نصوص أدبية
جودت العاني: الحركة والسكون وفضاءات اللآمعنى..
حلقة من: المدينة الغافية في احضان البوسفور
شَعَرَ بالأمتعاض، وهو يستلقي على فراشه الرطب.. لقد أدرك أنه لا يوجد سبب يدعو إلى ذلك، ولهذا أطبق جفنيه وسمح لجسده بأن يستوعب الإحساس بـ(الدبك) ومع ذلك فقد بقي منتبهاً لكي لا يتمكن هذا الإحساس بالأمتعاض من تدمير نفسيته المرهفة.
طافت في ذهنه أجواء وجد نفسه وكأنه في مكان آخر هو ليس مكانه الذي يقيم فيه، وتناهى الى سمعه صوت حركة المرور خارج المكان، بينما كانت الساعة الجدارية تعلن التاسعة مساءً وهو ممدد على سريره المشبع بالرطوبة وكأنه قد سكب فوقه كمية من الماء.. وفيما كان يرى الأشياء متداخلة كان إحساسه قد أصابه الوهن، ومع كل ذلك ظل يقظاً يحدق في داخل هاوية حيث بدأ إحتدام صراع المفردات التي تتزاحم وتتكاثر.. شيء من الرعب ينتاب المرئ حين يطل على قعره ومنه إلى الأسفل حيث الهاوية السحيقة التي ليس لها قرار، حين يطفح العبث واللآجدوى، ولكن اليقين هو ذلك الأرتداد الذي يعي واقع الأضطراب ويقنع بحتمية المعنى الكامن في القرار، الذي يجعل العقل في قمة التألق.!!
شعر بأنه مجرد كائن وحوله حلقة أو بمعنى آخر، حلقات هائلة من الفضاءات المختلفة.. فهو بهذا المعنى بات شعوره في وضع ساكن وسط هذه الفضاءات، وأدرك، على الفور أنه يدور في حركة هذه الفضاءات وليس العكس.. لأنه بات جزءاً منها.. وكلما اهتزت هذه الفضاءات من حوله أهتز هو الآخر، وكلما تحركت تحرك هو أو شعر بانه ينبغي عليه ان لا يكون ساكناً.. فحركته هي جزء من الحركة العامة التي تدور رحاها في الخارج.. هذا الشعور يجعله يدرك احياناً انه شيء ساكن في قلب الحركة.. فمن يحرك من ؟ هل هو يحرك الفضاء العام من حوله أم ان الفضاء العام هو الذي يجبره على الحركة أم كليهما في دوامة الحركة التي لا قرار لها؟
والحقيقة التي استخلصها من خلال إدراكه العقلي، باعتباره كائناً عقلياً في محيط يجده غير عاقل، وهو على الرغم من كونه جزء من هذا المحيط فمن الصعب ان يعيش في خارجه أو بدونه.. غير قادر على تغييره وإعادة تكييفه أو تشكيله بالشكل الذي يجعل من هذا المحيط او الفضاء العام قادراً هو وغيره على إحتماله.. لأنه كائن متحرك وساكن في فضاء كما يراه ساكناً ومتحركاَ في آن.
وكليهما.. الحركة والسكون من متطلبات الوجود في كينونة وجودية لا تنفصم.. ومن الصعب تصور انفصام يحدث في وحدة الوجود الكلية.. والحركة يريد تغييرها العقل الأنساني باتجاه الأشياء، من حالة نوعية الى حالة نوعية من نوع آخر.. يريد من خلالها إعادة تشكيل وجوده لكي يتمكن من إحتماله، ما دام الضجر هو جوهر السكون القاتل، الذي يحيطه في ذلك الفضاء الآمتناهي، كلما أمعن فيه وأدرك كنهه.
ويمكن الأفتراض بأن العقل البشري قد حقق تقدماً باهراً ويحاول أن يحقق الأكتفاء من خلال النجاحات.. والحقيقة الصارمة، ليس هناك أي نجاحات، لسببين اثنين. الأول: ما يبنيه العقل هو بناء مادياً محضاً يخلو من أي بناء يعزز قيم ألأخلاق. الثاني: ما يبنيه في قرون يهدمه في اسابيع أو شهور أو بضع سنين في فضاءات واسعة ينعدم فيها المعادل الأخلاقي والقيمي.. والمعنى في ذلك: أن الجهد الأنساني ينبغي أن ينصب على ضرورة أن يستعيد العقل الأنساني وعيه ويحكم مدركاته بين كفتي التوازن الضروري المادي والروحي في حضارة تحتضر على حافة القرن.
وفي غمرة هذا الواقع المر ينبغي التفتيش عن قاتل الحضارة.. وحتى الآن كان يفترض وجود سبب طبيعي ما حال دون توغله الى ما وراء نقطة معينة من عقله، حين أراد الغوص صوب ذلك القعر.. فالغوص صعب إلا إذا كان هناك توازناً في الثقل (القدرة) على الغوص وخاصة إذا كان المراد منه الغوص الى مسافات أعمق، عندئذٍ يتعين عليه ان يركز ثقلاً اضافياً.. وهو التركيز الذهني الحاد صوب تلك النقطة المحورية (الهدف).. والمهم كيف يمكن ان يجعل عقله أكثر ثقلاً كي يستطيع الغوص أكثر في أعماق ذاته..!! ويبدو ان الكثير من المحاولات تنتهي الى الفشل.. لقد بدأ يفكر بالأمر، وأدرك أن السبب الذي كان يمنعه من التوغل صوب الأعماق هو ضمور إحساسه بالهدف تدريجياً، وخاصة عندما يبدأ عقله يشعر بالخواء وإحساسه مدعاة للقلق.. وهذا ما يمنعه من بلوغ هدفه في الغوص نحو الفكرة.
لم يشعر بالهزيمة أو أن فكره قد خذله.. بدأ المحاولة حين استرخى وأغمض عينيه وراح يغوص في أعماق ذاكرته ودهاليزها.. ووجد صعوبة في اختراق بعض أماكنها.. ولكن يبدو أن لا شيء أمامه مظلماً، ولكنه قد يتعامى عن النظر إلى تلك البقع المظلمة التي لا يريد الأفصاح عنها حتى أمام نفسه.!!
وقد أدرك ان ما توصل اليه.. ان العالم يعيش اضطراباً عاماً في حركته، وهو لم يكن بعيداً عن محور الأضطراب، وكان يشعر أحياناً انه يتعرض لعصف الحركة في ذهنه المشوش، حتى بات وضع السكون في جملته العصبية مرهون بإرتدادات هذا العصف.. وإن الأيجابي في ذلك هو أنه قد وجد نفسه يركز بصورة حادة حول طبيعة الطوفان الذي يضرب العالم، ليس في شكله فحسب، إنما في دوافعه ومسبباته، الأمر الذي جعله يراقب تلك الترددات الناتجة عن الزلزال، الذي ولد الطوفان بعقله المجرد.. وأنتج ان الحالة العامة تكمن في طبيعتها القائمة على إختلال التوازن.. ولولا هذا الاختلال لبقيت الاوضاع، الحالة العامة على ماهي عليه.. وهذا ما حدث بالضبط حين تحركت صفائح وانزلق تحتها وفوقها وفي جوانبها كل شيء.. وهذه الصفائح موجودة أساساً في كل شيء تقريباً.. وان الأكثر هشاشة هي الصفائح الموجودة في المجتمع والاقتصاد والثقافة والدين.!!
شعر بأن عقله قد بلغ مستوى الأرهاق وخاف على نفسه ان يصل به إلى درجة التشويش الكامل فقرر أن يغلق المسالك السابقة لوعيه لكي يستريح قليلاً من عناء التفكير، بعد أن رجع من ذلك العمق السحيق.. ثم استسلم للنوم وأغمض عينيه ونام.. ولكن عقله الباطن ظل يقظاً يعبث ويفتش عن مسالك أخرى للظهور.!!
***
قصة قصيرة: د. جودت العاني
15/ 2 / 2024