نصوص أدبية

فرات المحسن: وحدة

اليوم كانت خطواتي المسائية المعتادة رتيبة فوق البساط الأخضر المندى لحديقتي الواسعة المهملة، ذات الأشجار الكثيفة المتشابكة، وأصص الورود المبعثرة بفوضى عابثة.

كل شيء يشي بالترهل والجدب، حتى نقرات نعلي البلاستيكي الكتومة وهي تخطر بتثاقل فوق خضرة الأرض الندية، ما كانت تستسيغها روحي، وقدماي متعبتان تخطان سيرهما بتمهل دون هدي منذ أكثر من ساعة. هناك كتاب مهمل بغلاف جلدي كلح لونه لكثرة ما تعرض للفح الشمس، يرقد منذ أسبوعين فوق كرسي الخيزران العتيق لصق شجرة السرو القزمة.

مثلما البارحة وقبلها بأيام مضت مسرعة، اخترت النوم وحيدا في الغرفة الباردة ذات النوافذ العريضة المطلة على بركة ماء المسبح، الذي ما عادت الذاكرة تسعفني للتعرف على أخر مرة عام جسدي مسترخيا فيه. ولم اكسر اليوم عادة الأشهر التي سبقته في تنقلي الليلي للنوم وحيدا في باقي غرف الدار المسكونة بالصمت الموحش.أجوب أشبار الدار، أتنصت صوت التلفاز المرمي بعيدا في زاوية غرفة الضيوف، واسمع ضربات الأغصان في الخارج وهي تعاند وتتأرجح مع بعضها. وأعيد تكرار عد رخام درجات السلم كلما وجدتها أمامي، كل ذلك محاولا إبعاد ما رقد في الذاكرة.

اليوم اجتاحتني رغبة المبيت في إحدى غرف الطابق العلوي. الغرفة المغلقة منذ عامين مضين. الغرفة الأثيرة لابنتي الوحيدة التي ما عرفت عنها شيئا مذ هاجرت وهجرتني بعيدا مع أمها. لازالت الغرفة بستائرها الموشاة بالدانتيل الزهري والمسدلة طوال الوقت، ترسخ في سكونها القهري. لوحة الفرس الجامح المسمرة جوار المنضدة في طرف الغرفة البعيد، والسرير العريض ذي الغطاء المطرز بألوان فاقعة و لعبة الأرنب الوبرية الكبيرة المرمية جواره، تذكرني بصخبنا المفتعل وكلمات وداع تبادلناها عنوة وببرود تأبيني ذات صباح. حينها ضجت أشجار الحديقة بصيحات فزعة مجنونة لسرب طيور كثيف، وذبلت معها زهور الأصص بلمح البصر، بعد أن جف اخضرار سيقانها منذ ما يقارب العامين. ومع صمت الجدران الكثيف أحسست أن الكثير من كل ذاك الصخب قد هُد، وعرفت كيف أفل، وتسللت شمسه مسرعة نحو غروب. صباح بحثت فيه عن نفسي، ولكن وهو يسدل ستارته ويمضي بعجالة اكتشفت حينها وحدتي المفزعة.  

***

قصة: ناجي ظاهر

 

في نصوص اليوم