زمنا للتهميش القصري والتشويه العمدي بغرض الإساءة وبهدف الإقصاء التاريخي .
في واقع حياة الأمم " قنابل موقوتة " هي جملة من القضايا الخلافية ذات بعد إيديولوجي تم صرف النظر عنها وتغييبها عن شريحة واسعة من الرأي العام أملا في نسيانها ولكنها تجد في عمق امتداداتها الشعبية عونا لبقاء جذوتها ملتهبة تنتظر الوقت المناسب للانفجار، إنه الظلم السياسي القاسي الذي يقود إلى المتاعب،والأقسى منه الظلم التاريخي الذي يقود إلى السقوط الحر في الدرس المر.
***
بقلم: صبحة بغورة