نصوص أدبية

ناجي ظاهر: سرُّ البقاء

(هل تتذكر فان جوخ؟)..

خرج الفنان الشيخ وديع الفادي من باب كوخ أخيه، تاركًا وراءه بابًا موصدا، آلامًا تنوء بحملها الجبال الشماء، وحالمًا بآمال عظام تغطي المحيطات والبحار وتطوي فترت التاريخ المتلاحقة طيًا بالضبط مثلما طواها عظماء الماضي. مثل كلّ يوم كان الفنان يغادر ذلك الكوخ الفقير.. منذ ساعات الصباح المبكرة كي لا يثقل على أخيه وابنته الصغيرة وكوخهم الوحيد المتواضع. وكان كثيرًا ما يقطع الأرض طاويًا المسافات الطويلة، منطلقًا بين السهول والمرتفعات حاملًا حلمه وأمنيته الخالدة في العيش السعيد والبقاء الرغيد، إضافة الى ريشته والوانه.. وكثيرًا ما كان يتوقّف عند هذا المنظر او ذاك المشهد، حالمًا في تلبية رغبة خضراء في احتواء هذا اللون أو ذاك في لوحة يخاطب عبرها الدنيا ويطلعها بالتالي على مكنونات قلب لم يعرف إلا الحب وانطبق عليه ما ردّده بينه وبين نفسه وهو "لا وقت لديّ لأن أكره أحدًا لأنني مشغول بمن أحب".

بعد مسيرة طالت هذه المرة وأوشكت أن تصل إلى أميال تساوي سنوات عمره السبعين، توقّف قُبالة سهل تمايلت في ربوعه السنابل واحدة إلى جنب الأخرى، معلنة عن اكتنازها بذور الحياة، وراح يتأمل بها.. "في كلّ سنبلة من هذه توجد العشرات من الحبوب الحيّة النابضة.. انها تشبه الألوان الهاجعة في قلبي، روحي وعيني". وتابع" على من لم يحالفه الحظ أن يصبر.. فما بعد ظلام الليل إلا نهار ونور"، هذه الكلمات الذاتية دفعته لأن يتذكّر ما قاله وردّده لأخيه حول الصبر وأهله المحظوظين. هو يعرف أنه إنسان محظوظ ولو لم يعرف هذا منذ البداية ما كان سلك طريق الفن المُتعب العصي والطويل سُلّمه..، بين كركدنات الفن الكبار أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف وكيف يبيعون اللوحة تلو اللوحة لمن يعرفون انه يشتريها، ناعمين ومتنعّمين بما يُسبغه عليهم بيعهم هذا من راحة. "منذ وعيتّ على الدنيا وأتيت إليها في ليلة باردة شديدة البرودة آليت على نفسك أن تبعث الدفء في صقيع هذا العالم"، هتف به صوت انبعث من أعماق أعماقه البعيدة. فهل تعبت الآن؟.. هل أرهقتك السنون.. هل حانت نهايتك دون ان يشعر بحلمك أحد".. هتاف هذا الصوت طالما استنهضه وأراد ان يساعده في إشعال شموعه النائسة في رياح لا قدرة لها على مواجهتها.

سار الفنان الشيخ بخطى مُتعبة مُرهقة مُتجنّبًا ما أحاط به من سنابل، وتابع سيره بحذر مُحبّ مُدنف لهذه النباتات، التي احتضنت خضرتها ويناعتها في أعماقها وتصاحبت مع شمس الحقيقة والحياة، وهناك في أعماق قلبها ورحها استلقى مُفكّرًا فيما عساه يفعل كي يُبدع لوحته المُعبّرة المميّزة والمؤثرة أيضًا. وشرع بحالة تُشبه لحظات الولادة والموت يرسم بألوانه الساكنة في قلبه وروحه، كان يرسم بجنون، وببراعة مَن أراد أن يركض فيسبق ظِلّه. يرسم .. ويرسم.. ويرسم مغترفًا كلّ ما بداخله من مشاعر وأحاسيس، إنه يرسم ما يراه وليس ما هو ماثل قُبالته، لهذا كان منفعلًا شديد الانفعال وقد بدا عالمه الداخلي في مُحيّاه الشيخ الوسيم الآن، الشاب الذي كانه في الامس القريب. ونسي الفنان ذاته فقد استولت رسمته عليه وأنسته كلّ شيء حوله.. متنقلةً به من لون إلى لون ومن جوّ إلى جوّ.

عندما اقترب المساء أرسل نظراته الحالمة إلى هناك.. إلى البعيد.. البعيد، إلى حيث تلتقي السماء بحفاف الجبال العالية، أيقظ ذلك المنظر كلّ ما هجع في داخله.. وهناك.. في أعماقه السحيقة مِن حُلم وحِلم. فسعى إلى حقيبة ألوانه وتناول فرشاته وراح يرسم ذلك المنظر البديع شاعرًا أنه بات مُمتلكًا لقدرة إله.. كانت الألوان مُنصاعة إليه تحمله حينًا ويحملها آخر إلى حيث يُفترض أن يحمل أحدهما الآخر. وكان في تلك اللحظة الفريدة يرى الى وجهه وعينيه وهما تلمعان رغبةً وحبًّا في الحياة " ما أجمل هذا العالم حينما يمكّنني من تكوينه.. إنه يتكوّن لحظة إثر لحظة يا أخي.. لقد وصلت إلى الذرى العالية.. وصلت إلى هناك.. إلى تلك القمة الشاهقة التي وقف عليها بازات الفنّ وصقوره. الآن بإمكاني أن أقول إنني وصلت ألى أعماق الخالق الصغير.. الانسان الفنان.

تحرّك الفنّان الشيخ مِن هجعته تلك شاعرًا بنوع من الاسى والخسارة. وعاد إليه الماضي بكلّ ما حمله اليه من معانيات، انتظارات وترقّبات لِما لم يات. نبقت في فكره وقلبه المُرهف عيون لامعة صافية اللمعان، تقول له هذه ليست المرّة الأولى التي تعيش فيها مثل هكذا حالة. لقد عشت مثلها العشرات والمئات من المرّات، وأنت لم تتمكن من بيع أيٍّ من لوحاتك العزيزة الغالية.. فعلام تحزن. هذا قَدرك. اختصرت تلكما العينان عيني أخيه زوجته وابنته الصغيرة وكوخهما الصغير.. والآلاف وربّما الملايين من الاكواخ الصغيرة والعيون التي ترى جمال عالمه.. الذي يرى ولا يُرى...

استفاق الفنّان الشيخ وديع الفادي على نفسه وقد حلّ الظلام على السهول والجبال، وأطبق بفكيه الفظّين القاسيين على كل شيء حوله وفي سمائه، فنهض من مرقده وانطلق عائدًا باتجاه كوخ أخيه حيث الألم والامل ينتظرانه.. يرافقهما عذاب أطلق عليه ..منذ سنوات بعيدة.. صفة سرّ البقاء.

***

قصة: ناجي ظهر

في نصوص اليوم