نصوص أدبية

جمال العتّابي: (الطلي) سالم

من قصص المعركة (1)*

لعل الجندي الاحتياط سالم كان محظوظاً في بعض المقاييس مع زملائه الجنود  الذين يسعون إلى إرضاء آمري السرايا والأفواج من الضباط في حرائق (القادسية الثانية)، كانت الحروب تقدّم دماء الشباب في ولائم سخية لقطع الرقاب، يوم لا مفرّ للوطن إلا أن يرقص مثل الطائر الذبيح.

كان (سالم) ابن تاجر الجلود في الكاظمية قد أدرك أسرار مهنة أبيه، وتعلّم خفاياها في وقت مبكّر من عمره. انصرف للعمل معه تماماً بعد أن تخرج من كلية الادارة والاقتصاد، وكان من الصعب على الأب إدارة العمل وحده فهو بحاجة على الدوام أن يكون ولده إلى جواره.

تعلّم الجندي سالم أن يكون خدوماً لأولئك الآمرين على نحو لا يبدو أنه يرشيهم، ولا هم يظهرون كمرتشين، قدّم  نفسه للعقيد الآمر بوصفه تاجر أغنام، لابأس هناك ثمة علاقة بين الأغنام والجلود، واقع الحال كانت رشاويه نوعاً من تبادل المنافع في ظروف يشبّ فيها الموت في البيوت، والبلاد تبرعم فيها الدماء، حين اكتشف ان آمره الميداني يحب (الطليان)، وهؤلاء ما كانوا يمتلكون الوقت لتأمين متطلبات بيوتهم وهم في خضمّ المعارك، كان سالم يمتلك مهارة ابن (السوق) يوفّر لهم  ما يريدون لقاء أسبوع إجازة أو اسبوعين، يقضيها مع عائلته وهو في قمة السعادة، تلك الأيام كانت تُعرف بإجازات (تأجيل الموت) .

في واحدة من اجازاته طلب منه الآمر تأمين حاجة العائلة من اللحم والخضار على وجه السرعة، ما كان أمامه خياراً سوى المضي لشراء (طلي) متوسط الوزن عسى أن يجدد له الضابط اجازته مرة ثانية، كان سالم  ممسكاً بقوة  برقبة (الطلي) حين وقف أمام باب منزل الآمر، تصاعدت دهشته وارتسمت الحيرة على وجهه قبل أن يضغط على جرس المنزل، انفتحت عيناه على سعتهما غير مصدق وهو يشاهد عشرات (الطليان) تسرح في حديقة المنزل، كانت (جبهة) ثانية  لكائنات تنتظر الذبح، ظلّ يتساءل مع نفسه: كيف السبيل لإثبات عائدية الطلي للجندي سالم؟ كان جسده قد توقف عن الحركة، لم يعد بمقدوره سحب (الضحية) الى مسافات أبعد، لكن عقله لم يتوقف، تلك الأثناء كان أحد الصبيان قريباً منه، نادى عليه بود مفتعل دسّ في جيبه خمسة دنانير، التمسه في الاسراع نحو أقرب مخزن لبيع الأصباغ، عاد الصبي يحمل علبة لون سائل صغيرة، رجّها سالم  بحركة سريعة، ضغط على نابضها، ثم رشّ باللون الأحمر على ظهر ( الطلي) كلمة: (سالم) بحروف كبيرة.

دفر الباب الحديدي بقوة، ثم نادى على الزوجة لتشهد الواقعة، دفع (بالطلي) الى حديقة المنزل، مع جمهرة الطليان، راح يلهث، بينما كان اسم سالم يلمع تحت وهج الشمس.

***

د. جمال العتابي

.........................

* لم يتسن للكاتب للأسف (شرف) المشاركة في القادسية، ولا الكتابة عنها، يعود بعد أكثر من أربعين عاماً، ليكتب واحدة من قصصها، عسى أن يحشره الله مع (الكاتبين)

 

في نصوص اليوم