آراء
رمضان بن رمضان: الانسلاخحداثية أو في خيانة قيم الحداثة.. النخبة التونسية نموذجا
1 - في تشكُل المصطلح:
نستعير مصطلح الإنسلاخحداثية في جزئه الأول -الانسلاخ- من الآية الكريمة "وآتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين" سورة الأعراف الآية 175 والتركيب في كليته من الأستاذ محمد الطالبي رحمه الله وتحديدا من كتابه " ليطمئن قلبي" والذي فضح فيه أولئك الذين يتقنعون بالإسلام وبالانتماء للحضارة العربية الإسلامية في حين أنهم ينظرون في كتاباتهم للخروج منه والإنسلاخ منها لذلك سمي هذا التيار بالإنسلاخسلامية وأتباعه بالإنسلاخسلاميين. إنَ الحداثية وهي الجزء الثاني من المصطلح مصدر صناعي يحيل على معنى مجرَد بينما الحداثي والحداثيون هم المنتسبون للحداثة. إن دمج كلمتين واحدة من الآليات التي تتوسل بها اللغة العربية لإثراء رصيدها اللغوي وتسمى النحت شريطة التقيد بأوزان العربية وصيغها ومن الأمثلة على ذلك أفعال حمدل وبسمل وحولق والكلمة رغم طولها تظل غير مستساغة في البداية إلا أن تواتر استعمالها سيجعلها مألوفة (حول الإنسلاخسلامية انظر محمد الطالبي ليطمئن قلبي دار سيراس -تونس 2007 فصل عقيدة الإنسلاخسلامية صص 33-96)
في تعريف المصطلح أنه في أصل منشئه متصور وليد العقل والملاحظة ثم تعمل اللغة على أن تجد له لبوسا لغويا لفظيا - أي مصطلحا - فاللغة تلاحق المتصورات لتصوغها في مصطلحات ولكن هل تخضع هذه الالية التي تحول المتصورات إلى مصطلحات إلى قواعد اللسان المخصوصة أم أنها تجد نفسها في بعض الأحيان معبرة على خرق لتلك النواميس فيصبح اللحن بما هو خروج عن القواعد اللغوية صورة عن حركية اللغة وإبرازا لجانبها السوسيولوجي.( انظر كتاب د.عبد السلام المسدي قاموس اللسانيات الدار العربية للكتاب تونس 1984 صص 23-25 )
لقد إرتأينا بعد ملاحظة بعض المواقف التي تطفح على ساحة المشهد السياسي وذلك كلما احتد الجدل وعمليات الاستقطاب في شتى القضايا التي تخصُ النخبة الحداثية بشقَيها الليبرالي واليساري أن نبحث لها عن مصطلح جامع يكون كاشفا لحالة الفصام التي تعيشها بين ما ترفعه من شعارات وما تعلنه من مبادىء وبين ما تأتيه من أفعال ومواقف مناقضة تماما لما هو مفترض أن تدافع عنه وتتبناه فهذه الحالة ضرب لمبدإ الهوية وهو أحد الأضلاع الثلاثة للمنطق الأرسطي .إنه مبدأ وجودي يقوم على أن الاشياء ثابتة لا تتغير أي أن لكل شيء حقيقة جوهرية ثابتة مهما اختلفت صفاته العرضية .فالمنتسبون للحداثة والمعتقدون في مبادئها وأصولها التي قامت عليها جوهرهم أنهم حداثيون بهذا المعنى إلا أنهم يتحولون إلى نقيض ذلك .فهم هم بصفاتهم وبقناعاتهم وذلك مهما طرأ عليهم من تغيير في أحجامهم أو في مواقعهم أو في تحالفاتهم ذاك هو مبدأ الهوية إنه الانسجام مع الذات وإن تغيرت الأعراض إلا أن هؤلاء الحداثيين يتغيرون بتغير الأعراض فيعرضون عن مبادىء هي من صميم هويتهم ويتنكرون لها لمجرد أن خصومهم بزٌوهم فيها ونافسوهم عليها وعملوا على تحويلها من الوجود بالقوة إلى الوجود بالفعل.
2 - نماذج من الإنسلاخحداثية:
إن أكبر مظهر للإنسلاخحداثية في الكون هو الاستعمار استعمار البلدان والشعوب بل أعظم من ذلك هو إبادتها ومحوها من الوجود وتصفية ثقافتها وتاريخها وما مأساة فلسطين عنا ببعيدة .إن من قام بذلك هم المتشبعون بقيم الحداثة والذين تلقوا أصولها من ابائهم المؤسسين ثم انسلخوا عنها حين استبد بهم فائض القوة ومكَن لهم المنعرج التاريخي الذي عاشته البشرية من التنكر للحداثة ولمبادئها .إن هذا الإنسلاخ مما جاءت به الثورات في الغرب من إعلاء لمنزلة الكائن البشري ومن احتفاء بولادة الإنسان الجديد وقد دون كل ذلك في عهود ومواثيق .أما عندنا فإن النخب التي تشبعت بتاريخ المستعمرين وبثقافتهم ورضعت مبادئهم وتربت في أجواء عصر الأنوار أصيبت بعقدة الاستعلاء وبادعاء أفضليتها في التسويق لقيم الحداثة وأحقيتها في الدفاع عن أولئك الأباء المؤسسين باعتبارهم أنبياء جدد جاؤوا لتنوير العقول ومطاردة ظلام التخلف والاستبداد .هذه النخب لم يكن سلوكها شاذا عما سنًه أسلافهم .و سنحاول في هذه المقاربة رصد بعض المواقف لأدعياء الحداثة والتي تتسم بما سمَيناه الانسلاخحداثية وذلك بالوقوف عند بعض المحطَات التاريخية المتَصلة بالمسار الانتقالي.
نتذكر جميعا بعد انتخابات أكتوبر 2011- انتخابات المجلس التأسيسي - وما أفرزته من نتائج .ألم تتمَ الدعوة آنذاك إلى أن تتدخل فرنسا في تونس لإنقاذها من التيار الإسلامي الفائز . وقد تمَت الدعوة من قبل احدى المنتسبات للجبهة الشعبية والممثلة لها في فرنسا وهي دعوة تكشف في حقيقتها الارتباطات العميقة بين الداعين لها من حيث خلفيتهم الفكرية وانتماءاتهم الإيديولوجية ودولة فرنسا فهؤلاء رغم تشدُقهم بالحداثة وإيمانهم بمبادىء الثورة الفرنسية وما تمخَضت عنه من قيم لازالوا يحملون في داخلهم القابلية للاستعمار ويعيشون انبتاتا عن واقعهم وجهلا بتاريخهم وبنضالات أجدادهم .أين نحن إذن من قيم الحرية وحق الشعوب في تقرير مصيرها .فنحن إزاء عبيد يتدثَرون بالحداثة وكلما امتحنوا في مدى صدقهم في تبنيها حنوا إلى أسيادهم يستنجدون بهم.
المحطة الثانية هي موقف النخبة التونسية بشقيها الليبرالي واليساري مما حصل في مصر ثمَ من الثورة السورية فأن يقف هؤلاء مع حكم العسكر واستيلائهم على السلطة بعد انقلابهم على رئيس شرعي جاءت به انتخابات حرة ونزيهة ومثَل وصوله إلى سدَة الحكم لحظة تاريخية فارقة في تاريخ مصر إنه أول رئيس مدني من خارج المؤسَسة العسكرية لا لشيء إلا لأنَه يمثل تيارا سياسيا لا يروق لهم .أمَا الثورة السورية والتي في منطلقها ثورة شعب على دكتاتورية حكم طائفي فاسد طالبا الحريَة والانعتاق .نحن ضد عسكرة الثورة وضد المنزلقات التي عصفت بها فحادت بها عن أهدافها إلاَ أنَها تظل في الأخير حقا مكتسبا للشعب السوري في التحرُر وفي أخذ زمام أموره بنفسه بعيدا عن كل وصاية وهيمنة نجد نخبتنا وهي التي مازالت بصدد استكمال مسارها الثوري الخاص بنا تتنكر لقيم الثورة- وهي من صميم الحداثة- وتصطفُ إلى جانب أنظمة استبدادية عانت شعوبها صنوفا من القتل والسحل والتعذيب والاعتقال والإخفاء القسري وذلك في تنكُر صارخ لمدونة حقوق الإنسان وللحريات .
المحطة الثالثة هي الانتخابات البلدية الأخيرة وما أفرزته من نتائج ولاسيما ما يتعلق ببلدية العاصمة وفوز قائمة حركة النهضة بأغلب المقاعد وهي القائمة التي تترأسها السيدة سعاد عبد الرحيم ومنطق الأشياء أن ترشح الحركة رئيسة قائمتها لمنصب شيخ مدينة تونس - أي رئيس بلديتها- وفي ذلك تكريس من الحركة للتناصف الافقي والعمودي واحترام للقانون الانتخابي وهو حدث تاريخي إذ لأول مرة في تاريخ تونس تتبوَأ امرأة هذا المنصب إلاَ أنَ الحداثيين بشقيهم كان لهم رأي اخر فقد انبرت منهم أصوات تعلن رفضها هذا الترشيح وسمعنا تبريرات تفوح منها رائحة الفتاوى القروسطية والجهويات المقيتة والابتزاز السياسي والتشكيك في مبادىء المترشحة وفي نضاليتها داخل المجتمع المدني وفي نشاطها النسوي لا لشيء إلا لأنها مرشحة حزب سياسي هم خصومه .لقد نسي هؤلاء ما كانوا يصدعون به رؤوسنا عن انحيازهم التام والمطلق لقضايا المرأة ودفاعهم المستميت عن حقوقها وكان شعارهم - نساء بلادي نساء ونصف - ثم في لحظة تاريخية فارقة نجدهم قد تنكروا لكل ذلك وانسلخوا عن مبادئهم الحداثية
المحطة الرابعة هي انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية فرغم ما يتبدى من أنَ إيمان الحداثيين بالحداثة وبالأسس التي قامت عليها يرتقي إلى درجة المعتقد الجديد بل أضحت دينهم الوضعي الجديد فجعلوا لها إكليروسا وكهنة ينطقون باسمها ويحتكرون تفسيرها وتأويلها .إلاَ أننَا في مسار الانتقال الديمقراطي والسعي الحثيث لاستكماله بتركيز المؤسَسات الدستورية تبدأ المناورات والمخاتلات والحسابات حيث تضمحل المبدئية ويتضاءل الالتزام وتحلُ محلَهما النزعات الفردية والهمُ المصلحي والمناكفة السياسية كلُ ذلك على حساب المصلحة العليا للوطن .فأمام المغنم لا يهمهم أن تتعطَل المحكمة الدستورية فأحد المترشحين يشترك معهم في الانتماء إلى قيم الحداثة وإلى اليسار وله تاريخ نضالي مشرف وقد احتضن مكتبه في سنوات الجمر اجتماعا ضمَ مختلف الطيف السياسي المعارض لنظام الحكم آنذاك إنَه الأستاذ العياشي الهمامي أحد المرشَحين لعضوية المحكمة الدستورية . لقد باركت حركة النهضة هذا الترشيح لمعرفتها بالرجل فقد خبرته في ذروة النضال ضد الاستبداد إلاَ أنَ الاعتراض عليه جاء من الشق الليبرالي الحداثي ربَما لأنه من المتحمسين للعدالة الانتقالية ولضرورة استكمال مسارها لأنَها الدعامة الأساسية لإنصاف المضطهدين والمظلومين ممن طحنتهم الة قمع نظام الاستبداد والفساد وهذا يكشف أنَ هذا الشقَ الليبرالي مازال يستكثر على الثورة التونسية مضيها قدما في كنس المنظومة القديمة وما خلَفته من مآسي .
3- ما بين المصطلحين وصل وفصل:
إنَ الجامع بين مصطلحي الإنسلاخسلامية والانسلاخحداثية هو الظهور بوجهين مختلفين والنفاق .فجميع المنتمين لهذين التوجهين يعمدون إلى إخفاء حقيقتهم المعادية للمختلف عنهم .فكل منهم يعاني من عجز كبير في القدرة على تقبُل غيريَة الاخر المختلف عنهم واعتباره شريكا في الوطن ومن حقه أن يكون مكونا من مكونات المشهدين الثقافي والسياسي .لكن هذا لا يمنع من وجود فروق بين كليهما . فالإنسلاخسلامية اشتغلت على التنظير للخروج من الإسلام من خلال نشر مجموعة من البحوث الأكاديمية والإشراف على عدد من الأطاريح الجامعية والترويج لعدد من البحوث الإستشراقية التي تتساوق ورؤيتهم في حين أنَ الانسلاخحداثية هي مجموعة من المواقف تفرزها وقائع محدَدة في علاقة بطرف اخر أو بتيار فكري وسياسي مختلف وهذه المواقف تكشف زيف أصحابها وخداعهم في ما يرفعونه من شعارات تخفي نزوعهم إلى الاستبداد والإقصاء والاستئصال وبالتالي لاديمقراطيتهم إنَهم أقرب إلى الخواء والعدميَة منهم إلى البناء والتأسيس.
***
بقلم: رمضان بن رمضان