نصوص أدبية
حسن رحيم الخرساني: نهايةُ لون
في لحظةٍ مُتخمةٍ بالسكون، تبعثرت على جدران الغرفةِ تلكَ اللوحاتُ التي كانت تُراقبُ مُهندَ ذلكَ الفنان الذي تورطَ برأسِهِ المكتظ بألوانٍ لا يعرفُها من قبل، بل عشقت تربةَ الرأسِ وراحت تتنزهُ فيها كي تُحققَ لها وجودًا من خلال أصابع ذلكَ المرهفُ العنيد.
في هذه الليلةِ بالذات، وقبلَ أن يدخلَ السوادُ إلى عالمهِ انتفضت تلكَ اللوحاتُ من رمادِ ألونِها وراحت تُحدقُ بعيونٍ جامدةٍ إلى الفنان الذي خلقَ لها وجودًا لن يدخلَ الهواءُ إلى أسرارهِ ليكونَ كما يكون.
اللوحاتُ مصرةً أن تُحدقَ إليهِ، والليلُ على أبوابِ الدخولِ ليتجلى بالسواد اليتيم.
جلسَ مهندُ على كرسيهِ الهرم، لقد أخذَ التعبُ من جسدهِ مسافةً جعلَهُ يغفو أمامَ ذلكَ المصباح المشبع بالغبار. الليلُ أطبقَ حاملًا حُلمًا دخلَ رأسَ مهند تساقطت بهِ الأُطرُ الخشبيةِ من تلك اللوحاتِ كما تتساقطُ المدن القديمة أمامَ عواصف غزاةٍ أشداء، وخرجت من تلكَ اللوحاتِ وجوهٌ غريبةٌ لها عيونُ الألوانِ الميتةِ.
رجالٌ مدججونَ بمعاطفَ صُنعت من جلود الدببة، تقودُهم رياحُ الشمال إلى أهدافٍ ربما تُحققَ لهم بقية الحياة والعيش في سلامٍ مُطمئن.
نساءٌ يتوهجنَ بملامح الفجر حين ينهضُ من نومٍ هادئ.
أطفالٌ حُفاةٌ يحملونَ أحجارًا لها ألوانٌ تلهثُ في انعكاسها الشمسُ.
طيورٌ، حيواناتٌ، أشجارٌ، رياحٌ..
لم تمضِ لحظات حتى امتلأ المرسمُ بالضجيج.
هناكَ أصواتٌ في نبراتٍ مختلفةٍ تتشظى من بين أفواه فارغةٍ، جدالٌ ليس لَهُ من خيطٍ تستدلُ عليهِ، سبابٌ تمطرُ بهِ الأيدي قبل الألسن.
تطورُ إلى نزاعٍ تناطحت بهِ سيوفٌ وأسلحةٌ جميعُها منحوتات من حروفٍ تأريخيةٍ ولدت من عوالمٍ في بئرٍ سحيق.
تساقطت ألوانٌ قتيلةٌ، وأخرى جريحةٌ.
في منتصفِ تلكَ المجزرة وقفَ مهندُ ذلك الفنانُ المرهف، والصراخُ تتشققُ منهُ الجدرانُ، حاولَ أن يمدَ يديهِ ليوقفهم جميعًا، لكنّهُ عجزَ عن ذلك أمام قساوة المعركة.
دماءٌ في كل مكان، تداخلت الألوانُ فيما بينها ناسيةٌ ذلك الخالقُ الذي صنعَ منها جمالًا تتوهجُ بهِ أمامَ الآخرين.
ثم فجأة، هدأَ كلُ شيء، حتى تلكَ العيونُ المتحجرةُ اختفى صليلُها، ثم انسحبوا جميعًا، كلٌ إلى لوحتهِ تاركينَ خطوطًا بمساميرَ مدببة في قمةِ الرأس، تاركينَ خلفَهم رغباتٍ مُبهمة ليس لها صورةً غيرَ تلك الكارثة.
في الصباح استيقظَ مهندُ من هذا الحلمِ العقيم.
نهضَ ببطء ثم أقتربَ إلى أولِ لوحةٍ وراحَ ينظرُ إلى ملامحِها، فشعرَ بعيونٍ غريبةٍ تُمزقُ ما بقي لهُ من قوةٍ بعدَ ما حدثَ في ذلك الحلم.
وبلا تردد حمل مطرقةً وراحَ يُحطمُ تلك اللوحةَ ثم هرولَ إلى الأخرى وحطمَها، ثم إلى الأخرى، والأخرى حتى لم يبقَ على الجدارِ ما يفتخرُ بهِ جسدُهُ الأصم.
حينها أفترشَ الأرضَ وسطَ حطامٍ مُبعثر.
لم تكن النهاياتُ لها ضجيجٌ أو صراخٌ يلعبُ في المكان، بل كانت هناكَ صورة حلمٍ أعمقُ من المعنى سرقَ ذاكرةَ مهند تاركًا ظلًا ثقيلًا تربعَ بينَ عينهِ.
ظلٌ لهُ عباءةُ الليل وأنفاسُ صبحٍ كسير.
***
حسن رحيم الخرساني
Trelleborg 2025/8






