نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: ظن يقاوم كفرا...
أزيد من ثلاثة اشهروطبيبته غائبة عن عيادتها حتى هاتفها الخاص يرن ولا ترد ..
بعد أن يئس من لقائها من اجل فحص دوري إثر أعراض بدأت تنتابه آلاما في صدره ارسل اليها رسالة على الواتساب:
"قلق لغيابك وقد حاولت التواصل معك دون جدوى، أشكو أعراضا مقلقة، هل تنصحينني بطبيب أزوره "..
بعد عشردقائق أتى ردها: " نلتقي بعد نصف ساعة في العيادة .."
انخلع قلبه لما رآها، وجه شاحب برزت عظامه كأن صاحبته تعاني جوعا وفقرا، أو مرضا خطيرا، عيون غاصت في وقبها، وهزال فظيع يلف جسدا ألفه بضا نضر المحيا ..
استغراق في وجوم استغرابا مما يرى، تسلُّه الطبيبة من انذهاله:
ـ أدخل بسرعة ..
يرتمى على أول أريكة تصادفه، متقطع الانفاس، ألف وسواس خناس يحفر في صدره ..
"من حول أنثى بشوش ضحوك بوجه كالقمرضياء وجمالا الى شبه هيكل عظمي بلا روح؟ "
من عينيها أتى الرد دفاقا كأمطار مارس ..
ـ هل تدري ما دفعني الى لقائك ؟ قبس من ثقة أجاهد على ألا يضيع مني بعد أن صارت الحياة حربا تصر على ان نتحمل مسؤولية مصيرنا ، وألا نثق حد الغباء بكل من يلوك لنا عسلا كونه يتفهم حياتنا ويشفق على الظروف التي ولدتنا بلا اختيار منا.. إحساسي بإنسانية أستشعرها فيك هي ايماني بأن ظني مازال يقاوم كفري ببقية مبادئ تتحرك في دواخلي ، أعاند حقيقتي حتى لا تموت كما ماتت قيم غيرها ..
حاول ان يبلع ريقه فوجد حلقه حصرما و شوكا من قتاد ضاعف من آلام صدره .. بادرته بحبة دواء تناولها قبل أن يشرع في إعادة استخراج كلماته وكانه يقتلعها بكلاب من بين شفتيه:
ـ ما بك دكتورة؟ أية علة قد حولتك الى هيكل ذاوٍ وجسم منهوك ؟..
مد كفيه اليها يتلمس يديها المعروقتين، عنهما غابت طراوة ورقة كم تحسسها حين كان يجد نفسه بين يديها على سريرالفحص، لم تمانع، فقد تركت يديها تستريحان بين راحتيه وكأنها تبحث عن أثر من حنان مفقود؛ بين دموعها قالت:
ـ احتقرني اللئيم، أذلني بعد أن رفعت كل حدوده فوق عالمه الضحل الحقير، لعب عليَّ دور الضحية و استغل ثقتي به فزور عني توكيلا وسطا على كل مدخراتي ثم فر هاربا الى حيث لا أدري ..
ـ دكتورة، استكيني، يلزم أن تهدئي حتى أستوعب كل ما تقولين، أنت بسمعتك وقدراتك تستطيعين استرجاع كل ما ضاع ..المال ولا الابدان دكتورة ..
لها ترتفع حشرجة يضمها الى صدره ويتوسلها أن تهدأ، قنينة ماء كانت فوق طاولة صغيرة ، يفتحها، يبلل يسراه ويمسح بها على وجهها، يصمت ليفسح لها مجالا للهدوء قبل أن تتابع حكيها ..
ـ بلغت السادسة ابتدائي وأنا لا اعرف من أسرتي الا جدي وجدتي، في كنفهما قد تربيت بعد ان مات أبوي اثرزلزال في منطقة الحوز. هذا ما كان يملأعقلي وبه كنت واثقة، أعيش في أمن وأمان، بل غرة أومن بما حولي ..
استدعتني صديقة ذات يوم عطلة الى بيتها لنراجع معا واساعدها على حل بعض التمارين الرياضية، حين قدمتني لأمها اثارتني حركة من هذه تبدت كأنها احتقار لي، وقبل أن أخرج من بيت صديقتي استغربت من سلوك ثانٍ صدر عن نفس المرأة حيث كانت وراء بنتها تحثها بالقول:
ـ سدي الباب وادخلي، الم تجدي غير اللقيطات تصاحبينهن ؟ !!..
احسست غصة حارقة وندم شديد على قبول دعوة صديقتي ..
عدت الى بيتي وانا اتلظى على ناركاوية حتى أعرف خلفيات ما سمعت بعد أن انتهكت أم صديقتي كل انسجام وتوازن بيني وبين وجودي ..
جدتي استشاطت غضبا وقالت:
ماذا يمكن أن ننتظر من عاهرة ساقطة كل سكان الحي يعرفون اصلها وفصلها .
جدي حوقل واكتفى بالقول:
حسبنا الله ونعم الوكيل ..
توقفت علاقتي بصديقتي لكن أغلب تلميذات المدرسة جعلن مني عنصرا نتنا وعني قد ابتعدن ..
مع الأيام أصررت على معرفة الحقيقة ..
"في هذا العمى والجهل لن أعيش"..
امتنعت عن الذهاب الى المدرسة امتناعي عن الاكل والشرب، هددت بالانتحار.. جدتي قبل وفاتها بأيام أطلعتني على الحقيقة كوني مجرد طفلة وجدني زوجها في لفات من خرق بباب مسجد الحي ..
ـ"أنا من ربيت وسهرت ـ حبيبتي ـ علمت وشكلت حياتك، هل قصرت يوما في حقك أو تقاعست في واجب نحوك ؟..تحملين لقب جدك بثبوتات لا لبس فيها ولا خوف من مستقبل ..
جدي كان بي رحيما، عاملني بكل ما يشرح الصدر ويخفف من معاناة القهر التي صارت تلازمني، أخذني الى طبيب نفسي خوفا علي من مضاعفات قد تأتي على تفوقي المدرسي ومستقبل حياتي وما كان يحرص على أن أحققه كرغبة تعايشه ولها يرجو ..
استطاع الطبيب بعد عدة جلسات أن يعيد الي اطمئناني النفسي، وتمكنت من استرجاع قدرة التحكم في حركاتي وانتباهي، تجاوزت لحظات عصيبة بأن ارتفعت الى سمو من النفس وثقة بواقعي كحب يخرج من نفسي واليها يعود ..
وبصراحة فقد شرعت مع توالي الشهور والأعوام استعيد قدراتي الدراسية فحصلت على البكالوريا بتفوق وانتميت الى كلية الطب حيث تعرفت على زوجي وهو تونسي الجنسية ..
كان تاريخ حياة زوجي أحسن من تاريخي نصاعة فقد تربى في ميتم بعد أن فقد أبويه في مظاهرات عمالية ـ هكذا ادعى ـ ثم تكفل به مغربي كان شريكا لأبيه، كانا معا يفتحان معملا لخياطة الألبسة العصرية ، بعد انتخابات في تونس وجد كفيل زوجي نفسه محاصرا بديكتاتورية جديدة شرعت تهيمن على الحياة التونسية وبعد تحريض من دولة حاقدة على المغرب خشي كفيله على نفسه ورزقه وعلى الطفل الذي يرعاه ففضل العودة الى وطنه وفيه تابع زوجي دراسته الثانوية ثم العليا في كلية الطب..
ولأن حياتنا من تقليعة واحدة فقد وثقت به ثقة عمياء.. ربما لانه كان بالحياة خبير أكثر مني، فما كان يحكيه عن مقالب دار الأيتام مكنه بحيل ما كان يداري به حقيقته ..أو ربما أنا من تعاميت وصدقت أكثر من كذبة ثم سامحت بعد تكرار خياناته مع عينة من مريضات كن لا يغبن عن المستشفى العمومي الذي بدا فيه حياته العملية قبل أن يلتحق بعيادتي ..
تزوجنا كما أراد بلا حفل ولا ضجة أفراح وفتحنا معا عيادة واحدة بما تركه جدي وصية في اسمي ثم ما لبثنا ان افترقنا بحجة توسيع مشروعنا، اقنعني بعدها ان يكتب كل منا توكيلا للاخرللتصرف المرن.
أخطاء ارتكبتها مغمضة العينين مسحورة بلسانه مغيبة بدهائه الثعلبي ..
من أربعة أشهر ودعني بحجة السفر الى البرازيل لحضور إحدى المؤتمرات ، بعد غياب دام خمسة أيام بلا رسالة ولاهاتف قلقت الى ان وصلتني رسالة على الوات ساب:
"أنت طالق، سيقوم محام بإتمام الإجراءات "
بحث عن بطائقي البنكية وشواهدي وكل اثر لي فلم أجد الا الغبار، بعد هاتف لادارة بنكي ادركت الكارثة التي حلت بي .. متى حول كل ما املك الى حسابه الخاص ؟ .. وكيف ؟ ..ومن ساعده على ذلك ؟..
من يومها وانا وحيدة في البيت لا أجد ما اسد به الرمق، لا اصحو الا لأغيب من غبن وحسرة ندم على غباء هو ثقتي الزائدة فيه ..
من جديد تنتكس عللي فيتفجر صدري من الخوف وعدم الشعور بالأمان منذ حادثة الطفولة، وأن ما كنت أخفيه من جروح اصلي ومن أكون عن مجتمع لا يرحم، وما كنت ارتديه مع الناس، لم يكن غير قناع لم أكن أستريح منه الا مع ياسر زوجي الذي برع في تخديري حين كنت أجد نفسي معه، وما فكرت يوما أن إعصارجراح الخيانة قد تعصف بي من ناحيته. كيف تمرد ووأد كل حب حملته اليه وكل تضحية بادرت بها لأسعده حتى أجعل منه رجلا يملك ثقة غيره وشهرة بين زملاء مهنتنا ؟..
كم من عين شامتة لم اعرها انتباها وكم من نظرة تحذير واجهتني بها مساعدة في العيادة وبها لم اهتم ولم أحترس.. أنا بثقتي الزائدة وغبائي الأسود قد جنيت على نفسي ..
مرة أخرى تهتز، يخنقها النحيب فيضمها الى صدره، يبلل وجهها بماء الى أن تستكين قليلا ..
يصر على ان ترافقه الى مطعم رغم اعتراضها، غايته مباشرة اتصال مع غيرها اتصالا يحقق لها بعض التوازن بلا خوف مما صار يباغثها من الناس ..
بعد الغذاء صاحبها الى مكتب الوكيل العام حيث قدمت شكاية بزوجها بناء على ما تعرفه عنه من معلومات .. تنبه الوكيل العام ان الاسم الذي قدمته اليه لم تكن هي الأولى التي تعلن عنه خلال هذا الشهر، فقد ورد في محضر قبلها عن السرقة والتعدي على أحد الأصول..
شرعت تستقبل الزبائن في عيادتها، كان يساعدها بكل ما يستطيعه من قوة وعزم ومثابرة ، رغم إحساسه بأنها كثيرا ما كانت تحاول الهروب منه .. يحس ألمها، جروح ما تعانيه وما استعادته من طفولتها ومن زوج وهبته كل شيء فخان ثقتها، يدرك أنها صارت تقيس تعاطفه معها بما يقدمه لها من مساعدة، حذرة مما قد يأتي، تدقق في كل ما يتلفظ به ومن كل وثيقة تتسلمها منه ..
كان همه أن يحسسها أنها محبوبة ومرغوبة لذاتها لا لانتمائها المهني ولا الى أصولها، وحب الغير اليها لا يعفيها من حزم وتمحيص وانتباه ..
انتدب لها إحدى قريباته أنثى يتيمة، كمؤنس لها ورفيقة، فانشغلت الطبيبة بتدريبها ليلا بما يجب عمله نهارا في العيادة، صارتا معا صديقتين كلاهما قد وجدت ضالتها في الأخرى ..
كان يصر على أن تستعيد حقها من بسمات منها قد ضاعت وأن تستعيد بناء مدماك حياتها كونها قادرة على إعادة تحقيق ماتريد من أهداف بلا مساعدة من أحد فما تتسلح به من علم وراحة نفسية يوفرلها أسبابها، وطموح هو نجاحها في بناء ثقة تعتمد فيها على دراستها وخبراتها كونها قادرة رغم ماض من رماد وما صادفها من فشل أن تعيد بناء حياتها في استقلالية تنمي سعادتها كانسان قادر ان يتكيف مع كل وضع جديد ..
من مساعدتها اليتيمة كانت تلتقط وبدقة كل شيء عن ماضي رجل تحول من زبون عاد الى فاعل مؤثر في حياتها، استطاعت من المساعدة أن تتعرف على خصوصيات عائلة زبونها، عن وفائه لزوجته التي توفيت من خمسة أعوام ويرفض ان يرى لها في البيت بديلا ..
صارت لا تختار أوقات راحتها الا وهو معها وكأن راحتها النفسية أمست مقرونة بوجوده معها ..
قالت له يوما:
ـ فيك قد اكتشفت حكمة، قدرة التمرد على واقع جامد وتحويله الى جديد متحرك ..
تبسم من قولها وقال:
ـ الحياة لا تبتغي الجمود وغايتنا فيها أن نصل جوهر وجودنا ولا يتم هذا الا بالعمل والحركة والتغير المستمر ..هكذا يبني الانسان أناه ..
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب